رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
محمد الشطيصدرت توقعات سكرتارية منظمة الأوبك لشهر نوفمبر 2014 وقد اشتملت التوقعات على جملة من المؤشرات الإيجابية، وسأحاول هنا أن أتناول بعضاً منها في وقت نحتاج أن نراجع معطيات السوق بعناية وسط تراجع أسعار النفط من دون وضوح للأسباب الحقيقية وراء ذلك، وربما تغافل عنها المراقبون وهو من الأمور التي أسهمت في ضعف السوق النفطية حالياً بشكل أكبر مما يعكس أساسيات السوق.
رغم تحدث جميع المراقبين عن اختلال ميزان الطلب والعرض وما يعني ذلك من بناء كبير في المخزون، ولكن متوسط المخزون النفطي في البلدان الصناعية مع نهاية شهر سبتمبر 2014 بلغ 2.719 مليون برميل، وهو يمثل ارتفاع بمقدار 8.1 مليون برميل أعلى من متوسط الخمس سنوات الماضية، أو ما يقارب من 58.7 يوم لكفاية الطلب وهو فقط 0.4 يوم أعلى من متوسط الخمس سنوات السابقة، وكل هذا يعني في الجملة أن وضع المخزون ليس مرتفعاً بشكل يفسر هبوط أسعار النفط، بل على العكس وضع المخزون قد يكون مريحا نسبياً حالياً.
يتوقع التقرير أن يكون الطلب على نفط الأوبك خلال الأشهر أكتوبر 2014 – ديسمبر 2014 عند 30.15 مليون برميل يوميا، وإذا ما تمت مقارنة ذلك مع إنتاج أوبك فعلياً خلال شهر أكتوبر 2014 عند 30.25 مليون برميل يوميا حسب مصادر السوق المعتمدة لدى الأوبك، فإن ذلك يعني فائضا بمقدار 100 ألف برميل يومياً، وهو أيضاً لا يمكن أن يفسر الهبوط لأسعار نفط خام برنت خلال شهر أكتوبر من 94.61 دولار للبرميل في بداية الشهر إلى دون 80 دولارا للبرميل يعني قريبا من 16 دولارا للبرميل، ولذلك يأتي التفسير أن هذا الهبوط يجب أن يعزى إلى أمور أخرى وبالذات تتعلق بنشاط كبير للمضاربين في الأسواق الآجلة والذين يتسمون بالخوف والإسراع إلى الخروج والبيع واستهداف أقل الخسائر.
هناك سحب حقيقي من المعروض من النفط الخام من سوق النفط فقد انخفض إنتاج ليبيا من النفط الخام من أعلى مستوى وصل إليه وهو 1 مليون برميل يوميا في بداية شهر أكتوبر 2014 ووصل إلى 540 ألف برميل يومياً في منتصف شهر نوفمبر 2014، وهو ما يعني خفضا فعليا بمقدار 460 ألف برميل يومياً، ولا يمكن أن يعتبر أحد ذلك كمية قليلة، كما يتحدث القطريون عن خفض في إنتاج النفط الخام من 800 ألف برميل يومياً في شهر سبتمبر 2014، إلى 650 ألف برميل يومياً خلال شهر أكتوبر 2014، إلى 500 ألف برميل يومياً خلال شهر نوفمبر 2014 وهي تخفيضات حقيقية وتعني سحب الفائض من السوق ولابد لذلك من تأثير على مستويات الأسعار إن كان المستهدف هو إعادة التوازن لسوق النفط وتحقيق التوازن.
كما يتوقع التقرير أن تشهد الزيادة السنوية من خارج الأوبك خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية تقلصاً ملحوظاً من 1.41 مليون برميل يوميا في عام 2014 مقارنة مع عام 2013، إلى 0.94 مليون برميل يومياً في عام 2015 مقارنة مع عام 2014، أي هبوط في الزيادة بمقدار 470 ألف برميل يومياً لعدة دواعي من بينها هبوط أسعار النفط، ولكن هذا النقص في الزيادة يساعد في تحقيق توازن السوق النفطية.
خلافاً لعدد كبير من التوقعات، فإن التقرير الصادر يتوقع متوسط الزيادة في الطلب العالمي على النفط خلال عام 2014 طبيعيا عند 1.05 مليون برميل يوميا، وأن الطلب على النفط في الصين قد ارتفع بمقدار 340 ألف برميل يومياً خلال عام 2014، وبـ100 ألف برميل يومياً في الهند، ومع اقتراب انتهاء عام 2014 لا تملك إلا أن تصاب بحالة من الدهشة عندما تلاحظ الفروقات الكبيرة ما بين التوقعات وليست يسيرة حين تكون ما بين 600 ألف برميل يومياً و1 مليون برميل يومياً، وهذا أمر يحتاج إلى كثير من البحث والتحقق لأنه ينافي اختلال الميزان الكبير ما بين الطلب والعرض كما قام بتصويره العديد من التوقعات، وفي هذا فإن مؤشر التوسع الصناعي في العالم شهد تناميا خلال شهر أكتوبر وهو ما يؤكد تعافياً تدريجياً في أداء الاقتصاد في العالم، ويدعم تحسن مستوى الطلب العالمي على النفط.
ومن الأمور الإيجابية التي يتناولها التقرير هو الطلب على نفط الأوبك خلال النصف الثاني من عام 2015، والذي يقترب من 30 مليون برميل يومياً السقف الإنتاجي الحالي للأوبك، ويشير إلى حالة من التوازن في أسواق النفط خلال النصف الثاني من عام 2015، أضف إلى ذلك أنه يعني توقع تعافي أسعار النفط خلال النصف الثاني من عام 2015 أمر معقول وقد استند إلى أدلة واضحة.
ولكن ميزان العرض والطلب يبدو يميل لزيادة في المعروض في سوق النفط خلال النصف الأول من عام 2015 حيث يقدر التقرير أن الطلب على نفط الأوبك يكون عند 28.45 مليون برميل يومياً، وهو ما يعني أن هناك فائضا في السوق بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً خلال النصف الأول، وهو أيضاً لا يبرر مستويات الأسعار الحالية، أجد نفسي أن مستوى أسعار برنت عند 85 دولارا للبرميل أو في أسوأ الأحوال عند 80 دولارا للبرميل ربما يكون أقرب إلى التعبير عن حالة الطلب والعرض ليس الحالية ولكن المتوقعة في النصف الأول من عام 2015، وبالتالي حقيقة لا يوجد سبب حقيقي لهبوط الأسعار الحالي إذا ما اتفقنا على أن توازن السوق خلال الربع الرابع من عام 2014 كما يصور ذلك تقرير أوبك بالنظر إلى الطلب على نفط الأوبك مقابل الإنتاج الفعلي كما أسلفت في البداية.
وعندما نضيف إلى الصورة، تحرك المخزون النفطي الطبيعي خلال السنوات الماضية، فإن ذلك يعني بناء في المخزون النفطي خلال النصف الأول عند 400 ألف برميل يومياً، وهو ما يعني أن إنتاج أوبك عند 29 مليون برميل يومياً خلال النصف الأول من عام 2015 يحقق توازن السوق النفطية وهو يمثل خفضا من السقف الإنتاجي بمقدار 1 مليون برميل يومياً ويدعم تعافي الأسعار.
وفي النهاية، لابد من التنبه إلى أمور أهمها التصريحات التي خرجت عن معالي وزراء نفط الأوبك، والتحركات التي يتحدث عنها السوق لبعض الوزراء تؤكد أن الجميع مهتم لاستقرار الأسواق والأسعار ويعمل وفق إطار المسؤولية لاستعادة توازن السوق بعيدا عن أي حروب مزعومة للأسعار وبالتالي من المنطقي أن يتم تقييم جهود ما قبل المؤتمر بأنها ستكون من أجل ضمان مؤتمر ناجح للأوبك في 27 نوفمبر 2014 يؤكد دور الأوبك في ضبط إيقاع السوق، كما لابد من الاعتراف بأن مسؤولية استقرار الأسواق هي مسؤولية جماعية للمنتجين كافة، خصوصا في ظل العديد من التحذيرات والتي عبر عنها العديد من رؤساء الشركات النفطية والتي مفادها أن الطلب في ارتفاع وهناك حاجة ضرورية لتطوير نفط جديد وهذا يحتاج إلى أسعار مقبولة وعالية نسبياً، في الغالب المتضرر من ضعف الأسعار الجميع رغم الاتفاق أنه بدرجات متفاوتة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
3504
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
2928
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
2838
| 29 سبتمبر 2025