رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
- إنجازاتنا الكبرى في قطر والتي نفاخر بها شرقاً وغرباً هي صناعة الإنسان
- شعار اليوم الوطني ترجمة فعلية لاهتمام سمو الأمير بالإنسان وتعظيم دوره
- في يومنا الوطني نجدد الولاء والانتماء والتأكيد على التمسك بالقيم والمبادئ التي تربينا عليها
- على الدوام تعظيم دور الإنسان وإعطاؤه الأولوية والاستثمار فيه هو المحرك والباعث لقيادة هذا الوطن
- كمواطنين علينا مسؤوليات كبرى تجاه الوطن وقيادته والالتزام بالقيم والمبادئ التي قام عليها الوطن
يمثل 18 ديسمبر محطة مهمة في تاريخ هذا الوطن، عبر مسيرة حافلة من العطاءات، أسست لبزوغ فجر جديد انبثق مع تأسيس كيان الدولة الرسمي في 18 ديسمبر 1878 على يد المؤسس المغفور له إن شاء الله الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني، الذي التف حوله أهل قطر، وأجمعوا على قيادته لمسيرة هذا الوطن، الذي رسخ العدل والشورى وتعزيز الوحدة الوطنية، التي ظلت على الدوام مصدر قوة بعد الله عز وجل في مواجهة كل التحديات، وتخطي كل العقبات، والمضي قدما في بناء صرح هذا الوطن، جيلا بعد جيل، تحت قيادة حكيمة واعية رشيدة.
اليوم، ونحن نحتفل بيومنا الوطني، نستذكر هذه العطاءات والتضحيات لرجالات قطر، الذين كانوا ـ ولا يزالون ـ مصدر فخر واعتزاز بهم، وعلى أثرهم نقتدي وتقتدي أجيال هذا الوطن، الذين يتشربون في كل لحظة من لحظات حياتهم وأعمارهم حب الوطن، والانتماء له، والولاء لقيادته، والسير على نهج الآباء والأجداد، لا مبدلين ولا مغيرين.
نعتز بيومنا الوطني ـ وكل أيامنا وطنية ـ ونفاخر به بين الأمم، ونجدد فيه الولاء والانتماء والتأكيد على التمسك بالقيم والمبادئ التي تربينا عليها، وغرسها فينا هذا الوطن، بقيادته الحكيمة وسير رجالاته الأوفياء.
في اليوم الوطني لا نتحدث عن إنجازات مادية ومكتسبات عمرانية وبنى تحتية، وإن كان كل ذلك وغيره نفاخر فيه، ونتحدث عنه أمام العالم، لكن قبل ذلك كله نتحدث عن اللُّحمة الوطنية التي يعيشها أهل قطر، وعلاقة بعضهم ببعض، وعلاقة الحاكم مع شعبه الوفي، فهي كما قال حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، في خطابه التاريخي أمام مجلس الشورى في دور انعقاده العام الماضي 2024 «إن علاقة الشعب بالحكم في قطر هي علاقة أهلية مباشرة، وثمة أعراف وآليات معروفة للتواصل المباشر بين الشعب والحكم».. «كلنا في قطر أهل».
إنجازاتنا الكبرى في قطر والتي نفاخر بها شرقاً وغرباً هي صناعة الإنسان، الذي تبذل قيادة هذا الوطن الغالي والنفيس من أجله، ويتصدر الأولويات في كل المشاريع والمبادرات والموازنات، وتعمل على تسخير كل الإمكانات من أجل تنميته وتقدمه، وتستثمر في بنائه وتكوينه كل ما لديها، فهو الثروة الحقيقية في هذا الوطن.
وربما واحد من الشواهد على مدى التركيز على الإنسان في هذا الوطن، ما يحمله شعار اليوم الوطني هذا العام، وهو «بكم تعلو ومنكم تنتظر»، وهو جزء من كلمة لسمو الأمير المفدى حفظه الله ورعاه، وهو اهتمام دائم من سموه بالإنسان، تترجمه الأفعال على الأرض عبر هذه المشاريع الجبارة التي تستهدف توفير بيئة أكثر ملاءمة للعطاء والإبداع.
شعار هذا العام فيه تعظيم لدور المواطن، الذي تستثمر فيه الدولة الشيء الكثير، وفي المقابل تنتظر منه عطاءات في كل المجالات، من أجل تنمية وازدهار هذا الوطن، فالأوطان تبنى بالأفعال، وتتقدم بالأعمال، وتزدهر بعطاءات الأجيال نساء ورجالا.
على الدوام كان تعظيم دور الإنسان، وإعطاؤه الأولوية، والاستثمار فيه، هو المحرك والباعث لقيادة هذا الوطن منذ المؤسس رحمه الله، وحتى اللحظة في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، حفظه الله ورعاه، الذي لا يدخر جهدا، في سبيل توفير كل الإمكانات لأبناء هذا الوطن، بناءً فكرياً وصحياً وتعليمياً وثقافياً ورياضياً.. بحيث يكونون محصنين ضد أي استهدافات في ظل العولمة والفضاء المفتوح وتشابك العالم بعضه ببعض.
هذه الجهود الكبيرة، والاستثمار المبني على أسس متينة، والتي تستهدف بناء الإنسان، وتوفر له البيئات المتكاملة، تفرض علينا كمواطنين مسؤوليات كبرى تجاه الوطن وقيادته، والالتزام بالقيم والمبادئ التي قام عليها الوطن، وبذل المزيد من الجهود والعطاء من أجل مواصلة مسيرة التنمية الشاملة، فقطر، كما قال سمو الأمير المفدى، تستحق الأفضل من أبنائها.
الأفضل في البناء والعطاء والالتزام والعمل والخلق والقيم والمبادئ والتواضع والتسامح والتعاضد والتكاتف.. فهكذا عُرِفَ أهل قطر عبر التاريخ، فلم يطلق على قطر أنها «كعبة المضيوم» جزافاً، إلا لأنها كذلك بالفعل، عبر مواقف مشرفة لازالت خالدة في التاريخ.
في اليوم الوطني تتجدد الروح الوطنية، وتتوقد المشاعر حباً وانتماءً وولاءً وعطاءً.. لوطن يسكننا، ويعطي دافعاً لمواصلة المسير دون كلل أو ملل طوال العام.
نحتفل بيومنا الوطني عبر فعاليات متعددة، تحمل رسائل ومضامين تعبر عن قطر وتاريخها، ثم تتوج بالمسير الوطني، الذي تلتقي فيه كل قطاعات الدولة والمجتمع جنبا إلى جنب، في صورة متألقة تجسد روح الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن، ويتقدم الحضور سمو الأمير المفدى حفظه الله ورعاه وسدد على طريق الخير خطاه، في صورة تبرز التلاحم القائم بين القائد وشعبه.
صور التلاحم بين القائد وشعبه نشاهدها في كل زاوية من زوايا الوطن، وكل مناسبة من مناسبات أبنائه، وكل احتفال من احتفالات الوطن، فبالأمس كان سمو الأمير المفدى حفظه الله ورعاه يشارك أبناء شعبه عرضة «هل قطر» احتفالا باليوم الوطني.
وتأبى قطر أن تحتفل بيومها الوطني وحدها، فها هي تستضيف الأشقاء من كل الدول العربية في احتفالية كروية تجمع الشعوب العربية على أرضها في هذه الأيام، ويختتم هذا العرس العربي باليوم الوطني لدولة قطر، وهي رسالة قدمتها قطر أن الشعوب العربية تتشارك الأفراح معا.
احتفالنا باليوم الوطني هو تجديد وتحفيز لمزيد من العطاء في مسيرة هذا الوطن المعطاء، وشحذ للهمم، هو ترجمة عملية لحبنا ومدى ارتباطنا بوطننا وقيادتنا، هو تجسيد لروح الترابط والتلاحم القائم بين أهل قطر...
كل عام وهذا الوطن وقيادته وشعبه بمواطنيه ومقيميه بألف خير وبأمن وأمان ومزيد من التقدم والازدهار.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة ضرورية للطلبة والأسر، لكنها في الوقت ذاته تُعد محطة حساسة تتطلب قدراً عالياً من الوعي في كيفية التعامل معها. فهذه الإجازات، على قِصر مدتها، قد تكون عاملاً مساعداً على تجديد النشاط الذهني والنفسي، وقد تتحول إن أُسيء استغلالها إلى سبب مباشر في تراجع التحصيل الدراسي وصعوبة العودة إلى النسق التعليمي المعتاد. من الطبيعي أن يشعر الأبناء برغبة في كسر الروتين المدرسي، وأن يطالبوا بالسفر والتغيير، غير أن الانصياع التام لهذه الرغبات دون النظر إلى طبيعة المرحلة الدراسية وتوقيتها يحمل في طياته مخاطر تربوية لا يمكن تجاهلها. فالسفر إلى دول تختلف بيئتها ومناخها وثقافتها عن بيئتنا، وفي وقت قصير ومزدحم دراسياً، يؤدي غالباً إلى انفصال ذهني كامل عن أجواء الدراسة، ويضع الطالب في حالة من التشتت يصعب تجاوزها سريعاً عند العودة. توقيت الإجازة وأثره المباشر على المسار الدراسي التجربة التربوية تؤكد أن الطالب بعد الإجازات القصيرة التي تتخلل العام الدراسي يحتاج إلى قدر من الاستقرار والروتين، لا إلى مزيد من التنقل والإرهاق الجسدي والذهني. فالسفر، مهما بدا ممتعاً، يفرض تغييرات في مواعيد النوم والاستيقاظ، ويُربك النظام الغذائي، ويُضعف الالتزام بالواجبات والمتابعة الدراسية، وهو ما ينعكس لاحقاً على مستوى التركيز داخل الصف، ويجعل العودة إلى الإيقاع المدرسي عملية بطيئة ومجهدة. وتكمن الخطورة الحقيقية في أن هذه الإجازات لا تمنح الطالب الوقت الكافي للتكيّف مرتين: مرة مع السفر، ومرة أخرى مع العودة إلى المدرسة. فيضيع جزء غير يسير من زمن الفصل الدراسي في محاولة استعادة النشاط الذهني والانخراط مجدداً في الدروس، وهو زمن ثمين كان الأولى الحفاظ عليه، خصوصاً في المراحل التي تكثر فيها الاختبارات والتقييمات. قطر وجهة سياحية غنية تناسب الإجازات القصيرة في المقابل، تمتلك دولة قطر بيئة مثالية لاستثمار هذه الإجازات القصيرة بشكل متوازن وذكي، فالأجواء الجميلة خلال معظم فترات العام، وتنوع الوجهات السياحية والترفيهية، من حدائق ومتنزهات وشواطئ ومراكز ثقافية وتراثية، تمنح الأسر خيارات واسعة لقضاء أوقات ممتعة دون الحاجة إلى مغادرة البلاد. وهي خيارات تحقق الترفيه المطلوب، وتُشعر الأبناء بالتجديد، دون أن تخلّ باستقرارهم النفسي والتعليمي. كما أن قضاء الإجازة داخل الوطن يتيح للأسرة المحافظة على جزء من الروتين اليومي، ويمنح الأبناء فرصة للعودة السلسة إلى مدارسهم دون صدمة التغيير المفاجئ. ويمكن للأسر أن توظف هذه الفترة في أنشطة خفيفة تعزز مهارات الأبناء، مثل القراءة، والرياضة، والأنشطة الثقافية، وزيارات الأماكن التعليمية والتراثية، بما يحقق فائدة مزدوجة: متعة الإجازة واستمرارية التحصيل. ترشيد الإنفاق خلال العام الدراسي ومن زاوية أخرى، فإن ترشيد الإنفاق خلال هذه الإجازات القصيرة يمثل بُعداً مهماً لا يقل أهمية عن البعد التربوي. فالسفر المتكرر خلال العام الدراسي يستهلك جزءاً كبيراً من ميزانية الأسرة، بينما يمكن ادخار هذه المبالغ وتوجيهها إلى إجازة صيفية طويلة، حيث يكون الطالب قد أنهى عامه الدراسي، وتصبح متطلبات الاسترخاء والسفر مبررة ومفيدة نفسياً وتعليمياً. الإجازة الصيفية، بطولها واتساع وقتها، هي الفرصة الأنسب للسفر البعيد، والتعرف على ثقافات جديدة، وخوض تجارب مختلفة دون ضغط دراسي أو التزامات تعليمية. حينها يستطيع الأبناء الاستمتاع بالسفر بكامل طاقتهم، وتعود الأسرة بذكريات جميلة دون القلق من تأثير ذلك على الأداء المدرسي. دور الأسرة في تحقيق التوازن بين الراحة والانضباط في المحصلة، ليست المشكلة في الإجازة ذاتها، بل في كيفية إدارتها، فالإجازات التي تقع في منتصف العام الدراسي ينبغي أن تُفهم على أنها استراحة قصيرة لإعادة الشحن، لا قطيعة مع المسار التعليمي. ودور الأسرة هنا محوري في تحقيق هذا التوازن، من خلال توجيه الأبناء، وضبط رغباتهم، واتخاذ قرارات واعية تضع مصلحة الطالب التعليمية في المقام الأول، دون حرمانه من حقه في الترفيه والاستمتاع. كسرة أخيرة إن حسن استثمار هذه الإجازات يعكس نضجاً تربوياً، ووعياً بأن النجاح الدراسي لا يُبنى فقط داخل الصفوف، بل يبدأ من البيت، ومن قرارات تبدو بسيطة، لكنها تصنع فارقاً كبيراً في مستقبل الأبناء.
1632
| 24 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن عشر من ديسمبر، تتجدد في القلوب مشاعر الفخر والولاء والانتماء لدولة قطر، ونستحضر مسيرة وطنٍ بُني على القيم، والعدل، والإنسان، وكان ولا يزال نموذجًا في احتضان أبنائه جميعًا دون استثناء. فالولاء للوطن ليس شعارًا يُرفع، بل ممارسة يومية ومسؤولية نغرسها في نفوس أبنائنا منذ الصغر، ليكبروا وهم يشعرون بأن هذا الوطن لهم، وهم له. ويأتي الحديث عن أبنائنا من ذوي الإعاقة تأكيدًا على أنهم جزء أصيل من نسيج المجتمع القطري، لهم الحق الكامل في أن يعيشوا الهوية الوطنية ويفتخروا بانتمائهم، ويشاركوا في بناء وطنهم، كلٌ حسب قدراته وإمكاناته. فالوطن القوي هو الذي يؤمن بأن الاختلاف قوة، وأن التنوع ثراء، وأن الكرامة الإنسانية حق للجميع. إن تنمية الهوية الوطنية لدى الأبناء من ذوي الإعاقة تبدأ من الأسرة، حين نحدثهم عن الوطن بلغة بسيطة قريبة من قلوبهم، نعرّفهم بتاريخ قطر، برموزها، بقيمها، بعَلَمها، وبإنجازاتها، ونُشعرهم بأنهم شركاء في هذا المجد، لا متلقّين للرعاية فقط. فالكلمة الصادقة، والقدوة الحسنة، والاحتفال معهم بالمناسبات الوطنية، كلها أدوات تصنع الانتماء. كما تلعب المؤسسات التعليمية والمراكز المتخصصة دورًا محوريًا في تعزيز هذا الانتماء، من خلال أنشطة وطنية دامجة، ومناهج تراعي الفروق الفردية، وبرامج تُشعر الطفل من ذوي الإعاقة أنه حاضر، ومسموع، ومقدَّر. فالدمج الحقيقي لا يقتصر على الصفوف الدراسية، بل يمتد ليشمل الهوية، والمشاركة، والاحتفال بالوطن. ونحن في مركز الدوحة العالمي لذوي الإعاقة نحرص على تعزيز الهوية الوطنية لدى أبنائنا من ذوي الإعاقة من خلال احتفال وطني كبير نجسّد فيه معاني الانتماء والولاء بصورة عملية وقريبة من قلوبهم. حيث نُشرك أبناءنا في أجواء اليوم الوطني عبر ارتداء الزي القطري التقليدي، وتزيين المكان بأعلام دولة قطر، وتوزيع الأعلام والهدايا التذكارية، بما يعزز شعور الفخر والاعتزاز بالوطن. كما نُحيي رقصة العرضة القطرية (الرزيف) بطريقة تتناسب مع قدرات الأطفال، ونُعرّفهم بالموروث الشعبي من خلال تقديم المأكولات الشعبية القطرية، إلى جانب تنظيم مسابقات وأنشطة وطنية تفاعلية تشجّع المشاركة، وتنمّي روح الانتماء بأسلوب مرح وبسيط. ومن خلال هذه الفعاليات، نؤكد لأبنائنا أن الوطن يعيش في تفاصيلهم اليومية، وأن الاحتفال به ليس مجرد مناسبة، بل شعور يُزرع في القلب ويترجم إلى سلوك وهوية راسخة. ولا يمكن إغفال دور المجتمع والإعلام في تقديم صورة إيجابية عن الأشخاص ذوي الإعاقة، وإبراز نماذج ناجحة ومُلهمة منهم، مما يعزز شعورهم بالفخر بذواتهم وبوطنهم، ويكسر الصور النمطية، ويؤكد أن كل مواطن قادر على العطاء حين تتوفر له الفرصة. وفي اليوم الوطني المجيد، نؤكد أن الولاء للوطن مسؤولية مشتركة، وأن غرس الهوية الوطنية في نفوس أبنائنا من ذوي الإعاقة هو استثمار في مستقبل أكثر شمولًا وإنسانية. فهؤلاء الأبناء ليسوا على هامش الوطن، بل في قلبه، يحملون الحب ذاته، ويستحقون الفرص ذاتها، ويشاركون في مسيرته كلٌ بطريقته. حفظ الله قطر، قيادةً وشعبًا، وجعلها دائمًا وطنًا يحتضن جميع أبنائه… لكل القدرات، ولكل القلوب التي تنبض بحب الوطن كل عام وقطر بخير دام عزّها، ودام مجدها، ودام قائدها وشعبها فخرًا للأمة.
1113
| 22 ديسمبر 2025
«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا». يؤصل ابن خلدون في تاريخه بهذه العبارة، قاعدة بالغة الأهمية في دراسة التاريخ، مفادها أن استدعاء صفحات الماضي والنظر في التاريخ، لا يكون بغرض التسلية بحكايات الغابرين، ولا للانحباس في حالة انبهار بصفحات مجد تليد، إنما هو أداة لتغيير الحاضر والتهيئة لتحديات المستقبل. لكن أمتنا قد دبّ فيها داء الهروب إلى التاريخ، نعم نحن نهرب من مواجهة واقعنا باستدعاء التاريخ وأمجاده والاكتفاء بذلك، فهي حيلة نفسية نواري بها عجزنا عن مسايرة الغرب الذي أخذ بأسباب القوة والتقدم بينما توقفنا نحن عند حدود الماضي، وأسعد بلادنا حظًا من قطعت بضع خطوات في مجالات محددة، دون أن تكون هناك نهضة شاملة تجعلها على قدم المساواة مع وحوش العالم. نحن نعاني فوضى التفاخر بالماضي، أصبح المجد السابق هو بضاعتنا في التعريف بأنفسنا، مع أن التفاخر بالتاريخ لن يدفع عجلة الاقتصاد، ولن يحل المشكلات والأزمات الاجتماعية، ولن يسهم في التطور التقني والتكنولوجي، ولن يجعل القوى العسكرية في مصاف القوى الكبرى. ما فائدة أن يتراشق أهل كل بلد من بلدان الأمة بسالف أمرها، هذا يتفاخر على هذا بأن له حضارة عمرها كذا ألف سنة، وهذا يتفاخر على ذاك بأن أجداده هم من اخترعوا كذا، وأصبحت كلمة «كنا، وكنا» ديباجة في خطاب الشعوب. أجدادكم فعلوا، فماذا فعلتم أنتم؟ كان هذا ماضيكم فأين حاضركم؟ ليست المشكلة في أن تعتزّ الأمم بتاريخها، فالتاريخ هو الذاكرة الجماعية والرصيد الرمزي الذي يمنح الشعوب هويتها ومعناها، لكن المعضلة الكبرى التي تعانيها أمتنا تكمن في أنّها حبست نفسها داخل الماضي، واكتفت بالنظر إلى تاريخها المجيد نظرة تمجيد وتقديس، دون أن تحوّل هذا التاريخ إلى مصدر للعبرة، أو إلى جسر يعينها على فهم واقعها ومواجهة تحديات عصرها والعبور بثقة نحو المستقبل. لقد علّمنا التاريخ ذاته أن الحضارة لا تُورّث، وأن المجد لا يُستعاد بالتغنّي به، بل بالعمل وفق السنن التي أقامته أول مرة: العلم، والعمل، والهوية، فأسلافنا لم يتقدموا لأنهم عاشوا على أمجاد من سبقهم، بل لأنهم واجهوا واقعهم بشجاعة، وأبدعوا حلولًا تناسب زمانهم، واستثمروا معارف الأمم الأخرى. إنّ أخطر ما تواجهه أمتنا اليوم هو تحويل الماضي إلى بديل عن الحاضر، وإلى مبرر للعجز بدل أن يكون دافعًا للنهوض. فالعالم من حولنا يتغيّر بسرعة هائلة، تُقاس فيها قوة الأمم بقدرتها على الابتكار، وعلى استيعاب التحولات العلمية والتكنولوجية، بينما لا تزال كثير من مجتمعاتنا أسيرة النظر المجرد إلى الماضي انبهارًا واكتفاءً. التذكير بالماضي والأجداد العظام يفلح فحسب مع من يعتبر بذلك الماضي ويتخذ منه نبراسًا ويقتبس منه ما يضيء به الطريق نحو المستقبل المزهر، وهذا هو منهج القرآن الكريم، فهو يذكر بتاريخ الأمم السابقة التي هلكت رغم إغراقها في النعم وأوجه التقدم بسبب حيدتها عن طريق الله، يذكر بذلك من أجل الاتعاظ والاعتبار بأن القوة لابد وأن تُساس بالمنهج الإلهي. يذكرنا القرآن الكريم بالتاريخ المشرق والأجداد العظام حتى نسير سيرهم ونحذو حذوهم لا لنقف عند قول الشاعر: أولئك آبائي فجئني بمثلهم، إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ. فالله تعالى يقول في سورة الإسراء: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وحولها يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: «تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح. فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي: يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشبهوا بأبيكم، {إنه كان عبدا شكورا}. فالقرآن هنا لم يذكر سلالة نوح بأبيهم ليتفاخروا به ويقفوا عند هذا التفاخر، بل من أجل التشبه به في خصاله وأفعاله وقيامه بشكر المُنعم على ما أنعم به من النعم. النظر إلى التاريخ لا يصلح أن يكون مهجعًا للاستغراق في النوم، وإنما هو منطلق لأن نستلهم من الماضي لإصلاح الحاضر والعبور المتزن الآمن إلى مستقبل مزهر.
690
| 21 ديسمبر 2025