رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إبراهيم عبد المجيد

كاتب وروائي مصري

مساحة إعلانية

مقالات

1221

إبراهيم عبد المجيد

ديسمبر.. وغيره من الشهور

18 ديسمبر 2024 , 09:03م

نقترب من نهاية ديسمبر. أراه منذ سنوات طويلة وقد اختلف في مصر، عما كان في سنوات استمرت حتى التسعينات من القرن الماضي. أتذكر ديسمبر محاولا الابتعاد عن السياسة. السياسة التي يطول فيها الكلام، ولا ينتهي بين الأمل والرجاء. قرأت عشرات الكتب القديمة في التاريخ، ورأيت تقريبا كل آثار مصر القديمة في جنوب وشمال البلاد، وعرفت كيف كان مجال مصر الحيوي، يمتد عبر مئات السنين، إلى الشام وأثيوبيا ومنابع النيل. ليس مهما السيادة العسكرية، لكن قوة التأثير واستعداد مصر، لمقاومة ما يمكن أن يؤذيها من تغيرات في هذا المجال. صار هذا حلما ضائعا، ومن ثم أعود إلى ديسمبر حين كان الشتاء حقيقيا، وأتمنى أن لا تقفز السياسة الداخلية حين نتحدث عن الطبيعة، لكن للأسف كثير يأخذك إلى الأسى وقليل إلى الجمال.

 في ديسمبر نوَّات من المطر والرياح لا ينساها الكبار من أهل الإسكندرية. نوَّات الإسكندرية التي كانت تبدأ بنوَّة "المكنسة" في نوفمبر، والتي حملت اسمها من قوتها، لأنها كانت تكنس الأرض من فرط المطر، وانتظار البالوعات له في شوق من عام إلى عام. في أول ديسمبر كانت تأتي نوَّة "قاسم"، وفي التاسع عشر أو العشرين نوَّة الفيضة الصغرى، ثم نوّة رأس السنة مع بداية يناير، وتستمر النوَّات حتى نوَّة "عوَّة" في آخر مارس، وهي النوَّة التي حملت اسمها من عواء الرياح فلا مطر. هي آخر النوَّات. والمثل السكندري يقول "نوَّة عَوَّة ما بعدها نوَّة ". المطر خير. هذا تراث الشعوب كلها، وأبرز مظاهره حين ينقطع صلاة الناس للاستسقاء. اختلفت النوَّات فصار غيابها أكثر من حضورها، ويشكو الناس أحيانا من شدة المطر فأضحك. لم يأت ذلك من فراغ، فالمناخ تغير في العالم، لكن في مصر ازداد تغيره مع ردم مساحات كبيرة من البحيرات الكبرى، مثل بحيرة مريوط وإدكو والمنزلة وغيرها، لبناء مصانع ومجمعات سكنية، فما بقي منها لا يتجاوز مساحات قليلة، وذلك ما جعل التوازن البيئي يختل أكثر. كانت الرياح القادمة إلى الإسكندرية مثلا من الغرب، تمر ببحيرة مريوط فتحمل المطر والدفء معها. الإسكندرية لمن يعرفها كانت دافئة في الشتاء. أسمع في النشرات وعلى صفحات السوشيال ميديا تحذيرات من المطر، فأضحك لأنه حين يأتي لا يتجاوز الساعة، وأتذكر أياما كان يستمر فيها المطر نصف الليل أو النهار. تغير ديسمبر ولم أعد أتذكر النوَّات معه، لكنه يحمل معه نوّات أخرى، فلا زالت الأحكام تتجدد للمحبوسين احتياطيا من كتاب ومفكرين وفنانين وغيرهم. ولقد حدث ذلك هذا الشهر أكثر من مرة. هذه النوّات التي صارت تتجدد، وتحل بهم وبالوطن كل خمسة وأربعين يوما. أتساءل إلى هذا الحد لا يريد الوطن الدفئ بأبنائه النابغين. أقول ساخرا هل أفسدنا الشتاء بالتغير البيئي، لنصنع نوَّات من الحبس في السجون. لا علاقة بين النوَّات الطبيعية والحبس، لكن كل من يعانيه من أفراد أو أهل أو أحباء، يعرف أنها النوَّات التي لا يرسلها المناخ الطبيعي. هو المناخ السياسي الظالم الذي لا يعرف أحد متي تنتهي نوَّاته، التي صارت للأسف تشمل الصيف والشتاء. هكذا كما صار لدينا شتاء تساوى مع الصيف في المناخ، ساوت النوّات السياسية المتكررة بين فصول العام. بل وشهوره. يمكن للبشر أن يتحملوا تغير الطبيعة ويستعدون له، لكن كيف يتحملون نوَّات السياسة المتكررة. كان فصل الربيع يشهد رياح الخماسين المتربة، لكنه يظل ربيعا تتفتح فيه الزهور، والآن رياح الخماسين تأتي بها السياسة الداخلية طول العام.

مساحة إعلانية