رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يُعَدّ التعليم من أهم العوامل التي تؤثر في الحراك الاجتماعي داخل المجتمعات الحديثة. ورغم الاهتمام الكبير الذي توليه هذه المجتمعات للتعليم، إلا أن طول فترة التعليم وارتفاع تكاليفها يحد من قدرة الجميع على الوصول إلى المستوى التعليمي المطلوب. إذا لم تعمل الدولة على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص للأطفال الفقراء، فإنهم سيظلون عالقين في دائرة الفقر، بينما يواصل الأطفال الأغنياء الاحتفاظ بمكانتهم المادية. وينطبق الأمر ذاته على مستوى الدول؛ إذ تستثمر الدول الغنية بشكل أكبر في التعليم، مما يسمح لها بالانتقال إلى اقتصادات ذات قيمة مضافة عالية، في حين تبقى الدول الفقيرة محصورة في الأعمال التي تعتمد على العمالة الرخيصة.عند ظهور الإنترنت لأول مرة، ساد تفاؤل واسع بأنه سيساهم في إزالة الفجوة التعليمية بين الأغنياء والفقراء، سواء على مستوى الأفراد أو الدول. حيث كان الاعتقاد السائد أن الإنترنت سيكون متاحًا للجميع بسهولة، مما سيحقق فرصًا متكافئة في التعليم. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن انتشار الإنترنت لم يكن متساويًا بين الجميع، بل أدى إلى تعميق الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. وبنفس الطريقة، تزايدت الفوارق بين الطبقات الغنية والفقيرة داخل نفس الدولة.أطلق علماء الاجتماع على هذه الظاهرة مفهوم «الفجوة الرقمية»، وهي تعبر عن التفاوت بين الأفراد الذين لديهم إمكانية الوصول إلى أجهزة الحاسوب والهواتف المحمولة والإنترنت، وبين من يفتقرون إلى هذه الإمكانية. ومع الانتشار الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت هذه الفجوة أعمق. في مجالات التعليم والعمل وحتى السياسة، بات الأفراد الذين يستطيعون الوصول إلى الإنترنت والمعلومات يتمتعون بمزايا تفوق بكثير أولئك الذين لا يملكون نفس الفرصة.
تتأثر الفجوة الرقمية بعوامل مثل مستوى التعليم، مستوى الدخل، والفروقات الإقليمية، مما تؤدي إلى تأثيرات متفاوتة على فئات المجتمع المختلفة، بما في ذلك الجنس، العمر، والعرق. فلدى الرجال فرص أكبر للوصول إلى الإنترنت مقارنةً بالنساء، بينما تكون مهارات كبار السن في استخدام الإنترنت أقل من الشباب، وتعاني المجموعات السوداء من فرص أقل للوصول إلى الإنترنت بسبب الفقر والتمييز العنصري. هذه التباينات تؤثر بشكل مباشر على نجاحهم في مجالات التعليم وسوق العمل. أثناء جائحة كوفيد- 19، برزت أهمية الوصول إلى الإنترنت مجددًا عندما أصبح التعليم عن بعد ضروريًا. وبينما تلقى الشباب تعليمهم في المنازل لمدة تقارب السنة والنصف، كان الذين يتمتعون بإمكانية الوصول إلى الإنترنت في وضع أفضل بكثير من غيرهم. فقد تمكن الطلاب الذين لديهم إنترنت من متابعة دروسهم عبر الإنترنت بسهولة، وأداء واجباتهم باستخدام المصادر المتاحة. ومع ذلك، فإن الطلاب الذين لم يكن لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت بسبب الفقر أو أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، كانوا بعيدين ليس فقط عن معلميهم، بل أيضًا عن مصادر المعلومات.خلال فترة كورونا، كانت معرفة الوالدين بأساسيات الإنترنت مهمة جدًا في تكيُّف الأطفال وتطورهم التعليمي. إذ شكل استخدام تطبيقات مثل «زووم» وغيرها من المصادر الرقمية تحديًا كبيرًا، خاصة للأطفال الصغار ووالديهم. من جهة أخرى، يعاني بعض الشباب الذين يقضون أوقاتًا طويلة على الإنترنت من مشكلات مثل إدمان الإنترنت والألعاب، وهي مشكلات تظهر بشكل أكبر لدى الأطفال الأثرياء.
هناك جهود تُبذل لتحسين الوصول الرقمي في المدارس. وعلى الرغم من أن الحكومات تسعى لضمان وصول الجميع إلى الإنترنت، فإن ذلك ليس سهلاً. فالقدرة على شراء أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف المحمولة ليست متاحة للجميع بنفس السهولة. وللتغلب على هذا العائق في تركيا، قامت الحكومة بتوزيع أجهزة لوحية على طلاب التعليم الثانوي، وقدمت وزارة التعليم والمؤسسات الحكومية الأخرى مصادر تعليمية مجانية. على الصعيد العالمي، بدأ مشروع توزيع الأجهزة اللوحية على الدول الفقيرة تحت رعاية الأمم المتحدة لمحاولة سد الفجوة الرقمية، ولكن تأثيره كان محدودًا للغاية. قطر تساعد أيضًا الدول الفقيرة في التعليم الرقمي لكن توفير أجهزة الكمبيوتر لجميع الطلاب الفقراء في العالم هو أمر مستحيل. علاوة على ذلك، لا تزال هناك مناطق في إفريقيا تفتقر إلى الكهرباء، ناهيك عن الوصول إلى الإنترنت. نفس المشكلة تواجهها المناطق المتضررة من النزاعات مثل غزة والسودان بعد تدمير البنية التحتية التعليمية، مما يعيق حتى التعليم التقليدي، فضلاً عن التعليم الرقمي. باختصار، تجاوز سد الفجوة الرقمية لن يكون مهمة سهلة بالنسبة للجميع.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة إسطنبول
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
6033
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4470
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3336
| 29 سبتمبر 2025