رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كلمات قالها الشاعر الكبير علي محمود طه في نهاية خمسينيات القرن الماضي، واصفاً فيها ترتكبه "إسرائيل" من مذابح ومجازر ليس بحق الفلسطينيين فحسب، وإنما بحق الأمة العربية بأسرها، فمذابح دير ياسين مرورا بمذابح بحر البقر وقانا الأولى والثانية وصولا إلى الهولوكوست اليومي لأطفالنا، قديمها وجديدها، والمذابح الحالية التي يرتكبها جيش الاحتلال والمستوطنون والمستعربون، تثبت بما لا يقبل مجالاً للشك، أن إسرائيل لا تستهدف الشعب الفلسطيني فقط، وإنما الأمة العربية الواحدة بكل شعوبها من المحيط إلى الخليج.
ما قبل الصهيونية، حاول غزاة كثيرون تطويع إرادة الفلسطينيين، ارتكبوا مجازر كثيرة بحق شعبنا، لكنهم طُردوا من أرضنا ومن شواطئنا، كانت الأرض الفلسطينية ناراً عليهم، حاول الصليبيون غزونا، فانكسروا وخابت آمالهم وحوصروا في قدسنا. جاء الفرنسيون بقيادة نابليون، لكن أسوار عكا بقيت صامدة أمامهم وارتدوا يجرون أذيال الخيبة، جاءت الصهيونية ومن بعدها وليدتها إسرائيل لترتكب المجازر والمحارق، حتى باتت هذه المعاناة جزءاً من تاريخ المنطقة، لكن إرادة شعبنا لم تُطوّع، وبقي الفلسطينيون وصمودهم مثل أشجار زيتوننا ومناراتنا البحرية وورودنا وقمحنا، ومثلما ارتدّ أولئك الغازون، سيرتد هؤلاء الصهاينة، طال الزمن أم قُصُر.
من قبل: كتبت في العزيزة "الشرق" عن حتمية زوال الكيان الصهيوني لأسباب داخلية فيه ولأخرى خارجية. اليوم أفصّل في أحد أسباب مقالتي تلك. وأقول: أن يكون نظام ما فاشيا في سلطته ونهجه وممارسته واعتداءاته المستمرة على الآخرين في محيطه.. يعني: أنه يرسم طريق اندثاره، ويحفر قبره بيديه، هذا في حالة البلد الذي يعيش نظامه الفاشي على رأس سلطة بلده، فكيف بفاشية بنت دولتها على أرض اغتصبتها عنوة وبالتعاون مع الدول الاستعمارية لتكون رأس جسر لها في منطقة غريبة عن الطرفين؟ كيف بنظام فاشي يقوم باقتلاع سكان البلد الأصليين وتهجيرهم، واستقدام مهاجريه من شتى أنحاء العالم ليكونوا سكان البلد المحتل، الذي يدّعون الحق فيه زورا وبهتانا؟ كيف بنظام يمارس العنصرية البغيضة في سياساته تجاه كل الآخرين؟ كيف بنظام سياسي اعتبرت الأمم المتحدة أن مصدره الأساسي والنبع الذي يستقي منه النهج والأساليب الممارسة: الصهيونية. ظاهرة عنصرية وشكلا من أشكال التمييز العنصري؟ الكيان الصهيوني هو كل هذه الصفات مجتمعة، ولكن بشكل أكثر تطورا، أكثر وحشية وعنفا وهمجية.
إنه نظام سياسي وصل إلى مرحلة ما بعد الفاشية، ما بعد النازية، وما بعد العنصرية.. إنه نظام سوبرفاشي، سوبر نازي وسوبر عنصري، بالتالي من الطبيعي والحالة هذه أن تكون حتمية اندثاره أسرع بكثير من زوال الأنظمة الشبيهة الأخرى على المدى التاريخي القديم والآخر الجديد.
العدوان الصهيوني الحالي، هو حلقة من سلسلة متواصلة للحروب والاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين وعلى الأمة العربية منذ إنشاء دولة الكيان حتى هذه اللحظة، العدوانية هي إحدى متلازمات وجود إسرائيل وسماتها. كل الذي تغير مثلما قلنا: هو تطور أدوات ووسائل القتل والتدمير الصهيوني، وتطور أساليب الكيان النازية، لم تختلف إسرائيل منذ بدايتها وحتى الآن، مثلا، في وجود متغيرات فيها تجنح نحو التعايش مع الآخر والسلام معه. بدليل أيضا: ما تعبر عنه الإحصاءات المتعددة التي تجري في الكيان، من أن التطور الأبرز، هو أن الشارع الإسرائيلي يتجه نحو المزيد من اليمين والتطرف.
من زاوية ثانية، أدركت شعوب العالم في تجربتها المرة مع النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، ألا تعامل مع الظاهرتين إلا بالقضاء عليهما واجتثاثهما من الجذور.
إسرائيل ليست استثناء من القاعدة التي هي بمثابة القانون، الظروف المحيطة هي المختلفة، كذلك حجم تأييده من قبل حلفائه الإستراتيجيين، هذه مسألة خاضعة للتغيير ولن تكون ثابتة، كما أيضا موازين القوى هي أيضا قابلة للتعديل.
لذا، فإن من يؤمن ويعتقد بحتمية زوال إسرائيل، يبدو في نظر كثيرين وكأنه في العصر الخشبي وإنه خارج إطار التاريخ والزمن، وإنه بعيد عن الواقعية والموضوعية.
بالتأكيد فإن هؤلاء المتهِمين (بكسر الهاء) يعتقدون باستحالة إزالة هذه الدولة، بالتالي فهم يتفاوضون معها، ويوقعون اتفاقيات سلام مع قادتها، ويرون أن وجودها أصبح واقعاً مفروضاً، وأنها تملك من عناصر القوة ما لا يؤهل الفلسطينيين والعرب جميعاً من الحديث، حتى عن إمكانية إزالتها، فهي مزنّرة بالسلاح النووي وأحدث ما تنتجه مصانعها ومصانع حليفتها الإستراتيجية: الولايات المتحدة وعموم الدول الغربية، من أسلحة.
بالمقابل، هناك المؤمنون والمعتقدون بحتمية زوالها، لأسباب كثيرة: دينية وقومية ووطنية وديمقراطية أيضاً، ومن هؤلاء: المتابعون للداخل الإسرائيلي بكل تفاصيله.
ونتيجة معرفتهم الدقيقة للتفاصيل يرون باستحالة التعايش مع هذه الدولة، فعدوانها الدائم والمستديم هو الذي يؤسس لبداية نهايتها، فهي ترفض كافة الحلول التي جرى تقديمها إليها: حل الدولتين، فالواقع يشي باستحالة هذا الحل، وطبيعة الحقائق التي تفرضها على واقع الضفة الغربية يجعل من الاستحالة بمكان أن يرى هذا الحل النور.
حل الدولة الواحدة هو أيضاً مستحيل مثلما هو حل الدولة الثنائية القومية وحل "دولة لكل مواطنيها" الذي طرحه البعض، فإسرائيل تطمح إلى بناء دولتها اليهودية. والصهيونية ستظل صهيونية، والعقيدة التوارتية- التلمودية هي الخلفية التي أسست ولا تزال للعنصرية الصهيونية، وللعدوان ولارتكاب المجازر، وللاستعلاء، وإبقاء حالة الحرب مفتوحة على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين أيضا.
كثيرون من المعتقدين باستحالة الإزالة يتساءلون: وماذا سنفعل بما ينوف عن خمسة ملايين مستوطن وهؤلاء يعيشون على الأرض الفلسطينية، بالتالي فأين يمكنهم الذهاب؟ وفي الإجابة نقول: إن عقوداً من اللجوء للفلسطينيين لن تزيل حقوقهم في العودة إلى بيوتهم وبياراتهم وأرضهم ومدنهم وقراهم. ومن حق هؤلاء العودة إليها، وليس المعتدى عليه هو المطالب (بفتح اللام) بالأجوبة وإعطاء الحلول للمعتدي، فالأخير هو الكفيل والمفترض فيه أن يجد الحلول لقضاياه. الحل يكمن بعودة المستوطنين المهاجرين إلى دولهم التي يمتلكون مواطنتها وجوازات سفرها، هذا أيضا ما طرحته إحدى الإعلاميات الأمريكيات منذ سنوات. وجرى مباشرة اتهامها بالتهمة الجاهزة "العداء للسامية" وجرت إقالتها من عملها!.
وفي الختام نذكّر بأن أكثر المتشائمين لم يتوقعوا انهياراً للإمبراطورية البريطانية التي لم تكن الشمس تغيب عن ممتلكاتها ولا الإمبراطورية الرومانية، وغيرها من الإمبراطوريات ولا بإمكانية انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية، هذا الحال سينطبق على إسرائيل أيضاً، فصلفها وعنجهيتها لا تقوم بفعل سوبر مانياتها، بل بالقدر الذي تقوم فيه على ضعفنا.
نحن تبقى الحقيقة الأكيدة بأن مآل الكيان إلى زوال، لا نقول ذلك بشكل عاطفي انطلاقا من دوافع رغبة ذاتية وتمنيات فقط. ولا انطلاقا من مجرد الكلام لأجل الكلام فقط.. وإنما على خلفية التحليل العلمي الدقيق لهذه الظاهرة الإسرائيلية. التحليل المبني على متابعة حثيثة لكل شاردة وواردة مما يحدث داخل هذا الكيان. وعلى خلفية تجارب التاريخ وتعامله مع الظواهر الشبيهة بفاشية الكيان... بالتالي: فإن كل ذلك يولد حتمية الإيمان بمثل ما أقول.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
729
| 16 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
714
| 11 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بظهور بعض الشخصيات والحركات، المدنية والمسلحة، التي تحاول القيام بأدوار إيجابية أو سلبية، وخصوصا في مراحل بناء الدول وتأسيسها. ومنطقيا ينبغي على مَن يُصَدّر نفسه للقيام بأدوار عامة أن يمتاز ببعض الصفات الشخصية والإنسانية والعملية والعلمية الفريدة لإقناع غالبية الناس بدوره المرتقب. ومن أخطر الشخصيات والكيانات تلك التي تتعاون مع الغرباء ضد أبناء جلدتهم، وهذا ما حدث في غزة خلال «طوفان الأقصى» على يَد «ياسر أبو شباب» وأتباعه!. و»أبو شباب» فلسطيني، مواليد 1990، من مدينة رفح بغزة، وَمَسيرته، وفقا لمصادر فلسطينية، لا تُؤهّله للقيام بدور قيادي ما!. ومَن يقرأ بعض صفحات تاريخ «أبو شباب»، الذي ينتمي لعائلة «الترابية» المستقرة في النقب وسيناء وجنوبي غزة، يجد أنه اعتُقِل في عام 2015، في غزة، حينما كان بعمر 25 سنة، بتهمة الاتّجار بالمخدّرات وترويجها، وحكم عليه بالسجن 25 سنة. وخلال مواجهات «الطوفان» القاسية والهجمات الصهيونية العشوائية على غزة هَرَب «أبو شباب» من سجنه بغزة، بعدما أمضى فيه أكثر من ثماني سنوات، وشكّل، لاحقا، «القوات الشعبية» بتنسيق مع الشاباك «الإسرائيلي»، ولم يلتفت إليها أحد بشكل ملحوظ بسبب ظروف الحرب والقتل والدمار والفوضى المنتشرة بالقطاع!. وبمرور الأيام بَرَزَ الدور التخريبي لهذه الجماعة، الذي لم يتوقف عند اعترافها بالتعاون مع أجهزة الأمن «الإسرائيلية» بل بنشر التخريب الأمني، والفتن المجتمعية، وقطع الطرق واعتراض قوافل المساعدات الإنسانية ونهبها!. وأبو شباب أكد مرارًا أن جماعته تَتَلقّى الدعم «دعماً من الجيش الإسرائيلي»، وأنهم عازمون على «مواصلة قتال حماس حتى في فترات التهدئة»!. وهذا يعني أنهم مجموعة من الأدوات الصهيونية والجواسيس الذين صورتهم بعض وسائل الإعلام العبرية كأدوات بديلة لتخفيف «خسائر الجيش الإسرائيلي باستخدامهم في مهام حسّاسة بدل الاعتماد المباشر على القوات النظامية»!. ويوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2025 أُعلن عن مقتل «أبو شباب» على يد عائلة «أبو سنيمة»، التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث: وأنهم «واجهوا فئة خارجة عن قيم المجتمع الفلسطيني». وبحيادية، يمكن النظر لهذا الكيان السرطاني، الذي أسندت قيادته بعد مقتل «أبو شباب» إلى رفيقه «غسان الدهيني» من عِدّة زوايا، ومنها: - الخيانة نهايتها مأساوية لأصحابها، وماذا يَتوقّع أن تكون نهايته مَن يَتفاخر بعلاقته مع الاحتلال «الإسرائيلي»؟ - دور جماعة «أبو شباب» التخريبي على المستويين الأمني والإغاثي دفنهم وهم أحياء، مِمّا جعل مقتل «أبو شباب» مناسبة قُوْبِلت بالترحيب من أكثرية الفلسطينيين وغيرهم. - مقتل «أبو شباب» يؤكد فشل الخطة «الإسرائيلية» بجعل مجموعته المُتَحكِّم بمدينة «رفح» وجعلها منطقة «حكم ذاتي» خارج سيطرة المقاومة، وبهذا فهي ضربة أمنية كبيرة «لإسرائيل» التي كانت تُعوّل عليهم بعمليات التجسّس والتخريب. - قد تكون «إسرائيل» تَخلّصت منه، قبل إرغامها، بضغوط أمريكية، على المضي بالمرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار وذلك بتركه ليواجه مصيره كونه قُتِل بمنطقة سيطرة جيشها!. - الحادثة كانت مناسبة لدعم دور المقاومة على أرض غزة، ونقلت هيئة البثّ «الإسرائيلية»، الأحد الماضي، عن مصادر فلسطينية أن «مسلحين ينتمون لمليشيات عشائرية معارضة لحماس سَلّموا أنفسهم طواعية لأجهزة (حماس) الأمنية في غزة». منطقيًا، لو كانت جماعة «أبو شباب» جماعة فلسطينية خالصة ومنافسة بعملها، السياسي والعسكري، للآخرين بشفافية وصدق لأمكن قبول تشكيلها، والتعاطي معه على أنه جزء من المشاريع الهادفة لخدمة القطاع، ولكن حينما تَبرز خيوط مؤكدة، وباعترافات واضحة، بارتباط هذا الكيان وشخوصه بالاحتلال «الإسرائيلي» فهنا تكون المعضلة والقشّة التي تَقصم ظهر الكيان لأن التعاون مع المحتل جريمة لا يُمكن تبريرها بأيّ عذر من الأعذار. مقتل «أبو شباب» كان متوقعا، وهي النهاية الحتمية والسوداء للخونة والعملاء الذين لا يَجدون مَن يُرحب بهم من مواطنيهم، ولا مَن يَحْتَرِمهم من الأعداء، ولهذا هُم أموات بداية، وإن كانوا يمشون على الأرض، لأنهم فقدوا ارتباطهم بأهلهم وقضيتهم وإنسانيتهم.
642
| 12 ديسمبر 2025