رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قضايا وتحديات كبرى تنتظر المشير عمر البشير بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية لخمسة أعوام قادمة، ملفات مثقلة تتطلب معالجتها توفر الإرادة السياسية الجامعة بين السودانيين، بدءا بالحزب الحاكم وشركائه، وأحزاب المعارضة السياسية، والحركات والجماعات المسلحة.
وتشكل ملفات حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية والعدالة وسيادة حكم القانون رأس الرمح في الأولويات القصوى إذا ما أراد الرئيس بناء دولة مؤسسات تقوم بواجباتها، وتحظى بثقة المواطنين أصحاب المصلحة الحقيقيين، وتُحترم فيها المبادئ والقيم الدستورية الراسخة في الممارسة الدولية العرفية.
حيث يقع على عاتق أي حكومة تعتبر نفسها مفوضة من أفراد شعبها، وترغب في أن تكون عضوا صالحا في المجتمع الدولي أن تقوم بواجبات ثلاثة وهي إعمال، واحترام، وحماية حقوق الإنسان لجميع من يقيم على أراضيها، أو يحمل جنسيتها وجواز سفرها.
فالشعب الذي يفوض الرئيس ويختار ممثليه في الجهازين التنفيذي والتشريعي يتطلع إلى رؤية أبرز القضايا والتحديات التي تعترض سبيل تطور البلد ورفاه مواطنيه موضوعة على رأس أجندة عمل السلطة التنفيذية، بل وتشكل الهم الأكبر والتحدي الشخصي للرئيس نفسه، حتى يضمن تحقيق تطلعات الفئة الغالبة من أفراد الشعب الذين انتخبوه وآثروا دعم حزبه الحاكم عن الأحزاب الأخرى المشاركة في العملية الانتخابية.
وليس من حل لمشكلات السودان إلا بإقرار الجميع مسؤوليتهم عن التعقيدات المتزايدة لأزمات البلاد، وضعف إرادتهم وقدرتهم على مداواة الجراح منذ استقلال السودان، حيث أخذت كل حكومة عسكرية أو مدنية دورها، تطاول بها الزمان أو قصر، فتخلت عن الحكم مخلفة وراءها مشكلات مضاعفة.
ولما وصل الحال بالسودان إلى ما هو عليه من تدويل لمعظم قضاياه المصيرية، حلت بين ظهرانيه أكبر عملية حفظ سلام للأمم المتحدة حول العالم تشكل ميزانيتها السنوية العلاج الشامل لأزمات الأطراف، وانفصل جنوبه عن شماله، وتوقفت معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى بسبب الحصار من قبل كبار اللاعبين في المجتمع الدولي، وخرج المنتجون في معظم أطرافه عن دائرة الإنتاج ليحتشدوا في معسكرات النزوح واللجوء جياعا ويعانون العطش ومرضى ينتظرون هبات وعطف المانحين الدوليين.
فأصبح الطريق الوحيد للمستقبل هو تحمل الحكومة الجديدة مسؤوليات إصلاح كل ما أفسدته العقود الماضية بما في ذلك العقدان الماضيان، وإن كان العلاج الناجع يتطلب كيَّ العصب.
ولأن تكرار المعالجات المتماثلة من زوايا ضيقة لأزمات السودان المستفحلة على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي والثقافي قد زاد من اتساع الفجوة بين شواغل واهتمامات المواطنين وشواغل واهتمامات الحكومة، فقد برزت ظاهرة فقدان الثقة في مؤسسات الدولة ككل في نزوع الأطراف إلى حمل السلاح والخروج عن سلطة الدولة والمطالبة بحقوقهم عبر العنف، حتى دقَّ العنف أبواب الجامعات وتحولت ساحات التحصيل الأكاديمي وبناء قيادات المستقبل إلى ساحة عراك تسال فيها الدماء، وانتشر خطاب التحريض والكراهية والتعصب والعنصرية في تعليقات وكتابات النخب المثقفة حتى كادت أن تغيب الصورة الذهنية الإيجابية عن أبرز سمات السودانيين المتمثلة في التسامح والسلام والإنسانية والتعاضد والتراحم والكرم، فأصابت وجهه الصبوح بدمامل يحتاج علاجها لكيِّ العصب.
ولأنها قد تكون الفرصة الأخيرة لأن يوافق التغيير المأمول جهداً موضوعياً واستجابة منطقية لأولويات السودان الدولة، فقد رأينا أن نضع قائمة بالأولويات القصوى التي يجب أن تقدم:
إعمال، احترام، وحماية حقوق الإنسان،
تقع على الحكومة التزامات قانونية وأخلاقية عظمى في تمكين جميع أفراد شعبها من التمتع التام بحقوقهم الأساسية المنصوص عليها بالمعاهدات الدولية الرئيسية في مجال حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني.
ويترتب على هذا الالتزام بضرورة اتخاذ التدابير التنفيذية والقضائية والتشريعية اللازمة لتطبيق هذه الحقوق الناشئة بموجب قبول السودان لتلك الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
فقد صادق وانضم السودان إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في مارس 1977م، والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالحقوق المدنية والسياسية في مارس 1986م، والاتفاقية الدولية لمناهضـة الفصـل العنصري فـي الألعاب الرياضية 1986م، واتفاقية حقوق الطفل في أغسطس 1991م، والبروتوكولين الاختياريين المتعلقين بمنع إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة في يوليو 2005م، وببيع الأطفال واستخدامهم في البغاء والمواد الخليعة في نوفمبر 2004م، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والبروتوكول الاختياري الملحق بها في أبريل 2009م، واتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في 2013م، والاتفاقية الدولية المتعلقة بوضع اللاجئين 1974م، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها 1977م، كما انضم السودان إلى سبع اتفاقيات من اتفاقيات منظمة العمل الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، إلى جانب الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في 1986م.
بينما لم يصادق السودان أو ينضم إلى ثلاث اتفاقيات أساسية، هي: اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، رغم توقيعه عليها في 4 يونيو 1986م، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1984م، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، ولا البروتوكولات الملحقة بهذه الاتفاقيات أو بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
نلحظ مما تقدم أن الاتفاقيات الرئيسية تمت المصادقة عليها قبل أكثر من ربع قرن، سوى اتفاقيتين هما اتفاقيتا حقوق الطفل، والأشخاص ذوي الإعاقة، بينما تعثرت خطوات الدولة السودانية في حسم انضمامها إلى بقية الاتفاقيات الأساسية، والبروتوكولات التي تعلن فيها الدول قبول نظر اللجنة المعنية للشكاوى الفردية المقدمة من الأفراد والمنظمات، وبصفة خاصة اتفاقية مناهضة التعذيب، رغم إدراك الخبراء القانونيين في الحكومة السودانية بأن منع التعذيب وإدانته وتجريمه وملاحقة مرتكبه في كل الأوقات مفروض على السلطات الوطنية بموجب العرف الدولي، بل يمنع التعذيب حتى في حالة الطوارئ التي تتهدد الأمة حسب المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أضحى جزءا من القانون المحلي وفقا لدستور السودان.
ولأن هنالك تباينا كبيرا بين الواقع والطموح، فإن المطلوب، فعلاً لا قولاً، هو تحسين حالة حقوق الإنسان في البلاد من قبل الآليات الوطنية التي تم تأسيسها لهذا الغرض ومن قبل الحكومة بصفة خاصة.
فقد تلاحظ وبوضوح خلال العقود الماضية أن تلك الآليات التي أنشأتها الدولة لحماية وتعزيز وحقوق الإنسان تحرص فقط على تقديم صورة مغايرة لحالة حقوق الإنسان للمجتمع الدولي بينما تعجز عن القيام بدورها الحقيقي في تقديم النصح والإرشاد للدولة في معالجة المخالفات والانتهاكات الجسيمة التي ترتكب بحق الأفراد والجماعات، وتعمل على تمكين الضحايا من إسماع صوتهم ومظلمتهم ومساعدتهم في الوصول إلى العدالة والإنصاف.
وقد أدى هذا الوضع إلى فقدان الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان – مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مثالا - إلى الثقة في أداء الحكومة لواجباتها مما سهل من وضع السودان تحت عملية المراقبة الدولية عبر تعيين مقررين خواص وخبراء مستقلين تجددت ولايتهم بصورة مستمرة لمتابعة حالة حقوق الإنسان في البلاد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم.
ونرى هنا ضرورة أن يولي رئيس الجمهورية اهتمامه لأمر إعادة تشكيل الآليات الوطنية من خبراء مستقلين متجردين من أي انتماء، محميين بموجب القانون، ويتمتعون حقيقة بالدراية والعلم والمهنية الكافية بمفهوم وآليات عمل القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأن تجد تدخلاتهم وتوصياتهم الاحترام والتنفيذ الفوري من جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
لأنه لا يعقل أبداً أن يتم تشكيل مفوضية وطنية مستقلة في مجال حقوق الإنسان مثلاً، ويحتاج أعضاؤها لتنمية قدراتهم في مجال حقوق الإنسان، في بلد يذخر بالكفاءات والخبرات.
المصالحة الوطنية ومعرفة الحقيقة وسيادة حكم القانون:
لقد مر السودان منذ استقلاله وخلال أنظمة حكمه المختلفة الشمولية والديمقراطية بفترات طويلة من القمع السياسي، والنزاعات المسلحة والاقتتال الداخلي، ارتُكِبَت خلالها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان – مستمرة وواسعة النطاق ومنهجية - أفضت إلى غبن كبير حاق في النفوس، وهجرات نخب وكوادر إلى خارج البلاد، وإلى فقدان وظائف وحقوق، وانزواء قدرات وطنية عن دائرة التأثير بسبب الإقصاء في مناطق السلم، بينما أفضت النزاعات المسلحة إلى فقدان عشرات الآلاف من الأنفس، والممتلكات، وتدمير المؤسسات، ونزوح ولجوء مئات الآلاف من مناطقهم الأصلية في جنوب وغرب وشرق البلاد حسب إحصاءات الأمم المتحدة والحكومات المتعاقبة على السودان.
هؤلاء من بقي منهم حيا لا يمكننا بأي حال أن نتجاوز حقوقه في صمت لنتحدث عن ديمقراطية ودولة مؤسسات دون أن تشعره الدولة باهتمامها بما لحقه من ظلم مسَّ كرامته الإنسانية، ومن خلال إرادة سياسية جامعة كما أشرنا في مقدمة هذا المقال، إرادة تجعل الحكومة السودانية الجديدة تعترف بحقوق الضحايا، وتبحث في أصول التراث السوداني والقيم الثقافة السودانية عن أبرز آليات الحل.
حل يمكن الضحايا وذويهم من معرفة الحقيقة والحصول على الإنصاف المعنوي (الاعتذار) والمادي (التعويض) لأولئك الذين أصيبوا، أو قتلوا أو نهبت ممتلكاتهم في مناطق النزاعات المسلحة، والذين فقدوا وظائفهم ومنعوا من حرياتهم وحقوقهم الأساسية دون محاكمة عادلة.
لقد جاءت الفرصة لأنظمة الحكم في بلادنا مرات ومرات لتحقيق المصالحة الوطنية والإنصاف وكشف الحقيقة، لكن فرصة هذا النظام هي الأكبر، فبعد انهيار اتفاقية أبوجا للسلام في 2006م، جاءت اتفاقية الدوحة 2011م، وما سبقها من مفاوضات حصلت على دعم دولي من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، ونفذت إلى إشراك أصحاب المصلحة الحقيقيين عندما جلبت ممثلي النازحين واللاجئين من المعسكرات، والتزم راعيها بدعم ملف التعويض وإعادة الإعمار والتنمية.
ورغم امتناع بعض من حملة السلاح عن التوقيع إلا أن تنفيذ الاتفاق من الجانب الوطني ينبغي أن يأخذ حقه كاملا من الاهتمام، حيث ما زلنا نلمس ضعف الخطوات المحلية في تحريك السلام الاجتماعي، في مقابل الاهتمام بالمستوى السياسي في إجراءات السلام،
حيث تحقق لأبناء دارفور حكم ولايات دارفور جميعها، لكنني وغيري ننظر كأن بعض هذه القيادات الكبيرة تنعزل عن الأهداف التي خرجت من أجلها فور توليها السلطة على مستوى المركز أو الولاية، وهو ما يدفعنا لدعوتهم لإعادة النظر في أدوارهم المطلوبة خلال الفترة القادمة.
لقد جسدت لنا تجربة قيادات المؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، أمثلة تضرب للأجيال في الالتزام العام والخاص بتطبيق منهج واضح للإنصاف ومعرفة الحقيقة جعلت فيه مصلحة الوطن في المقدمة.
وفي المقابل تقع على الأحزاب السياسية المعارضة والحركات والجماعات المسلحة أن يتقدموا بمنهج واضح للحل السلمي تقبله الحكومة كأساس للتغيير السياسي والاجتماعي المنتظر. تغيير مقبول للجميع لا يقر فيه إقصاء أو إبعاد أحد من أي جماعة أو حزب، عن حقه في المشاركة إلا في حال ثبوت اعتدائه على حق عام، حتى لا ننتقل من حالة انتقام إلى انتقام، فيضيع الأمل المعقود على عودة السودان مستقرا آمنا.
فربع قرن من الزمان مرت من عمر نظام الإنقاذ، سادتي الكرام، كاف لبلوغ تمام الرشد لكل إنسان، ولقدرته على التأثير في عصر تطورت فيه تقنيات وسائل الاتصال ونقل المعلومات، حيث لم يعد بإمكان أي سلطة أن تحجب الحقيقة أو تضع ستارا على أعين الناس حتى الذين لا تساعدهم أميتهم الأبجدية على القراءة والكتابة.
أثناء القمة العربية الإسلامية الطارئة التي أقيمت في الدوحة يوم 15 من الشهر الجاري والتي ناقشت العدوان الصهيوني... اقرأ المزيد
159
| 30 سبتمبر 2025
تعرف كلمة مارق في اللغة العربية بأنه الشخص الماكر أو المنحرف والذي لا قيمة له، وهي تعنى الشخص... اقرأ المزيد
129
| 30 سبتمبر 2025
ما السعادة إلا قرارٌ تتخذه الروح بوعيٍ كامل لتتصل بنبع حقيقتها، قرارٌ يهمس به المرء لذاته بأن يسمح... اقرأ المزيد
198
| 30 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
رئيس قسم الشراكات والبحوث
مركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان
شبكة الجزيرة الإعلامية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
4398
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
4059
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
3987
| 29 سبتمبر 2025