رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عصام بيومي

إعلامي وباحث سياسي
ماجستير العلوم السياسية

مساحة إعلانية

مقالات

627

عصام بيومي

عصر النضوج.. هل فات أوان العرب؟

12 مايو 2025 , 02:00ص

تحدثت سابقا عن «عصور» تاريخية وفكرية وصناعية عدة، وصولا إلى ما سميته «عصر البين بين». كان ذلك على المستوى العالمي، من منطلق تخصصي في العلاقات الدولية والعولمة. لكن أجد الآن حاجة للحديث عنا نحن العرب تحديدا، ونحن على أعتاب مرحلة تاريخية خطيرة. وبما أننا آخر الأجيال التي عايشت ما أعتبره «عصر النضوج» في تاريخنا العربي الذي صاغه بدرجة كبيرة تاريخ مصر، «أم الدنيا»، فأحسب أن علينا أن نفعل شيئا حتى لا تضيع ملامح هذا العصر، ويفوت أوانه بالكلية، بعد أن فقد زخمه وعنفوانه ووعوده. وقبل أن نسترسل مع ما يمكن فعله، نتحدث قليلا عن عصر النضوج ذاك، الذي ما كاد يصل ذروته بالتضامن العربي التاريخي في حرب أكتوبر 1973، حتى بدأ انهياره وتراجعه التاريخي أيضا والمأساوي بعدها بسنوات قليلة.

أحسب أن مصر والعرب جميعا، وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتسارُع «حركات التحرر»، دون الدخول في محاكمتها سياسيا ولا تاريخيا، كانوا قد بدأوا واحدا من أبهى عصورهم، في تاريخهم الحديث والمعاصر على كل المستويات. حيث تحضرت دولهم، ونضج فكرهم نضوجا تمثل بداية في تبلور أفكار المفكرين والسياسيين العظام الذين جاءوا في أول القرن بعدما تمت غربلة أفكارهم وتمحيصها بالقدر الذي جعل عرب الخمسينيات والستينيات نموذجا يسعد قلب كل من يحلم بمستقبل رائع لوطن، تبلورت صورته أدبا وشعرا وموسيقى في أوبريت «وطني الأكبر».

وعندما أقول السياسيين والمفكرين لا أقصد فقط أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، ولا عمر المختار وعبد القادر الجزائري وأمين الحسيني والقسّام. ولا أقصد فقط محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ولا المنفلوطي، والرافعي، ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل والعقاد والحكيم وطه حسين، ومالك بن نبي، ولا حتى من تبعهم بإحسان من أجيال الفكر الديني والأدبي والسياسي، ولكن أقصد أيضا أعلام الشعر من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والبارودي، وجبران ومطران، و...

وأقصد أيضا أعلام الصحافة بداية من عبدالله النديم والأخوين تقلا، مرورا بالتابعي والحمامصي وعلي أمين ومصطفى أمين وهيكل. وأقصد أيضا وبصفة خاصة الشعراء الكبار لمرحلة الخمسينيات والستينيات الذين شكلوا فعلا وقولا وجدان المصريين ومعهم معظم الشعوب العربية، من أمثال أحمد رامي وإبراهيم ناجي وأحمد عبد المعطي حجازي وأحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين ونزار قباني والجواهري والسياب وأحمد مطر والشابي وأمل دنقل والبردوني...

ومع كل هؤلاء أقصد أيضا أجيال المطربين الكبار أمثال سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم وفيروز والصافي وعبد الحليم والملحنين العظام أمثال السنباطي والقصبجي والموجي والطويل وبليغ والأخوين رحباني، وغيرهم الكثير. ولا أنسى هنا الحس الإيماني وعمالقة التلاوة من أمثال محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط وشعيشع والبنا والمنشاوي، وعملاق التواشيح سيد النقشبندي.

أقصد كل هؤلاء الذين صنعوا وجدان النضوج المصري العربي الذي تألق تألقا لمسه الجميع أفكارا فلسفية، وعلما وفنا، واصل إبداعَها وإنتاجَها مَنْ تسلموا الشعلة من جيل المفكرين والمبدعين الأوائل فوجدنا، الغزالي والشعراوي ومحمد عمارة، ووجدنا زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا والأنصاري والجابري... ووجدنا علماء أجلاء بداية من مصطفى مشرفة وحتى أحمد زويل، ووجدنا أدباً راقيا وعالميا مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي، والماغوط ومنيف والطيب صالح، يغترف من عمق وأصالة التاريخ العربي والمجتمع الشرقي، الذي انعكس حتى في تصميم الشوارع والمباني ولم تطغ عليه الحداثة، وخاصة في دولنا الخليجية التي أعطت للمسجد مكان الصدارة في تصميم مدنها، حتى ذلك الوقت. ولن أتحدث عن الأخلاق التي كانت ما تزال محتفظة بأطرها الإنسانية العربية الإسلامية المتعارف عليها عبر القرون، وانفلت أو «انفتح» عقالها مع ما سُمي سياسة الانفتاح والتطبيع التي ليس هنا أيضا مجال محاكمتها سياسيا ولا تاريخيا.

ومع الإقرار بتداخل الفترات الزمنية بين كل هؤلاء العمالقة فيمكن القول إنهم جميعا، مصريون وعرب، ساهموا في إحداث نهضة ونضوج في كل مناحي حياتنا العربية، فنا وسينما وتلفزيونا وإعلاما وصحافة ورياضة. وهنا أقصد رياضة كرة القدم التي كان لها ولمشجعيها رونق آخر في ذاك العصر؛ عصر النضوج الذي كان عليه أن يتلاشى نهاية السبعينات، مع بدء التطبيع مع العدو الصهيوني. تلك الفترة التي بدأت فيها عملية تراجع تدريجية، على كل المستويات، سُرق خلالها منا ذاك النضوج. وهنا نلاحظ أن الشيء الوحيد الذي لم يصل إليه عصر النضوج العربي كان هو الصناعة الثقيلة، التي ظهرت في سماء مصر لفترة وجيزة ثم اختفت كالشهب في السماء.

السؤال الآن، هل يمكن الإمساك بما تبقى من ملامح ذلك العصر ناهيك عن استرجاعه وتثبيته وتعميمه؟. هل بالإمكان، وقف الإنزلاق التاريخي، والإمساك بتلابيب عصر النضوج أم أنه فات أوانه وانتهى معه أوان العرب، الذين يستدرجهم التطبيع، ومَن وراءه، تدريجيا للذوبان في ثقافة وحضارة لا تمت بصلة لأي شيء عرفه العرب من قبل؟. ثقافة الاستهلاك والإلحاد والدين الإبراهيمي والتحلل بكل مستوياته من شذوذ، وخلاعة وانفلات أخلاقي، حيث تسود «ثقافة الجهل»، ويحل محل السياسيين أذناب للمحتل، ومحل المفكرين منافقون، ومحل الأدباء أفاقون ومحل الشعراء كذابون ومحل المشتغلين بالإعلام رويبضة مطبلون، وينهار كل ما كان جميلا في زمن النضوج ويذبل ويندمل، ويُختزل «وطني الأكبر» في أوبريت آخر هو «الحلم العربي» الذي كان يأسا وكابوسا أكثر منه حُلما!.... فماذا نحن فاعلون؟!

مساحة إعلانية