رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تحدثت سابقا عن «عصور» تاريخية وفكرية وصناعية عدة، وصولا إلى ما سميته «عصر البين بين». كان ذلك على المستوى العالمي، من منطلق تخصصي في العلاقات الدولية والعولمة. لكن أجد الآن حاجة للحديث عنا نحن العرب تحديدا، ونحن على أعتاب مرحلة تاريخية خطيرة. وبما أننا آخر الأجيال التي عايشت ما أعتبره «عصر النضوج» في تاريخنا العربي الذي صاغه بدرجة كبيرة تاريخ مصر، «أم الدنيا»، فأحسب أن علينا أن نفعل شيئا حتى لا تضيع ملامح هذا العصر، ويفوت أوانه بالكلية، بعد أن فقد زخمه وعنفوانه ووعوده. وقبل أن نسترسل مع ما يمكن فعله، نتحدث قليلا عن عصر النضوج ذاك، الذي ما كاد يصل ذروته بالتضامن العربي التاريخي في حرب أكتوبر 1973، حتى بدأ انهياره وتراجعه التاريخي أيضا والمأساوي بعدها بسنوات قليلة.
أحسب أن مصر والعرب جميعا، وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتسارُع «حركات التحرر»، دون الدخول في محاكمتها سياسيا ولا تاريخيا، كانوا قد بدأوا واحدا من أبهى عصورهم، في تاريخهم الحديث والمعاصر على كل المستويات. حيث تحضرت دولهم، ونضج فكرهم نضوجا تمثل بداية في تبلور أفكار المفكرين والسياسيين العظام الذين جاءوا في أول القرن بعدما تمت غربلة أفكارهم وتمحيصها بالقدر الذي جعل عرب الخمسينيات والستينيات نموذجا يسعد قلب كل من يحلم بمستقبل رائع لوطن، تبلورت صورته أدبا وشعرا وموسيقى في أوبريت «وطني الأكبر».
وعندما أقول السياسيين والمفكرين لا أقصد فقط أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، ولا عمر المختار وعبد القادر الجزائري وأمين الحسيني والقسّام. ولا أقصد فقط محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ولا المنفلوطي، والرافعي، ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل والعقاد والحكيم وطه حسين، ومالك بن نبي، ولا حتى من تبعهم بإحسان من أجيال الفكر الديني والأدبي والسياسي، ولكن أقصد أيضا أعلام الشعر من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والبارودي، وجبران ومطران، و...
وأقصد أيضا أعلام الصحافة بداية من عبدالله النديم والأخوين تقلا، مرورا بالتابعي والحمامصي وعلي أمين ومصطفى أمين وهيكل. وأقصد أيضا وبصفة خاصة الشعراء الكبار لمرحلة الخمسينيات والستينيات الذين شكلوا فعلا وقولا وجدان المصريين ومعهم معظم الشعوب العربية، من أمثال أحمد رامي وإبراهيم ناجي وأحمد عبد المعطي حجازي وأحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين ونزار قباني والجواهري والسياب وأحمد مطر والشابي وأمل دنقل والبردوني...
ومع كل هؤلاء أقصد أيضا أجيال المطربين الكبار أمثال سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم وفيروز والصافي وعبد الحليم والملحنين العظام أمثال السنباطي والقصبجي والموجي والطويل وبليغ والأخوين رحباني، وغيرهم الكثير. ولا أنسى هنا الحس الإيماني وعمالقة التلاوة من أمثال محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط وشعيشع والبنا والمنشاوي، وعملاق التواشيح سيد النقشبندي.
أقصد كل هؤلاء الذين صنعوا وجدان النضوج المصري العربي الذي تألق تألقا لمسه الجميع أفكارا فلسفية، وعلما وفنا، واصل إبداعَها وإنتاجَها مَنْ تسلموا الشعلة من جيل المفكرين والمبدعين الأوائل فوجدنا، الغزالي والشعراوي ومحمد عمارة، ووجدنا زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا والأنصاري والجابري... ووجدنا علماء أجلاء بداية من مصطفى مشرفة وحتى أحمد زويل، ووجدنا أدباً راقيا وعالميا مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي، والماغوط ومنيف والطيب صالح، يغترف من عمق وأصالة التاريخ العربي والمجتمع الشرقي، الذي انعكس حتى في تصميم الشوارع والمباني ولم تطغ عليه الحداثة، وخاصة في دولنا الخليجية التي أعطت للمسجد مكان الصدارة في تصميم مدنها، حتى ذلك الوقت. ولن أتحدث عن الأخلاق التي كانت ما تزال محتفظة بأطرها الإنسانية العربية الإسلامية المتعارف عليها عبر القرون، وانفلت أو «انفتح» عقالها مع ما سُمي سياسة الانفتاح والتطبيع التي ليس هنا أيضا مجال محاكمتها سياسيا ولا تاريخيا.
ومع الإقرار بتداخل الفترات الزمنية بين كل هؤلاء العمالقة فيمكن القول إنهم جميعا، مصريون وعرب، ساهموا في إحداث نهضة ونضوج في كل مناحي حياتنا العربية، فنا وسينما وتلفزيونا وإعلاما وصحافة ورياضة. وهنا أقصد رياضة كرة القدم التي كان لها ولمشجعيها رونق آخر في ذاك العصر؛ عصر النضوج الذي كان عليه أن يتلاشى نهاية السبعينات، مع بدء التطبيع مع العدو الصهيوني. تلك الفترة التي بدأت فيها عملية تراجع تدريجية، على كل المستويات، سُرق خلالها منا ذاك النضوج. وهنا نلاحظ أن الشيء الوحيد الذي لم يصل إليه عصر النضوج العربي كان هو الصناعة الثقيلة، التي ظهرت في سماء مصر لفترة وجيزة ثم اختفت كالشهب في السماء.
السؤال الآن، هل يمكن الإمساك بما تبقى من ملامح ذلك العصر ناهيك عن استرجاعه وتثبيته وتعميمه؟. هل بالإمكان، وقف الإنزلاق التاريخي، والإمساك بتلابيب عصر النضوج أم أنه فات أوانه وانتهى معه أوان العرب، الذين يستدرجهم التطبيع، ومَن وراءه، تدريجيا للذوبان في ثقافة وحضارة لا تمت بصلة لأي شيء عرفه العرب من قبل؟. ثقافة الاستهلاك والإلحاد والدين الإبراهيمي والتحلل بكل مستوياته من شذوذ، وخلاعة وانفلات أخلاقي، حيث تسود «ثقافة الجهل»، ويحل محل السياسيين أذناب للمحتل، ومحل المفكرين منافقون، ومحل الأدباء أفاقون ومحل الشعراء كذابون ومحل المشتغلين بالإعلام رويبضة مطبلون، وينهار كل ما كان جميلا في زمن النضوج ويذبل ويندمل، ويُختزل «وطني الأكبر» في أوبريت آخر هو «الحلم العربي» الذي كان يأسا وكابوسا أكثر منه حُلما!.... فماذا نحن فاعلون؟!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إعلامي وباحث سياسي
ماجستير العلوم السياسية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
795
| 16 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بظهور بعض الشخصيات والحركات، المدنية والمسلحة، التي تحاول القيام بأدوار إيجابية أو سلبية، وخصوصا في مراحل بناء الدول وتأسيسها. ومنطقيا ينبغي على مَن يُصَدّر نفسه للقيام بأدوار عامة أن يمتاز ببعض الصفات الشخصية والإنسانية والعملية والعلمية الفريدة لإقناع غالبية الناس بدوره المرتقب. ومن أخطر الشخصيات والكيانات تلك التي تتعاون مع الغرباء ضد أبناء جلدتهم، وهذا ما حدث في غزة خلال «طوفان الأقصى» على يَد «ياسر أبو شباب» وأتباعه!. و»أبو شباب» فلسطيني، مواليد 1990، من مدينة رفح بغزة، وَمَسيرته، وفقا لمصادر فلسطينية، لا تُؤهّله للقيام بدور قيادي ما!. ومَن يقرأ بعض صفحات تاريخ «أبو شباب»، الذي ينتمي لعائلة «الترابية» المستقرة في النقب وسيناء وجنوبي غزة، يجد أنه اعتُقِل في عام 2015، في غزة، حينما كان بعمر 25 سنة، بتهمة الاتّجار بالمخدّرات وترويجها، وحكم عليه بالسجن 25 سنة. وخلال مواجهات «الطوفان» القاسية والهجمات الصهيونية العشوائية على غزة هَرَب «أبو شباب» من سجنه بغزة، بعدما أمضى فيه أكثر من ثماني سنوات، وشكّل، لاحقا، «القوات الشعبية» بتنسيق مع الشاباك «الإسرائيلي»، ولم يلتفت إليها أحد بشكل ملحوظ بسبب ظروف الحرب والقتل والدمار والفوضى المنتشرة بالقطاع!. وبمرور الأيام بَرَزَ الدور التخريبي لهذه الجماعة، الذي لم يتوقف عند اعترافها بالتعاون مع أجهزة الأمن «الإسرائيلية» بل بنشر التخريب الأمني، والفتن المجتمعية، وقطع الطرق واعتراض قوافل المساعدات الإنسانية ونهبها!. وأبو شباب أكد مرارًا أن جماعته تَتَلقّى الدعم «دعماً من الجيش الإسرائيلي»، وأنهم عازمون على «مواصلة قتال حماس حتى في فترات التهدئة»!. وهذا يعني أنهم مجموعة من الأدوات الصهيونية والجواسيس الذين صورتهم بعض وسائل الإعلام العبرية كأدوات بديلة لتخفيف «خسائر الجيش الإسرائيلي باستخدامهم في مهام حسّاسة بدل الاعتماد المباشر على القوات النظامية»!. ويوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2025 أُعلن عن مقتل «أبو شباب» على يد عائلة «أبو سنيمة»، التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث: وأنهم «واجهوا فئة خارجة عن قيم المجتمع الفلسطيني». وبحيادية، يمكن النظر لهذا الكيان السرطاني، الذي أسندت قيادته بعد مقتل «أبو شباب» إلى رفيقه «غسان الدهيني» من عِدّة زوايا، ومنها: - الخيانة نهايتها مأساوية لأصحابها، وماذا يَتوقّع أن تكون نهايته مَن يَتفاخر بعلاقته مع الاحتلال «الإسرائيلي»؟ - دور جماعة «أبو شباب» التخريبي على المستويين الأمني والإغاثي دفنهم وهم أحياء، مِمّا جعل مقتل «أبو شباب» مناسبة قُوْبِلت بالترحيب من أكثرية الفلسطينيين وغيرهم. - مقتل «أبو شباب» يؤكد فشل الخطة «الإسرائيلية» بجعل مجموعته المُتَحكِّم بمدينة «رفح» وجعلها منطقة «حكم ذاتي» خارج سيطرة المقاومة، وبهذا فهي ضربة أمنية كبيرة «لإسرائيل» التي كانت تُعوّل عليهم بعمليات التجسّس والتخريب. - قد تكون «إسرائيل» تَخلّصت منه، قبل إرغامها، بضغوط أمريكية، على المضي بالمرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار وذلك بتركه ليواجه مصيره كونه قُتِل بمنطقة سيطرة جيشها!. - الحادثة كانت مناسبة لدعم دور المقاومة على أرض غزة، ونقلت هيئة البثّ «الإسرائيلية»، الأحد الماضي، عن مصادر فلسطينية أن «مسلحين ينتمون لمليشيات عشائرية معارضة لحماس سَلّموا أنفسهم طواعية لأجهزة (حماس) الأمنية في غزة». منطقيًا، لو كانت جماعة «أبو شباب» جماعة فلسطينية خالصة ومنافسة بعملها، السياسي والعسكري، للآخرين بشفافية وصدق لأمكن قبول تشكيلها، والتعاطي معه على أنه جزء من المشاريع الهادفة لخدمة القطاع، ولكن حينما تَبرز خيوط مؤكدة، وباعترافات واضحة، بارتباط هذا الكيان وشخوصه بالاحتلال «الإسرائيلي» فهنا تكون المعضلة والقشّة التي تَقصم ظهر الكيان لأن التعاون مع المحتل جريمة لا يُمكن تبريرها بأيّ عذر من الأعذار. مقتل «أبو شباب» كان متوقعا، وهي النهاية الحتمية والسوداء للخونة والعملاء الذين لا يَجدون مَن يُرحب بهم من مواطنيهم، ولا مَن يَحْتَرِمهم من الأعداء، ولهذا هُم أموات بداية، وإن كانوا يمشون على الأرض، لأنهم فقدوا ارتباطهم بأهلهم وقضيتهم وإنسانيتهم.
657
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة المنال، ويظنون أن تحصيلها لا يكمن سوى في تحقيق طموحاتهم ومضامين خططهم، لكن السعادة ربما تأتيك على هيئة لا تنتظرها، قد تأتي فجأة وأنت في لحظة من الغفلة، فتكون قريبة منك أشد القرب، كما لو كانت تلتف حولك وتحيط بك من كل جانب. كثيرًا ما تختبئ السعادة في تلك التفاصيل التي لا تكترث بها، في تلك اللحظات التي تمر سريعة وكأنها حلم. ربما مر عليك تلك الليلة التي تلوت فيها القرآن، فتوقف قلبك عند آية بعينها، فانبعثت من أعماقك مشاعر جديدة، فسالت دموعك على وجنتيك، أو ربما كانت تلك الدمعة الثمينة قد سكبتها في إناء ركعة بجوف الليل، فسرت فيك طمأنينة وسكينة ورقة لم تعهدها، لا تعدل بها شيئًا من لذات الدنيا، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وربما مر عليك يوم، كنت تقلب منزلك رأسًا على عقب بحثًا عن شيء مفقود، وبينما أنت في حال من اليأس، تتذكر موضعه، أو يظهر لك في موضع لم تتوقعه كأنه يهدئ من روعك قائلًا: «هأنذا»، فتبتسم وتبتسم وتتسع ابتسامتك، ألم تكن هذه اللحظة الرائعة موعدًا لك مع السعادة؟ وذلك الفقير الذي يعاني من ضيق اليد، ربما قضى ليلته مهمومًا يفكر كيف يدبر قوتًا أو شيئًا من أمور المعاش لأهله، وبينما يخرج مجترًا همومه، يكتشف في جيب سترته القديمة ورقات نقدية قد نسيها منذ العام الماضي، فيتحول ذلك الفقر إلى لحظة من الفرح، ألم يكن هذا الرجل على موعد مع السعادة؟ حدثني أحدهم وكان حديث عهدٍ بالزواج أن صديقًا طرق بابه يطلب منه بعض المال، وهو لا يملك في جيبه غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيه، لكنه يأبى أن يرد سائله، ويؤثره على نفسه رغم الخصاصة، ثم في نفس اليوم تزوره خالة له جاءت من سفر على غير موعد، لتبارك له وتهنئه، فأعطته مبلغًا من المال، فإذا به يراه نفس المبلغ الذي بذله إلى صديقه بالتمام والكمال لم ينقص منه قرش، فتجلى أمامه ذلك الوعد الإلهي بالعوض، ألم يكن ذلك الرجل على موعد مع السعادة؟ وذاك الذي كان على وشك أن يسقط في يد أعدائه وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه، وبينما كان الخنجر يوشك أن يغرس في صدره، إذا به يستفيق فجأة من حلم مزعج، ويكتشف أنه كان مجرد كابوس، فيحمد الله على نجاته باليقظة من ذلك الهلع، ألم يكن وقت نجاته من ذلك الكابوس على موعد مع السعادة؟ وماذا عن تلك اللحظة التي أخذت فيها بيد عجوز هرم، تمشي بصعوبة وتبدو ملامحها تحمل سنوات من التجاعيد، لتسير بها إلى الجهة الأخرى من الطريق؟ ثم ترى تلك الدعوات التي تتدفق منها، والتي تظل تشعرك بالدفء والسعادة، وكأن دعاءها درعٌ لك، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وكم هي السعادة حقيقية عندما يتمكن من الإصلاح بين زوجين كانا على شفير الفراق، فيكون سببًا في حماية ذلك البيت من الخراب؟ أو عندما يغمره الضحك على فكاهة بريئة تكاد تطيح به على ظهره من شدة السعادة؟ ألا يجد السعادة في تلك اللحظة الصغيرة عندما يقابل طفلة مبتسمة في الشارع، تملأ قلبه بالفرح بلا سبب آخر سوى ابتسامتها الطفولية؟ أليست كل هذه المشاهد مواعيد للمرء مع السعادة؟ السعادة تكمن في كل زاوية، في لمحة صغيرة، في حديث عابر، في ابتسامة، في دعوة، في لحظة طمأنينة، في إنجاز بسيط. نحن الذين نغفل عنها لأننا نبحث عنها في مكان بعيد، ولو أننا فهمنا أن السعادة ليست في ما نمتلكه من أشياء، بل في قدرتنا على الرضا، لتغيرت حياتنا. ليتنا ندرك أن السعادة ليست حلمًا بعيدًا أو حلمًا محجوزًا لمن يسعى للوصول إلى شيء معين، بل هي لحظات متجددة متغيرة متناوبة في كل يوم. السعادة موجودة في القلوب الراضية، وفي الأرواح الطاهرة، وفي الأبصار التي تلتقط جمال الحياة حتى في أصغر تفاصيلها، وما علينا سوى أن نرصد واقعنا بعين القناعة والتفاؤل، نتخلى قليلًا عن النظارة السوداء، فندرك أن مواعيد السعادة لا تنتهي.
642
| 14 ديسمبر 2025