رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إذا كان قرار سحب سفراء بعض دول مجلس التعاون من دولة قطر سابقة غير معروفة في مسيرة مجلس التعاون - التي تجاوزت الثلاثة والأربعين عاماً، حفلت بالكثير من الطموحات والأماني، وكذلك المنغصات والهزّات والتي كانت تُحلّ ببعد الأفق والتسويات التوفيقية داخل الأسرة الخليجية بعيداً عن إشراك الشعوب في تلك المنغصات والهزات – فإن توقيف أو توقف بعض الكتاب الخليجيين من الكتابة في الصحف الخليجية الأخرى أمر لا يَسُر، ويبدو بعيداً عما ألفتهُ شعوب الخليج من ضرورة تأكيد كل أشكال المواطنة الخليجية، ذلك أن هذه الشعوب كانت متماسكة ومتعاونة قبل إنشاء مجلس التعاون، كما أن الانتماءات العائلية، وحالات التداخل عبر المصاهرة، ورحلات البحث عن الرزق جعلت (الكويتي) يستقر في البحرين، و(الإماراتي) يستقر في قطر و(البحريني) في السعودية، وكانت الحدود مفتوحة وطلب الرزق وزيارة الأهل حق مشروع للجميع دونما حواجز أو فرمانات.
ومع تطور دول التعاون، ونضجها السياسي ورخائها الاقتصادي، والتغيّرات التي حدثت في دول الجوار، استلزم الأمر وجود مظلة سياسية أمنية واقتصادية واجتماعية، هي مجلس التعاون الذي أُنشئ بواسطة الدول الست عام 1981، وبرضا هذه الدول، دون أي مساس بسيادتها واستقلال قرارها كدولة مستقلة.
ولقد سعى المجلس نحو تحقيق أهدافه كما وردت في النظام الأساسي، أصابَ حيناً، ولم يوفق أحياناً، وظهرت بعض "المُنغصات" في المسيرة الخليجية، كانت دوماً تُحل – كما قلنا – في الإطار الأخوي وبصوت هادئ وعاقل.
الأمر الجديد الذي لاحظناهُ هو توقف أو توقيف – كما نُشر في وسائل التواصل الاجتماعي على لسان بعض الكتّاب الخليجيين – عن الكتابة في الصحف القطرية! وهو أمر لم يسبق أن عاصرناه!؟ لأن الكتابة أمر شخصي ولا يجوز لأية جهة منع كاتب أو حرمانه من اختيار الوسيلة التي يُعبّر فيها عن رأيه، الذي تكفله كلُ دساتير دول مجلس التعاون، وكذلك المواثيق الدولية، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. خصوصاً إن التزم الكاتب بالرأي السديد ولم يتدخل في شؤون الآخرين، وحافظ على نزاهة القلم وقدسية الكلمة.
إن ظاهرة (التراشق) عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول تلك المسألة قد تجاوز الحد في بث الفرقة بين شعوب الخليج، ولقد (دخل على الخط من لا ناقة لهم ولا جمل) في المسألة الخليجية، وصار بعض المذيعات في القنوات العربية " يأمرن" بإدخال هذه الدولة في مجلس التعاون وإخراج الدولة الأخرى، هكذا، دونما إلمام بالقضايا القانونية، أو معرفة بالنظام الأساس لمجلس التعاون! ولكأنَّ مجلس التعاون (الطوفة الهبيطة) في نظر بعض الموتورين من الإعلاميين العرب.
نقول: إن ظاهرة (التراشق) الإعلامي بين الناس قد تكون أمراً طبيعياً نتيجة الحماس وأحياناً الاندفاع الأعمى المُتسرع لدى الشباب، دون فهم أو استيعاب القضايا التي تمرُّ بها المنطقة، أو استحضار تاريخ ومقاربات أنظمة الحُكم فيها. ولكن ما هو غير طبيعي أن يتم توقيف كتّاب خليجيين من الكتابة في الصحف الأخرى! ولكأن حال البعض يقول: خلاص.. انتهى مجلس التعاون.. وأن جدراناً " عازلة" ستُقام بين الدول، وأن كل تاريخ القربى والمصير المشترك وآمال الخليجيين قد انقضت أو انفصمت!؟
إن توقف أو توقيف بعض الكتّاب الخليجيين يؤدي إلى تشطير الكتّاب الخليجيين إلى أكثر من " فسطاط" – على الطريقة البن لادنية – ولكأن الكتّاب موظفون لدى وزارات الإعلام، ودون أي التفات لمؤهلاتهم وخبراتهم، وبعضهم من الأكاديميين المستقلين، وأصحاب بحث علمي، يتجاوز الجوار الجغرافي، ولا يجوز أن " يُحشر" في أية خلافات سياسية، قد يتم حلُّها بين الأشقاء!؟ ذلك أن الكاتب قد التزم مع الجريدة ومع القارئ على لقاء يومي أو أسبوعي، كما أن الكتّاب الخليجيين (يُعدّون على الأصابع) في مقارنة مع الكتّاب العرب الذين يكتبون في الصحف الخليجية، وإذا ما تم إيقافهم فتلك سابقة، تجعل من القارئ يفقد ثقته في استقلالية الكاتب والجريدة وحقها في أن يكون لها ما تختاره من كتاب الرأي، وإذا آمنّا بأن ذلك هو القرار الصائب، فإن الأكاديميين الخليجيين الذي يُدّرسون في الجامعات الخليجية، والطيارين، وعمال النفط، وموظفي البنوك، وأصحاب الاستثمارات، ورجال الدين الخليجيين ممن يعملون في الدول الأخرى سوف ينالهم نفس ما نال الكتاب!؟
وهل من المعقول، بعد مسيرة مجلس التعاون الطويلة، أن يفكّر البعض بهذه الصورة الانعزالية والعدائية، لمجرد حدث سياسي حَلّ بين الأشقاء، في الوقت الذي مرّت قبل ذلك أحداثٌ أكبر وأعتى وسالت في بعضها دماءٌ بريئة على الحدود فيما بين الدول، ولم يحدث أن تم سحب السفراء من أي بلد خليجي أو تم إيقاف كاتب من الكتابة في صحف خليجية.
كما أن الكاتب الخليجي يكتب لأبناء عمومته وأبناء خؤولته، ولربما لأسرته التي تقيم في البلد الخليجي الآخر، وليس من المعقول أن يُصار إلى وقف هذا الكاتب، خصوصاً إن لم يخرج على أصول وتقاليد الكتابة، ولم يكن طرفاً في إشعال النيران بين الأشقاء الخليجيين، قدر ما يكون عاقلاً في تعامله مع الكلمة، مؤمناً بفضيلة الحق والخير، كارهاً للكراهية والعدوان والانحياز الأعمى.
نحن نشعر بالألم عندما نسمع عن توقيف كاتب في أي مكان من العالم! لأننا نؤمن بحرية الاختيار وحرية الكلمة وحق الكاتب في إبداء رأيه حسبما تؤيده في ذلك المواثيق الدولية، ولعل أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فكيف يتم وقف كتّاب خليجيين من الكتابة في الصحف الخليجية، بعد أن " علَّمونا" على مدى أكثر من ثلاثين عاماً (خليجنا واحد.. وشعبنا واحد..) كما أن الاتفاقيات التي عُقدت في إطار مجلس التعاون تنص على معاملة الخليجي معاملة المواطن في البلد الآخر، وأن هدف مجلس التعاون الأهم هو تحقيق (المواطنة الخليجية)! فهل (راحت السكرة وجاءت الفكرة)!؟ وما بنيناه في ثلاثين عاماً وما علمّناه لأولادنا، وما كتبناه في مناهجنا التعليمية وأغانينا، وما واجهنا به الاتحاد الأوروبي، كان مجرد وهم، وآلية لحرق المراحل!؟
نحن نتمنى عدم الاستعجال في اتخاذ قرارات متسرعة لا تخدم مواطني دول المجلس، ولا تحقق فائدة لأي بلد، ذلك أن حرمان الكاتب الخليجي من الكتابة في البلد الخليجي الآخر يعني - ضمن ما يعني أيضاً - عدم تداول الكتب الإبداعية الخليجية في البلد الآخر، وعدم بث الأغاني الخاصة بفناني الدول الأخرى، بل وقد يعني عدم جواز دخول هذا الصحافي إلى ذاك البلد الآخر!؟
نحن نؤمن بحكمة قادة دول المجلس ورؤيتهم للصواب، ولما يفيد شعوبهم وأوطانهم، وبرأينا أن القضايا السياسية يحلّها أصحابُها، وهم على قدْر من المسؤولية والحكمة، بعيداً عن توتير الأجواء وقرارات المُصادرة للرأي، لأن هذه قيم سادت في مجتمع الخليج، وليس من الحكمة التراجع عنها، كونها مكتسبات حضارية، ثم إن علاقات الدول – في أي مكان من العالم – تتعرض لبعض الاختلافات في الرؤى، وليس من الحكمة بث ثقافة القطيعة بين أبناء المجتمع الخليجي، ولكأن حرب (داحس والغبراء) على الأبواب.. وأنَّ ثقافة (وساعة الصدر) من السجايا الحميدة وقت الشدائد.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8757
| 09 أكتوبر 2025
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
6936
| 06 أكتوبر 2025
في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها الوطنية، يقف الأرشيف القطري أمام تحدٍّ كبيرٍ بين نار الإهمال الورقي وجدار الحوسبة المغلقة. فبين رفوف مملوءة بالوثائق القديمة، وخوادم رقمية لا يعرف طريقها الباحثون، تضيع أحيانًا ملامح تاريخنا الذي يستحق أن يُروى كما يجب وتتعثر محاولات الذكاء الاصطناعي في استيعاب هويتنا وتاريخنا بالشكل الصحيح. فلا يمكن لأي دولة أن تبني مستقبلها دون أن تحفظ ماضيها. لكن جزءًا كبيراً من الأرشيف القطري ما زال يعيش في الظل، متناثرًا بين المؤسسات، بلا تصنيف موحّد أو نظام حديث للبحث والاسترجاع. الكثير من الوثائق التاريخية المهمة محفوظة في أدراج المؤسسات، أو ضمن أنظمة إلكترونية لا يستطيع الباحث الوصول إليها بسهولة. هذا الواقع يجعل من الصعب تحويل الأرشيف إلى مصدر مفتوح للمعرفة الوطنية، ويهدد باندثار تفاصيل دقيقة من تاريخ قطر الحديث. في المقابل، تمتلك الدولة الإمكانيات والكوادر التي تؤهلها لإطلاق مشروع وطني شامل للأرشفة الذكية، يعتمد على الذكاء الاصطناعي في فهرسة الوثائق، وتحليل الصور القديمة، وربط الأحداث بالأزمنة والأماكن. فبهذه الخطوة يمكن تحويل الأرشيف إلى ذاكرة رقمية حيّة، متاحة للباحثين والجمهور والطلبة بسهولة وموثوقية. فبعض الوثائق تُحفظ بلا فهرسة دقيقة، وأخرى تُخزَّن في أنظمة مغلقة تمنع الوصول إليها إلا بإجراءاتٍ معقدة. والنتيجة: ذاكرة وطنية غنية، لكنها مقيّدة. الذكاء الاصطناعي... فرصة الإنقاذ، فالذكاء الاصطناعي فرصة نادرة لإحياء الأرشيف الوطني. فالتقنيات الحديثة اليوم قادرة على قراءة الوثائق القديمة، وتحليل النصوص، والتعرّف على الصور والمخطوطات، وربط الأحداث ببعضها زمنياً وجغرافياً. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحوّل ملايين الصفحات التاريخية إلى ذاكرة رقمية ذكية، متاحة للباحثين والطلاب والإعلاميين بضغطة زر. غير أن المشكلة لا تتوقف عند الأرشيف، بل تمتد إلى الفضاء الرقمي. فعلى الرغم من التطور الكبير في البنية التحتية التقنية، إلا أن الإنترنت لا يزال يفتقر إلى محتوى قطري كافٍ ومنظم في مجالات التاريخ والثقافة والمجتمع. وحين يحاول الذكاء الاصطناعي تحليل الواقع القطري، يجد أمامه فراغًا معرفيًا كبيرًا، لأن المعلومة ببساطة غير متاحة أو غير قابلة للقراءة الآلية. الذكاء الاصطناعي لا يخلق المعرفة من العدم، بل يتعلم منها. وعندما تكون المعلومات المحلية غائبة، تكون الصورة التي يقدمها عن قطر مشوشة وغير مكتملة، ما يقلل من فرص إبراز الهوية القطرية رقمياً أمام العالم. فراغ رقمي في عالم متخم بالمعلومات.....حين يكتب الباحث أو الصحفي أو حتى الذكاء الاصطناعي عن موضوع يتعلق بتاريخ قطر، أو بأحد رموزها الثقافية أو أحداثها القديمة، يجد أمامه فراغًا معلوماتيًا واسعًا. مثالنا الواقعي كان عند سؤالنا لإحدى منصات الذكاء الاصطناعي عن رأيه بكأس العالم قطر2022 كان رأيه سلبياً نظراً لاعتماده بشكل كبير على المعلومات والحملات الغربية المحرضة وذلك لافتقار المنصات الوطنية والعربية للمعلومات الدقيقة والصحيحة فكثير من الأرشيفات محفوظة داخل المؤسسات ولا تُتاح للعامة، والمواقع الحكومية تفتقر أحيانًا إلى أرشفة رقمية مفتوحة أو واجهات بحث متطورة، فيما تبقى المواد المحلية مشتتة بين ملفات PDF مغلقة أو صور لا يمكن تحليلها والنتيجة: كمٌّ هائل من المعرفة غير قابل للقراءة الآلية، وبالتالي خارج نطاق استفادة الذكاء الاصطناعي منها. المسؤولية الوطنية والمجتمعية تتطلب اليوم ليس فقط مشروعاً تقنياً، بل مشروعاً وطنياً شاملًا للأرشفة الذكية، تشارك فيه الوزارات والجامعات والمراكز البحثية والإعلامية. كما يجب إطلاق حملات توعوية ومجتمعية تزرع في الأجيال الجديدة فكرة أن الأرشيف ليس مجرد أوراق قديمة، بل هو هوية وطنية وسرد إنساني لا يُقدّر بثمن. فالحفاظ على الأرشيف هو حفاظ على الذاكرة، والذاكرة هي التي تصنع الوعي بالماضي والرؤية للمستقبل، يجب أن تتعاون الوزارات، والجامعات، والمراكز الثقافية والإعلامية والصحف الرسمية والمكتبات الوطنية في نشر محتواها وأرشيفها رقمياً، بلغتين على الأقل، مع الالتزام بمعايير التوثيق والشفافية. كما يمكن إطلاق حملات مجتمعية لتشجيع المواطنين على المساهمة في حفظ التاريخ المحلي، من صور ومذكرات ووثائق، ضمن منصات رقمية وطنية. قد يكون الطريق طويلاً، لكن البداية تبدأ بقرار: أن نفتح الأبواب أمام المعرفة، وأن نثق بأن التاريخ حين يُفتح للعقول، يزدهر أكثر. الأرشيف القطري لا يستحق أن يُدفن في الأنظمة المغلقة، بل أن يُعاد تقديمه للعالم كصفحات مضيئة من قصة قطر... فحين نفتح الأرشيف ونغذي الإنترنت بالمحتوى المحلي الموثق، نصنع جسرًا بين الماضي والمستقبل، ونمنح الذكاء الاصطناعي القدرة على رواية قصة قطر كما يجب أن تُروى. فالذاكرة الوطنية ليست مجرد وثائق، بل هويةٌ حيّة تُكتب كل يوم... وتُروى للأجيال القادمة.
2340
| 07 أكتوبر 2025