رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هل بوسع الخطوات التي تبناها الاجتماع الطارئ للجنة مبادرة السلام العربية الذي عقد بالقاهرة يوم الأربعاء الفائت, بمشاركة وزراء خارجية وممثلي 15 دولة عربية أن تدفع الكيان الصهيوني إلى وقف ارتداداته القمعية والعدوانية ضد الشعب الفلسطيني والتي تتصاعد يوما بعد يوم ؟
لقد جاء عقد هذا الاجتماع في سياق رد الفعل العربي المباشر على الأعمال الإرهابية الأخيرة لقطعان المستوطنين وتلبية لطلب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس, وتمخض - بعد تقرير قدمه أبو مازن ومداخلات من بعض وزوراء الخارجية العرب -عن جملة من الخطوات الرامية لوقف إرهاب وجرائم المستوطنيين في مقدمتها :
أولا: القيام بسلسة من المشاورات العربية والدولية لطرح مشروع قرار أمام مجلس الأمن الدولي حول الجرائم الإرهابية للمجموعات الاستيطانية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على نحو يدفع المجلس, لتحمل مسؤولياته لوقف الاستيطان في أراضي دولة فلسطين المحتلة وعلى رأسها القدس الشرقية.
ثانيا: دعم الإجراءات التي تقوم بها دولة فلسطين بعد أن رفعت ملف جريمة حرق عائلة الدوابشة, إلى المحكمة الجنائية الدولية ودعوة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون, إلى تفعيل طلب الرئيس أبو مازن بإنشاء نظام خاص للحماية الدولية للشعب الفلسطيني في أراضي دولة فلسطين المحتلة.
ثالثا: المطالبة بوضع المجموعات الاستيطانية الإسرائيلية على قوائم المنظمات الإرهابية, وملاحقة أعضائها أمام المحاكم الدولية وذلك بعد تكرارهم لعمليات حرق حرق المواطنين الفلسطينيين, من قبل المستوطنين الإسرائيليين الذين تأتي بهم وتحميهم الحكومة الإسرائيلية, ضمن سياسات ومحاولات سن قوانين عنصرية تذكي الكراهية والتطرف والإرهاب ..
رابعا: تحميل الحكومة الإسرائيلية المسؤولة الكاملة عن كل هذه الجرائم والأعمال الإرهابية التي يقوم بها قطعان الصهاينة وهو أمر شدد عليه أيضا الرئيس أبومازن في كلمته أمام الاجتماع ما جعله يطالبها بالقيام في التحقيق فيها، باعتبارها شريكا مع هؤلاء القطعان, وبالتالي هي شريك في هذه الجرائم الإرهابية"، وهنا يلفت أبو مازن إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ارتكبت 11 ألف جريمة منذ عام 2004 ضد الشعب الفلسطيني ودون أن تعترف حتى الآن، داعيا الحكومة الإسرائيلية إلى أن تعترف بجرائمها، خاصة أنها ترفض الآن وقف الاستيطان أو الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، دون أن ينسى أبو مازن تحميل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري جانبا من المسؤولية لأن إدارته "لم تتمكن من تنفيذ ما وعدت به وتساهلت مع الحكومة الإسرائيلية", وهي في تقدير كاتب هذه السطور شريك كامل لحكومة بنيامين نتنياهو ولقطعان المستوطنيين فهي التي تعلن التزامها دوما – كما جاء على لسان الرئيس باراك أوباما- بأمن وببقاء إسرائيل, في إطار التحالف الإستراتيجي الذي يربطهما منذ عقود, ويحتم على واشنطن أن تجعلها أكثر تفوقا على كل جيرانها العرب وغير العرب من الناحية العسكرية والإستراتيجية .
هذا جوهر ما اتفق عليه العرب, وهو لايخرج كثيرا عن النصوص السابقة وإن اشتدت اللهجة هذه المرة, بعد ما جرى لعائلة دوابشة على نحو يعكس بشاعة الفعل والقائمين عليه والمساندين له, غير أن هذه الخطوات والمطالبات ستظل ترواح مكانها ولن يمكن تطبيقها على الأرض, لأن العرب يبدون الآن من السذاجة بمكان في ظل تمحور خطابهم على التحرك السياسي والدبلوماسي, والذي اعتبروه كما أسلفت خيارهم الإستراتيجي الوحيد منذ العام 2002, بينما الكيان الصهيوني وقطعان مستوطنيه لايؤمن إلا بخيار القوة, وفرض الحقائق على الأرض من خلال اللجوء إلى القوة المفرطة, ومن يعترض من الفلسطينيين يعاقب فورا إما بالقتل أو الإصابة المعوقة, أو بالاعتقال والزج به في سجون لاتعرف معنى الرحمة أو القواعد الإنسانية في التعامل مع السجين الأسير والطالع من رحم الاحتلال, وهو ما دأبت عليه سلطات الاحتلال منذ إعلانها كيانها غير الشرعي على أرض فلسطين وتصاعدت حدته ووتيرته بعد اتفاق أوسلو الذي ظن صانعوه, بالذات من قبل الفلسطينيين, أنه سيشكل الخطوة الأولي باتجاه الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية, لاسيما بعد اعترافهم الرسمي بدولة الكيان ومنذ هذه اللحظة, بات منحى التنازلات والترقب والانتظار يشهد المزيد من الهبوط, لم يصعد أبدا منذ العام 1993, بل اتسعت عدوانية الكيان, وأخذت أشكالا وأنماطا شديدة الإفراط عنوانها إنهاء هوية الشعب الفلسطيني, من خلال متابعة المشروع الاستيطاني الاستعماري, دون أن يتعرض لردع من قانون أو شرعية دولية, ناهيك عن إدراكه الحقيقي لمكامن الضعف في النظام الإقليمي العربي برمته, وحتى إن تمحك البعض بما اعترى هذا النظام من اتساع منظومة الضعف في أعقاب ثورات الربيع الربيع العربي, وما نجم عنها من دخول أقطار عربية دائرة التفكيك والحرب الأهلية والانقسام الطائفي والمذهبي, وهي عوامل تبعث على هشاشة هذا النظام مثلما نتابعه في المرحلة الراهنة, فإن الكيان حتى قبل هذه الثورات كان يمارس عدوانيته بأريحية تامة دون أن يتحرك لهذا النظام طرف لحماية الفلسطينيين, سوى المطالبة بتحمل مجلس الأمن والشرعية الدولية لمسؤولياتها وهو أمر بات بعيد المنال فكلاهما – أي المجلس والشرعية – خاضعان لهيمنة القوة الدولية الوحيدة في العالم, والتي ما تفتأ عن استخدام سلاح النقض – حق الفيتو- ضد أي قرار يشعر الكيان أنه ينطوي على عقاب أو تأثيرات سلبية, ومن ثم عجزت الشرعية الدولية عن القيام بأي خطوة يمكن اعتبارها إيجابية تجاه الفلسطينيين, بما في ذلك حل الدولتين الذي تبنته الإدارة الأمريكية منذ زمن غير المأسوف عليه جورج بوش الابن .
هل يعني ذلك أنني أدفع النظام العربي إلى الانخراط في عتمة اليأس؟ لابالطبع؟ فما زالت هناك أوراق قوة بمقدوره أن يوظفها على النحو الأمثل, أولها السعي بقوة للخروج من حالة الاضطراب غير المسبوقة التي دخلها إما بإرادة وحداته, أو فرضت عليه فرضا من خلال تبني الحلول السياسية للأزمات الراهنة, وإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس مغايرة تقوم في المقام الأول على مبدأ المواطنة, بعيدا عن منهجية المحاصصة المذهبية والطائفية والعرقية التي تكاد تمزق أقطار العرب, خاصة في الدول المؤثرة على مسار الصراع العربي الصهيوني, والتي تآكلت قدرات جيوشها القتالية بعد إنهاكها في معارك جانبية ضد شعوبها وليس ضد العدو الحقيقي (سوريا نموذجا), بالطبع إلى جانب تنبي الديمقراطية والتعددية السياسية باعتبارها خيارات أساسية للنظام الحاكم مهما كانت طبيعة توجهاته, ورهن ذلك بتطبيق منظومة شاملة للعدالة الاجتماعية, بما يفك الارتباط بين أحوال المواطنيين والفقر وهي العلاقة التي تبدو أزلية في المنطقة العربية .
هذا أولا, أما ثانيا, فإن النظام الإقليمي العربي بات مطالبا بالتخلي عن فكرة كون السلام خيارا إستراتيجيا وحيدا, وعليه أن يبدأ في بناء معادلة قوة شاملة بما في ذلك القوة العسكرية, من خلال الاعتماد على القدرات الذاتية, أو بالاستعانة بحلفاء في العالم ليس لديهم ارتباطات والتزامات تجاه الكيان الصهيوني, على نحو ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية.
أما ثالثا, فإنه بات من الضرورة بمكان – وهو أمر تحدث فيه كاتب هذه السطور وغيره من الكتاب والمتابعين للشأن العربي العام – وقف الحوافر المقدمة طوعا للكيان, وفي مقدمتها التطبيع العلني والأخطر منه المستور مع حكومته وشركاته ورجال أعماله ومستشفياته, والقيام بما يمكن وصفه بحالة تعبية قومية, من خلال سحب كافة الدبلوماسيين العرب من تل أبيب, وفي الوقت نفسه تطهير العواصم العربية من كافة دبلوماسييه وأغلبهم هم عناصر من الموساد .
إن المطلوب هو إشعار الكيان بأنه عدو وليس صديقا, تلك خطوة يمكن أن تؤتي أكلها وتقض مضاجعه وقد تدفعه إلى تغيير سلوكه العدواني أو التقليص منه, لأنه كان يهدف, منذ أن تأسس على يد الإرهابي بن جوريون وغيره من رموز عصابات الكيان, إلى اختراق الجوار وتطبيع العلاقات مع شعوب المنطقة .
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على... اقرأ المزيد
1617
| 26 سبتمبر 2025
أن تقضي أكثر من سبعين عاماً في هذه الحياة ليس مجرد مرور للزمن، بل هي رحلة مليئة بالتجارب،... اقرأ المزيد
240
| 26 سبتمبر 2025
تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة، تتراوح بين الصدمات النفسية، والانقسامات المجتمعية، وانهيار البنى الثقافية والاجتماعية.... اقرأ المزيد
531
| 26 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في عالم اليوم المتسارع، أصبحت المعرفة المالية ليست مجرد مهارة إضافية، بل ضرورة تمس حياة كل فرد وإذا كان العالم بأسره يتجه نحو تنويع اقتصادي يخفف من الاعتماد على مصدر واحد للدخل، فإن قطر – بما تمتلكه من رؤية استراتيجية – تدرك أن الاستدامة الاقتصادية تبدأ من المدارس القطرية ومن وعي الطلاب القطريين. هنا، يتحول التعليم من أداة محلية إلى بوابة عالمية، ويصبح الوعي المالي وسيلة لإلغاء الحدود الفكرية وبناء أجيال قادرة على محاكاة العالم لا الاكتفاء بالمحلية. التعليم المالي كاستثمار في الاستدامة الاقتصادية القطرية: عندما يتعلم الطالب القطري إدارة أمواله، فهو لا يضمن استقراره الشخصي فقط، بل يساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني. فالوعي المالي يساهم في تقليل الديون وزيادة الادخار والاستثمار. لذا فإن إدماج هذا التعليم يجعل من الطالب القطري مواطنا عالمي التفكير، مشاركا في الاقتصاد العالمي وقادرا على دعم قطر لتنويع الاقتصاد. كيف يمكن دمج الثقافة المالية في المناهج القطرية؟ لكي لا يبقى الوعي المالي مجرد شعار، يجب أن يكون إدماجه في التعليم واقعًا ملموسًا ومحاكيًا للعالمية ومن المقترحات: للمدارس القطرية: • حصص مبسطة تدرّب الطلاب على إدارة المصروف الشخصي والميزانية الصغيرة. • محاكاة «المتجر الافتراضي القطري» أو «المحفظة الاستثمارية المدرسية». للجامعات القطرية: • مقررات إلزامية في «الإدارة المالية الشخصية» و»مبادئ الاستثمار». • منصات محاكاة للتداول بالأسهم والعملات الافتراضية، تجعل الطالب يعيش تجربة عالمية من داخل قاعة قطرية. • مسابقات ريادة الأعمال التي تدمج بين الفكر الاقتصادي والابتكار، وتبني «وعيًا قطريًا عالميًا» في آن واحد. من التجارب الدولية الملهمة: - تجربة الولايات المتحدة الأمريكية: تطبيق إلزامي للتعليم المالي في بعض الولايات أدى إلى انخفاض الديون الطلابية بنسبة 15%. تجربة سنغافورة: دمجت الوعي المالي منذ الابتدائية عبر مناهج عملية تحاكي الأسواق المصغرة - تجربة المملكة المتحدة: إدراج التربية المالية إلزاميًا في الثانوية منذ 2014، ورفع مستوى إدارة الميزانيات الشخصية للطلاب بنسبة 60%. تجربة استراليا من خلال مبادرة (MONEY SMART) حسنت وعي الطلاب المالي بنسبة 35%. هذه النماذج تبيّن أن قطر قادرة على أن تكون رائدة عربيًا إذا نقلت التجارب العالمية إلى المدارس القطرية وصياغتها بما يناسب الوعي القطري المرتبط بهوية عالمية. ختاما.. المعرفة المالية في المناهج القطرية ليست مجرد خطوة تعليمية، بل خيار استراتيجي يفتح أبواب الاستدامة الاقتصادية ويصنع وعيًا مجتمعيًا يتجاوز حدود الجغرافيا، قطر اليوم تملك فرصة لتقود المنطقة في هذا المجال عبر تعليم مالي حديث، يحاكي التجارب العالمية، ويجعل من الطالب القطري أنموذجًا لمواطن عالمي التفكير، محلي الجذور، عالمي الأفق فالعالمية تبدأ من إلغاء الحدود الفكرية، ومن إدراك أن التعليم ليس فقط للحاضر، بل لصناعة مستقبل اقتصادي مستدام.
2286
| 22 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
2229
| 25 سبتمبر 2025
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
1617
| 26 سبتمبر 2025