رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إصلاح الإنسان.. إشكال الوعي
من رحمة الله بالإنسانية أن وصفة النهضة والإصلاح ليست سراً حصرياً على فئة من الناس دون غيرهم، بل هي فكرة شائعة يعرفها كل الناس: العنصر الأهم للنهضة هو الإنسان، ومحاولات الالتفاف على هذا المسار باستخدام الثروات الطبيعية والعلاقات الاتكالية التي ذكرناها سابقاً هي من قبيل البحث عن الحلول السهلة وليس جهلاً بمركزية الإنسان. كذلك، فكون إصلاح الإنسان يعتمد أساساً على تمليكه الوعي والمعرفة أمر شائع ومعروف، ولكن الإشكال في كيفية تحقيقه.
معلوم أن الشعوب التي تعيش في ظلام الجهل تبدأ أولى خطوات التنوير عندما يتهيأ لنخبة منها سانحة لتلقي العلوم والمعارف ثم العمل على نشر التنوير بين شعوبها فتتسع دائرة الوعي تدريجياً في دورة مستمرة من تلقي المعرفة ثم منحها حتى إذا حصل المجتمع على قدر كاف من الوعي بدأ حركة كلية نحو الأعلى تزداد وتيرتها بازدياد الوعي بين أفراد المجتمع. هذه هي الوصفة النظرية لنهضة الأمم، ولكن على الصعيد العملي فهناك عقبات ستعترض هذا المسار وأولى هذه العقبات هي النخبة نفسها التي يفترض بها أن ترود النهضة.
مصلحة النخبة في كبت الوعي
قبل بيان مصلحة النخبة في كبت الوعي ينبغي علينا تعريف النخبة، وهذا يكون من وجهين: الوجه الأول هو ما يمكن تسميته بالنخبة العليا، وهي تلك الفئة القليلة من الناس التي تتفوق على العامة في أي أمر من الأمور، وهي تقاس عادة كنسبة إلى العامة كأن نقول (أغنى 10% من المجتمع) أو (أكثر 5% تعليماً) أو ما شابه ذلك. هذه الفئة لا تحدد برقم معين ولا تستوجب مستوى معينا أو حدا أدنى من أي شكل. فمثلاً إذا كان شعب مكون بالكامل من الفقراء الذين لا يعيشون على أكثر من دولارين في اليوم فإن أعلى هؤلاء دخلاً هم النخبة الغنية رغم أنهم لا يعيشون على أكثر من دولارين في اليوم.
الوجه الثاني لتعريف النخبة هو ما يمكن تسميته بالنخبة المعيارية، وهي أي مجموعة من الناس تستوفي معياراً معيناً بغض النظر عن نسبتها إلى باقي الناس، كأن نقول كل من يحمل درجة الدكتوراه هو من النخبة، فهؤلاء يمكن أن يكونوا عُشر الناس أو ثلثهم ليس مهماً، وإنما المهم استيفاء المعيار لكي يتم التصنيف ضمن النخبة. والذي يمنع أن يفوق الذين يستوفون المعيار غيرهم فتكون النخبة أكثر من العامة بما يناقض مفهوم النخبة نفسه، هو أن المعيار عادة ما يكون عالياً فلا يستوفيه إلا نخبة من الناس.
يمكننا الآن أن نتصور المجتمع على أنه هرم كبير غالب أهله في القاعدة ويقلون بالتدريج كلما اتجهنا نحو القمة، ونزوع حركة الناس هو إلى أعلى نحو قمة الهرم باستمرار. هذا الهرم تتعدد فيه معايير مختلفة لتقييم الناس تقطعه أفقيا في شكل خطوط موازية للقاعدة، بعض هذه المعايير يحمل عدداً من الناس الذين يستوفونه، وكلما كثر عدد الناس على المعيار دفعوه بثقلهم نحو القاعدة، وكلما قل عدد المستوفين للمعيار، خفّ وزنه وصعد نحو القمة. فمثلاً سنجد أن معيار حملة البكالوريوس أو امتلاك ألف جنيه سيكون أقرب إلى القاعدة منه إلى القمة، بينما حملة الدكتوراه أو من يمتلكون مليون جنيه سيكون أقرب إلى القمة وأبعد من القاعدة لقلة عدد الناس المستوفين لهذا المعيار بالنسبة لعموم المجتمع.
المعايير التي يسعى الناس إلى استيفائها والتقرب بها إلى قمة المجتمع هي المعايير التي يعترف بها المجتمع ويقدرها كالعلم والدين والمال. هذا يعني أن الذي يتميز على غيره في معيار غير معترف به في المجتمع لن يجد الرفعة الاجتماعية المنشودة، فالذي يتفوق على غيره في طول شاربه لن يصل إلى صفوة المجتمع رغم أنه إحصائياً فريد فيه ولكن طول الشارب ليس من المعايير المعتبرة في المجتمع. وليست كل المعايير المعتبرة في المجتمع هي بالضرورة معايير صحيحة، وهذا سيكثر في المجتمعات المتأخرة فربما يكون بعض المشعوذين من صفوة هذه المجتمعات المتخلفة بينما لا يكون علم الفيزياء معياراً للصعود، فيجد عالم الفيزياء نفسه مع العوام إلا أن يستخدم الفيزياء باعتبارها سحراً فيترقى عندئذ!
يمكننا الآن أن نرى كيف يكون لبعض النخبة منفعة في كبت الوعي، فلو أمكن بعضهم أن يدفع الناس عن معياره دفعاً ليخفف من ثقل الناس عليه ويرتفع إلى أعلى لفعل. وكل من يجد نفسه على قمة المجتمع بسبب معيار خاطئ فلن يعمل على تصحيحه لئلا يهوي به في عموم الناس. وكل معيار خاطئ هو محتل لمكان معيار صحيح. وكل شخص في النخبة بسبب معيار خاطئ، هو محتل لموضع شخص في القاعدة.
دعونا نضرب أمثلة واقعية لبيان الأمر أكثر. الملك على مملكة ما يكون قد صعد إلى قمة المجتمع معتمداً على معيار خاطئ، معيار الملك. بينما المعيار الصحيح هو معيار الاختيار الشعبي الحر، وحتى إن كان على قدر من الوعي وعلم أنه صعد على معيار خاطئ فلن يعمل – في الغالب – على تصحيح المعيار لأن ذلك سيذهب بملكه. شيخ الطريقة الصوفية وكل من صعد على معيار الإرث سيفعلون ذات الشيء. وعالم الدين لو تبين له خطأ مذهبه لربما سكت عليه حتى لا يسحب سلمه من تحت قدميه. وحتى الذين ارتقوا على معايير صحيحة، كحملة الدرجات العلمية أو رجال الأعمال، إذا عجزوا عن الارتقاء في مرحلة ما فسيسرهم أن لا يصل من كانوا تحتهم إليهم، فيحجب صاحب العلم علمه وصاحب الصنعة سر صنعته، وإن عجزوا بذلك عن منع ارتقاء الآخرين لربما عمدوا إلى تكسيرهم إن استطاعوا. باختصار، فإن كثرة الوعي تعني للكثيرين ذهاب التميّز، وهؤلاء يفضلون كلباً من الخواص على أسد من العوام، فما الذي سيخرج مجتمعاً كهذا من الجهل إلى الوعي؟.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4767
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3195
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2856
| 16 أكتوبر 2025