رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. جاسم الجزاع

* باحث وأكاديمي كويتي
[email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

303

د. جاسم الجزاع

أسطول الصمود: كيف تحوّل البحر إلى فضاء للقوة الناعمة؟

08 أكتوبر 2025 , 02:31ص

جاء أسطول الصمود العالمي الذي أبحر عبر المتوسط نحو غزة في محاولة جديدة لكسر الحصار، حاملاً معه قوة ناعمة تتجاوز المساعدات إلى التأثير الرمزي، فهو يُحرج الاحتلال أمام العالم ويستدعي الضمير الإنساني، ففي هذا الزمن التي تتعاظم فيه أدوات الصراع الرمزي والصوري وتتداخل فيه الأبعاد الإنسانية مع الحسابات السياسية، يظهر الأسطول الإنساني الذي اتجه إلى ساحل غزة ليس بوصفه مجرد وسيلة لنقل الإغاثة، بل كأداة ضغط معنوي على الرأي العالمي عالية التأثير، وهذا النوع من المبادرات يحوّل ذلك البحر من مسرح للقوة الصلبة والصدام إلى فضاء للقوة الناعمة، فحمولة تلك السفن ليست البشر والمؤونة بل المعاني والقيم، ومن هنا يبرز البُعد المهم للقوة الناعمة، فالأسطول لا يقاتل ولا يفرض العقوبات، لكنه يستدعي الضمير العالمي، ويحرج الأنظمة التي تحاصر الشعوب، ويضعها أمام امتحان إنساني وأخلاقي، فكل صورة أو خبر عن الأسطول يصبح رسالة رمزية، وكل محاولة لاعتراضه تتحول إلى مادة جديدة تزيد من زخم الضغط المعنوي، حقاً إنها سياسة تأثير بلا جيوش، بل إن أثرها قد يوازي أثر الجيوش حين يتعلّق الأمر بتغيير الرأي العام الدولي أو تحريك موقف سياسي متردد.

وتُظهر هذه الظاهرة أن القوة الناعمة لم تعد مقتصرة على الدول كفاعل رئيسي، بل صارت أيضًا أداة بيد حركات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية العابرة للحدود بل وحتى الأناس البسطاء، فالأسطول الإنساني ليس مجرد مشروع لوجستي، وإنما حملة فكرية بصرية تحمل خطابًا أخلاقيًا قويًا، وبقدر ما تُعرّض هذه الحملات نفسها للاعتراض أو المنع أو الأسر أو القتل، بقدر ما تكسب تعاطفًا أوسع واهتمامًا إعلاميًا مضاعفًا، ليصبح الحدث ذاته عملية إعادة إنتاج للرمزية البطولية والدلالة النضالية، وهنا تتحوّل كل نقطة تفتيش وكل سفينة اعتراض إلى مرآة تعكس ازدواجية الخطاب الرسمي للدول التي ترفع شعار حقوق الإنسان ثم تغض الطرف عن حصار الشعوب.

وهذه المبادرات الإنسانية تخلق ساحة ضغط ناعمة متراكمة لا يمكن للدول الكبرى تجاهلها، فالأثر لا يُقاس فقط بالمساعدات التي تصل أو لا تصل، بل بالقدرة على صياغة رواية جديدة للصراع فتحرّك الضمير العالمي الميت، وحين تُبث الصور والرسائل عبر وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي، يتحول الأسطول إلى «حدث عالمي» يفرض نفسه على جدول أعمال السياسيين، ويضعهم أمام أسئلة صعبة من الرأي العام الداخلي والخارجي: لماذا يُمنع الطعام والدواء عن أهل غزة؟ ولماذا يُستهدف من يسعى لإغاثتهم؟ هذا النوع من الأسئلة لا يفرضه تقرير رسمي أو بيان أممي، بل يخلقه ضغط رمزي تراكمي تصنعه صور ومشاهد ذات حمولة أخلاقية عالية.

وإذا تأملنا في تاريخ المنطقة، ندرك أن الحصار ليس استثناءً بل هو القاعدة!، إنه أداة متجذّرة في هندسة السيطرة على الشعوب، فحصار غزة ليس حدثًا طارئًا، بل هو حالة مستمرة مكررة وممتدة منذ عقود، وهي التي شكلت البيئة والحياة اليومية للفلسطينيين في غزة وخارجها، وإن هذا الحصار، كما تشير وقائع التاريخ، ليس صنيع قوة واحدة، بل هو ثمرة تحالف متشابك لأنظمة متعددة مع القوى العظمى، وفيه تتداخل فيها السياسات الكبرى والفيتوهات المرفوعة في نيويورك مع صمت طويل للأغلبية العالمية، فيدفع ثمن الصمت الأطفال والنساء والرجال في رفح وجباليا وغزة وسائر المخيمات.

لذلك كان الأسطول وسيلة المعدوم في زمن الخذلان لتتحوّل القوة الناعمة من كونها مجرد صورة إلى كونها « كشفًا وتعرية» للنظام العالمي، فهي حقاً لا تكتفي باستمالة التعاطف، بل تفضح التواطؤ، وتُخرج التناقضات إلى العلن، وتعيد ترتيب السرديات التي تحكم الصراع في زماننا، ومن هنا تكمن قيمة الأسطول الإنساني في هذا الزمن.

مساحة إعلانية