رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
"أحمد محمد"، هو فتى مولع بالاختراعات الميكانيكية والإلكترونية، وينتمي لعائلة سودانية، تقيم في مدينة "ايرفينغ" بولاية "تكساس" بالولايات المتحدة الأمريكية، في أحد الأيام اخترع أحمد ساعة ميكانيكية مختلفة، وحملها معه إلى المدرسة، ليعرضها على معلمه. تفحّص المعلم الساعة بعيون تملؤها الحيرة، لِما شاهده من تمديدات كهربائية وأجهزة ميكانيكية معقدة. طلب المعلم من أحمد التوجه إلى صفه الدراسي، ووعده بمواصلة الحديث حول الموضوع لاحقًا، غمرت السعادة فؤاد أحمد، الرغب بالحصول على اهتمام معلميه، كأي طفل في هذا العالم.
المخترع أصبح "إرهابيًا"!
اعتبر معلمو الفتى السوداني المسلم، ذو الـ 14 ربيعًا، أن الاختراع ليس عبارة عن ساعة، بل هو "قنبلة موقوتة"، وتقدموا ببلاغٍ إلى الشرطة حول ذلك. اقتحمت الشرطة المدرسة، واعتقلت الطالب أحمد، الذي كان ينتظر بشوق التقدير من معلميه.. كبَّلت الشرطة يداه على مسمع ومرأى زملائه الطلاب، واقتادته إلى المركز.. وطبعًا تمت مصادرة الساعة أيضًا.
خيّم الذهول على أحمد جراء هول المفاجأة، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل قامت الشرطة باستجواب الطفل، دون أن تسمح أو تمنحه فرصة إبلاغ عائلته أو محاميه، فضلًا عن معاقبته بـ "الإبعاد عن المدرسة لمدة ثلاثة أيام". انتشر الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، عقب نشر إحدى الصحف المحلية تفاصيل ما حدث.
احتدمت النقاشات التي بدأت بتوجيه انتقادات للشرطة والمعلمين، واتهمتهم بـ "الجهل" لعدم قدرتهم على التمييز بين "الساعة" و "القنبلة الموقوتة"، وامتدت لتتناول مواضيع تمحورت حول "العنصرية" و "الإسلاموفوبيا"، إلى ذلك، أطلق بعض الناشطين على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، وسمًا بعنوان "أنا مع أحمد". تزايد حجم الدعم المقدم للفتى السوداني، بالتزامن مع تزايد سيل الانتقادات الموجهة للمدرسة والشرطة، فيما بدأت قضية أحمد، تستحوذ على مكانة مهمة، في أجندة كبريات وسائل الإعلام الأمريكية.
اعتبرت الشرطة الأمريكية، اختراع الفتى المسلم الأسمر لساعة، بمثابة جريمة تستوجب العقاب، في الوقت الذي لم تعتبر فيه يومًا، قيام الأطفال البيض من غير المسلمين، بالتقاط صورٍ لأنفسهم وهم يحملون أسلحة آلية، على أنه جريمة أو جنحة تستوجب التحقيق والبحث. وجدت الإدارة الأمريكية نفسها مجبرة على التدخل في القضية، سيما أن الشارع الأمريكي لم ينس بعد حادثة مقتل مواطنين سود على يد رجال شرطة عنصريين، كما لم ينس الاحتجاجات التي قام بها السود ومنظمات المجتمع المدني المناهضة للعنصرية في مدينة "فيرغسون" (ميزوري)، احتجاجًا على مقتل شاب أسود على يد الشرطة.
عندما تدفن أوروبا اللاجئين في مياه البحر
لنعد قليلًا إلى الوراء، لنذهب إلى الدنمارك هذه المرة.
قبل أسبوع واحد من غرق الطفل السوري "آلان الكردي" (3 أعوام)، والعثور على جثته الصغيرة، ملقاة على أحد شواطئ بحر إيجة، عثرت السلطات النمساوية على أكثر من 71 جثة، تعود للاجئين غير شرعيين، في شاحنة تُركَت إلى جانب أحد الطرقات، في منطقة قريبة من الحدود مع المجر. وقبل ذلك بفترة وجيزة، غرقت سفينة تحمل لاجئين قبالة السواحل الإيطالية، ما أدى إلى مصرع 400 منهم، حيث عثر على جثث بعضهم ملقاة على السواحل الليبية. إن ما ذكر آنفًا من أعداد لا تشكل سوى نزر يسير من الأعداد الكبيرة للاجئين، الذين في البر وفي البحر، على مدار السنوات الأربع الماضية، وهم يبحثون عن الأمان والحياة الآدمية الكريمة.
فيما هزّت صورة الطفل السوري "آلان" مشاعر العالم، كانت الشرطة الدنمركية تتخذ إجراءات صارمة، لمنع تدفق اللاجئين من دول الشرق الأوسط عبر الحدود. أدت تلك الإجراءات وغير من الإجراءات التي اتخذتها بقية الدول الأوروبية إلى تزايد حدّة الانتقادات الموجهة إليها، محملة دول الاتحاد الأوروبي مسؤولية أزمة اللاجئين المستمرة، والتي أدت ولا تزال إلى موت عشرات الآلاف منهم، إما غرقًا في مياه البحر المتوسط أو على الأسلاك الشائكة التي أقيمت لإبعاد اللاجئين عن حدود أوروبا. وفي خضم كل هذه التطورات، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، بصور أظهرت مصورة صحفية مجرية، تعتدي بالضرب على لاجئين، حيث ضربت طفلة وركلت لاجئًا آخر يحمل ابنه، وأوقعتهما أرضًا.
كل تلك الأحداث دفعت الدول الأوروبية نحو اتخاذ قرار بالتحرك، ولكن كيف؟
دعونا نتوقف هنا، ونعود إلى الولايات المتحدة.
أوباما يعرب عن دعمه لـ "أحمد" و "ناسا" تعده بالفضاء شهدت قضية المخترع السوداني أحمد، التي أثارت تصدعات خطيرة في المجتمع الأمريكي (العنصرية والإسلاموفوبيا)، تدخلاً مفاجئًا، حيث نشر الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، رسالة دعم للطفل السوداني قائلًا "ساعة جميلة يا أحمد هل تريد إحضارها إلى البيت الأبيض؟"، وكتب أيضًا "علينا تشجيع المزيد من الأطفال أمثالك ليحبوا العلوم، هذا ما يجعل من الولايات المتحدة عظيمة؟".
إلى جانب ذلك، وجهت "هيلاري كلينتون" والعديد من السياسيين رسائل دعم لأحمد، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لقيت قضية أحمد دعمًا من قبل القائمين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وشركة "جوجل"، ووكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، ومعهد "ماساتشوستس" للتقنية، حيث قدموا للطفل السوداني دعوة لزيارة مؤسساتهم، أصبح أحمد فجأة محبوب من قبل الجميع.
رحب العالم بالدعم الذي لقيه أحمد من البيت الأبيض والمؤسسات الأكثر شعبية في الولايات المتحدة والعالم، في الوقت الذي لا تزال فيه الكثير من المؤسسات تعرب عند دعمها لأحمد، حتى أثناء كتابتي لهذه السطور.
دعونا نعود إلى أوروبا.
الشرطة الأوروبية ووجهها الإنساني!
تعرضت أوروبا لسيلٍ من الانتقادات، على خلفية تصريحات أطلقها زعماء أوروبيون، حول عزمهم إجراء تعديلات على قوانين اللجوء، فيما يخوض اللاجئون غمار مأساة تدمي القلوب وتقض مضاجع الضمائر الحية، وفي خضم النقاشات التي تناولت تلك التصريحات غير المقنعة، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورًا من الدنمارك، لشرطي يجلس على طريق معبّد، ويلاعب طفلة من اللاجئين. بدى الشرطي في الصورة بمظهر مفعم بالإنسانية. انهمرت عليه - بعد انتشار تلك الصور – عروض الزواج، من كل أصقاع الأرض، طبعًا لا نعرف إن كان الشرطي متزوجًا أم لا، أو إن كان يرغب بالزواج أم لا، إلا أننا نعرف بأن الشرطي المشار إليه، قدم للعالم الوجه الإنساني لأوروبا.
ما الذي حدث في الولايات المتحدة؟
في الواقع، لعبت الأقلية السوداء والمسلمة دورًا كبيرة في إظهار قضية المخترع السوداني "أحمد محمد"، من خلال نشاط مكثف على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع فريق الاتصالات السياسية المحيط بـ "أوباما"، بكتابة الرسالة التي وجهت لأحمد، كما طلب الفريق نفسه من الشركات الكبرى، بتوجيه رسائل في الإطار ذاته، ذلك لأن الفريق المشار إليه، كان متخوف من ازدياد التصدعات الاجتماعية داخل المجتمع الأمريكي، سيما وأن الشرطة الأمريكية، قتلت في الأشهر الثلاثة الماضية، نحو 300 "أسود" من مواطنيها، إضافة إلى 3 مواطنين آخرين قتلوا برصاص الشرطة الأمريكية، في اليوم الذي وجه فيه "أوباما" رسالة إلى الطفل السوداني. إلا أن حدث مقتل المواطنين الثلاثة المشار إليهم، لم يلق أي صدى ولم يحمل قيمة خبرية في وسائل الإعلام الأمريكية.
إلى ذلك، شارك أحمد في أحد البرامج التلفزيونية ولخص قضيته قائلًا: "اسمي أحمد محمد، ولوني أسود، تم اعتقالي من قبل الشرطة الأمريكية لأنني مسلم أسود، لو كان لوني أبيض لما اعتقلتني الشرطة، آمل أن لا يتعرض الآخرون لما تعرضت له".
وفي السياق ذاته، قال والد أحمد ومديرو اتحاد مسلمو أمريكا، إن ما تعرض له أحمد من اعتداء ناجم عن الشعور بالكراهية والخوف من المسلمين (الرهاب الإسلامي - إسلاموفوبيا)، ما هو إلا حادثة واحدة من الحوادث اليومية التي يتعرض لها المسلمون في الولايات المتحدة، والتي تبقى طي الكتمان ولا تتناقلها وسائل الإعلام.
ما الذي حدث في أوروبا بعد ذلك؟
لم يتمكن أحد من معرفة المعلومات الشخصية الخاصة بالشرطي الذي انتشرت صوره في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ولم يتساءل أحد عن الطريقة التي انتشرت فيها صورة الشرطي بهذه السرعة، وهل فعلاً تلقى عروضًا للزواج. لقد تدخلت الدبلوماسيات العامة في الدول الأوروبية، وضخت العشرات من الصور في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بهدف إظهار مدى إنسانية الشعوب الأوروبيين وحجم تفاعلهم من أزمة اللاجئين. وفي الواقع، فقد أغلقت الدنمارك حدودها بشكل تام، بعد 4 أيام من التقاط صورة الشرطي ونشرها، ولربما عاد الشرطي الذي نشرت صوره، إلى وظيفته الأساسية وشارك في عمليات منع اللاجئين من العبور إلى الدنمارك. إن أنباء اللاجئين الذين تم وضعهم في مخيمات وغرف لا تليق ولا تصلح للاستخدام الآدمي، لتكرس مأساة اللاجئين ومعاناتهم في ظل الجوع والمرض، لم تحمل قيمة خبرية بالنسبة لوسائل الإعلام الأوروبية، بالقدر الذي حملته صورة الشرطي الدنماركي، بل وحتى لم يقم أحد بالتحقيق في الأنباء التي تحدثت عن قيام الشرطة الإيطالية واليونانية، بثقب القوارب المطاطية التي تقل لاجئين، وإغراقها عمدًا. لم يحقق أحد في تلك الأنباء، ولم يشعر أحد بالحاجة للتحقيق في خفاياها.
الدبلوماسية العامة في العالم الإسلامي
إن الأنشطة التي تجريها الدبلوماسية العامة في الولايات المتحدة وأوروبا، تجعل تلك البلدان بمنأى عن النقد، والإصابة بالصدوع الاجتماعية الخطيرة، فضلًا عن أنها تشكل غطاءً للانتهاكات التي تجري دون توثيق ودون أن يشعر بها أحد. بفضل تلك الأنشطة، بات العالم كله مقتنعًا بأن الحكومات الغربية تشكل نبراسًا لـ "الضمير الإنساني والتراحم!".
أنظروا إلى الولايات المتحدة التي حولت مخترعًا إلى "إرهابي"، ثم حولت "الإرهابي" إلى "بطل"، وإلى أوروبا التي عملت على إخفاء قبح سياساتها في التعامل مع اللاجئين وتصنيفاتها التي تخلو من الأخلاق، بستار "الشرطي الحنون"، ثم إنظروا إلى العالم الإسلامي، الذي لا يمتلك القدرة على شرح قضيته والتعريف بالأسباب التي دفعت سكانه لأن يكونوا لاجئين، إلى العالم الإسلامي الذي يقف عاجزًا عن إسماع صوته للعالم.
هل ينبغي علينا أن نغضب من الغرب أم علينا أن نتحسر على أنفسنا؟ صدقوني لم أعد أعرف.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
يترقّب الشارع الرياضي العربي نهائي كأس العرب، الذي يجمع المنتخبين الأردني والمغربي على استاد لوسيل، في مواجهة تحمل كل مقومات المباراة الكبيرة، فنيًا وبدنيًا وذهنيًا. المنتخب الأردني تأهل إلى النهائي بعد مشوار اتسم بالانضباط والروح الجماعية العالية. كما بدا تأثره بفكر مدربه جمال السلامي، الذي نجح في بناء منظومة متماسكة تعرف متى تضغط ومتى تُغلق المساحات. الأردن لم يعتمد على الحلول الفردية بقدر ما راهن على الالتزام، واللعب كوحدة واحدة، إلى جانب الشراسة في الالتحامات والقتالية في كل كرة. في المقابل، يدخل المنتخب المغربي النهائي بثقة كبيرة، بعد أداء تصاعدي خلال البطولة. المغرب يمتلك تنوعًا في الخيارات الهجومية، وسرعة في التحولات، وقدرة واضحة على فرض الإيقاع المناسب للمباراة. الفريق يجمع بين الانضباط التكتيكي والقوة البدنية، مع حضور هجومي فعّال يجعله من أخطر منتخبات البطولة أمام المرمى. النهائي يُنتظر أن يكون مواجهة توازنات دقيقة. الأردن سيحاول كسر الإيقاع العام للمباراة والاعتماد على التنظيم والضغط المدروس، بينما يسعى المغرب إلى فرض أسلوبه والاستفادة من الاستحواذ والسرعة في الأطراف. الصراع في وسط الملعب سيكون مفتاح المباراة، حيث تُحسم السيطرة وتُصنع الفوارق. بعيدًا عن الأسماء، ما يجمع الفريقين هو الروح القتالية والرغبة الواضحة في التتويج. المباراة لن تكون سهلة على الطرفين، والأخطاء ستكون مكلفة في لقاء لا يقبل التعويض. كلمة أخيرة: على استاد لوسيل، وفي أجواء جماهيرية منتظرة، يقف الأردن والمغرب أمام فرصة تاريخية لرفع كأس العرب. نهائي لا يُحسم بالتوقعات، بل بالتفاصيل، والتركيز، والقدرة على الصمود حتى اللحظة الأخيرة.
1038
| 18 ديسمبر 2025
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
933
| 16 ديسمبر 2025
يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها من كأس العالم الذي أبهر وأدهش وأتقن، الى احتضان فعاليات كأس العرب. نعم نجحت قطر في جمع العرب في ملتقى استثنائي، بدأ بافتتاح مهيب وأسطوري اجتمعت فيه حضارة العرب وعاداتهم وأحلامهم ونجحت في تقديم فلسفة الاستاد خلال الأيام الماضية على أنه البيت العربي الكبير الذي يجمع العرب متجاوزين الحدود والفوارق. لقد تبيّن لنا أن هناك الكثير مما يجمع العرب، وليس حرف الضاد وحده، فها هي كرة قدم أظهرت أنهم يقفون ويستطيعون البناء وتقديم الأفضل، وأن هناك جيلا متفائلا يؤمن بالمستقبل وبأنه قادر على أن ينهض من تحت الركام، جيل جديد يتنفس عطاءً ويضع لبنات البناء الذي يعيد المجد لهذه الأمة. أما فلسطين فكانت حاضرة في هذا المهرجان الكروي، في تضامن ليس جديدا أو غريبا على قطر وشعبها، ولعل الأوبريت المؤثر حين جمع قصص الاناشيد الوطنية للدول العربية عبّر لكل الحاضرين والمشاهدين أن تحريرها ممكن وان وحدتنا ممكنة. قطر ومن جديد تجمع العرب في كأس العرب للمرة الثانية من المحيط الى الخليج في هذه الاحتفالية الكروية التي تعد الأكبر في العالم العربي، والسؤال الذي يطرح نفسه عن سرّ نجاح قطر مرة تلو الأخرى؟ لقد وضعت قطر بصمتها على خريطة العرب والعالم فأصبح يشار إليها بالبنان لما تمتلكه من قدرات استثنائية على استضافة الأحداث الرياضية الكبرى وتمثل كأس العرب فصلاً جديداً في هذا الإرث الرياضي الغني والمتنوع. قطر وخلال أعوام مضت وضعت رؤيتها، وحددت هدفها وسخرت امكاناتها، وبذلت كل ما تستطيع لتحقيق ما رأيناه من ترتيبات لإقامة كأس العالم على أرض صغيرة حجما، كبيرة بالفعل فكان لها ما أرادت واستقر الهدف وجاءت في هذه البطولة لتبني على ما تم انجازه وتعطي أكثر وأكثر. تمتلئ ملاعب قطر بالجماهير التي تحول ملاعب المونديال الأيقونية إلى مسرح جديد للإثارة الكروية العربية يستفيد فيها المشاركون والجماهير من منظومة متكاملة، أسست على أرقى المعايير البيئية العالمية، فهي لم تعتمد بناء ملاعب يطلق عليها مصطلح الأفيال البيضاء ببناء أبنية ضخمة لا داعي لها بل شيدت على مبدأ الاستدامة واستخدام أدوات صديقة للبيئة بحيث يمكن تفكيك وإعادة استخدام الملاعب وفق خطة مدروسة بمجرد الانتهاء منها سواء بإعادة تدويرها في مشروعات داخلية أو بالتبرّع بها وإهدائها إلى دول أخرى لرفع كفاءة منشآتها الرياضية إضافة الا أنها ملاعب بلا تدخين وملاعب يصدح فيها صوت الأذان انجاز مختلف ومقدر. يضاف إلى هذه الملاعب المونديالية، أنها استفادت من البنية التحتية الرياضية الواسعة التي أولت قطر اهتماما كبيرا بها بما في ذلك مرافق التدريب الحديثة، ومناطق المشجعين التي توفر تجربة ترفيهية متكاملة وفي نقطة تحسب لهذه الجهود تتضمن الملاعب خيارات أماكن مخصصة للمشجعين من ذوي الإعاقة. وهنا لا بد من ذكر تسهيلات حركة المشجعين من خلال شبكة منظمة من المواصلات فنجاحها يعد حجر الزاوية في انجاح البطولة فهي توفر شبكة نقل حديثة ومتكاملة تتمتع بسلاستها وفعاليتها مع وجود مترو الدوحة العمود الفقري للدوحة الذي يربط غالبية الملاعب والمناطق الحيوية في قطر خلال دقائق معدودة، بجانب منظومة نقل عام فعالة سلسة الحركة خلال الفعاليات الكبرى، فضلا عن طرق حديثة تساهم بصورة كبيرة في تقليل الازدحام وتعزيز انسيابية حركة الجماهير. وإلى جانب ذلك، يتوفر أسطول حديث من الحافلات الكهربائية الصديقة للبيئة لتقليل الانبعاثات الكربونية، وكذلك خدمة نقل عام مستدامة وفعالة تشمل "مترولينك"، والتي تتمثل في شبكة حافلات فرعية مجانية تربط بين محطات المترو والأماكن المحيطة. لقد ركزت قطر على الاستدامة عبر استخدام حافلات كهربائية وتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، وتوفير تجربة سلسة في نقل المشجعين مع الأخذ في الاعتبار احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة عند تصميم وسائل النقل والمحطات، وهو الأمر الذي يساعد على ترك إرث مستدام لقطر يعزز من مكانتها كمركز للفعاليات العالمية. وبينما تدار المباريات من جهة تقام مجموعة من الفعاليات الثقافية والترفيهية لتعزيز تجربة المشجعين وخلق أجواء إيجابية وبناء جسور بينهم حيث ترحب قطر بهم بطريقتها وبحسن وكرم الاخلاق والضيافة. أي انجاز هذا، خطوة ٌتحسب وتقدر ونقطةٌ بألف هدف، فقطر تربط استثمارها بالرياضة بتحقيق نمو اقتصادي وسياحي وفي نفس الوقت وفي هذا المحفل العربي الاخوي تزيل اسباب الفرقة وتقرب المسافات في تجمع لم نكن نراه او يشهد له في من سبقها من فعاليات لكأس العرب. أي انجازٍ هذا في أكبر تجمع عربي، إذا هي الارادة الجادة والحقيقية المنتمية، تغلفها الشجاعة والاقتدار الساعية لبث الخير. قطر لا تمتلك المال فقط، إنما هي تتبع قواعد النجاح وتركز على الإنسان وفكره وتطويره، لا تترك جهدا ً في الاستفادة من خبرات الآخرين والتعلم منها والبناء عليها، وتعطي الفرص وتمنح المساحات للعطاء لمن يريد من القطريين أو غيرهم ممن يعيشون على أرضها. من استاد ملعب البيت كان الافتتاح، ولن تكون النهاية، لقد أصبحت قطر على الدوام البيت الذي يجمع ولا يفرق يلم الجراح ويبث الطمأنينة. الأمل يحدونا لأن نزيد ما تم بناؤه فكريا وروحيا ومعنويا في قطر، وفي غيرها من شقيقاتها من الدول العربية والإسلامية، حتى نغدو منارة يهتدى بنا.
696
| 15 ديسمبر 2025