رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عند تناول الآثار الإستراتيجية المترتبة على عملية عاصفة الحزم فإن جملة من الحقائق والوقائع على الأرض لابد من التطرق إليها باعتبارها نقطة ارتكاز لدى المفكر الاستراتيجي العربي الذي يتعامل معها كمعطيات أولية لتحديد مساراته وبالنتيجة تمكينه من اتخاذ القرار الإستراتيجي الذي يخدم المصالح القومية..
الحقيقة الأولى/ لقد عجز النظام السياسي والدبلوماسي الدولي وما يرتبط به من معادلات ومصالح ونزعات اقتصادية عن التعاطي مع مستحدثات الربيع العربي وبالمقابل وقف النظام العربي عاجزا عن خلق أو تأطير أي مشروع نهضوي يوظف حالة الربيع لصالحه.
الحقيقة الثانية/ أن ما ترتب على الربيع العربي من فراغ في السلطة في بعض الدول عملت نظرية المصالح الدولية ومشاريع الهيمنة الإقليمية ومشروع الإرهاب الدوغمائي على ملئه بطريقة لا تقبل التجزئة لارتباط هذه المكونات بعضها ببعض سلبا أو إيجابا.
الحقيقة الثالثة/ أن الحالة العربية بقيت مرتكزة على نظرية الدولة الوطنية والدفاع عنها وفقا لعقلية القلعة لعدم وجود أي بديل جمعي للأمة في نظريات الدفاع فباتت تنتظر دورها في عملية وصول المشاريع الإقليمية أو الإرهابية إليها.
الحقيقة الرابعة/ أن نظام العدالة وفض النزاعات وحماية الإنسان في القانوني الدولي وقف عاجزا عن تقديم الحلول للتعاطي مع حالة الإقليم لأنه يميل في أصله للقواعد الاستعمارية.
الحقيقة الخامسة/ وعطفا على ما ورد أعلاه فلقد أضحت فكرة السيادة الوطنية عبارة عن فكرة قديمة لا تفي بالغرض مما جعل منها محض نظريات خيالية مهدرة ضمن إطار القانون الدولي الذي أفرغت قواعده من مضمونها وجرى إهدار جوهرها.
الحقيقة السادسة/ أن المشاريع الدولية والإقليمية والإرهابية تستند إلى عمليات توظيف واصطفاف طائفي أو عرقي تحرق الأخضر واليابس في عمليات إعادة توزيع مناطق النفوذ والهيمنة لا وبل تشكيل خريطة جديدة تزول بموجبها دول وتنشأ أخرى أو يتم تغيير خريطتها زيادة أو نقصانا.
الحقيقة السابعة/ لقد فشلت جميع مساعي الحل السلمي لجميع قضايا المنطقة قديمها وحديثها..
إزاء هذه الحقائق وقفت الأمة العربية أمام خيارين لا ثالث لهما فإما استمرار حالة الرضوخ فالانهيار للدول تباعا بعد فرض المشاريع المذكورة هيمنتها أو وصايتها عليها، أو نفض الأمة العربية ركام الغبار عن حالتها الوجودية لفرض قواعد عمل جديدة في الإقليم وفي نظريات إدارة الصراع فإما أن تقوم بعملية تنفيس واحتواء للصراع أو أن تعمد إلى تضخيم وتفجير الصراع وحيث أن خيار الاحتواء بات متعذرا وفقا لتسلسل الأحداث وجملة المعطيات والحقائق أعلاه وتبلور مشاريع الهيمنة على الأمة وعلى مقدراتها وتهديد هويتها لا بل ووجودها كله كانت النتيجة الطبيعية هي (عاصفة الحزم)..
بصراحة متناهية ووضوح ومباشرة نقول إنه لا حاجة لنا ولا عبرة ولا إنتاجية لتبرير هذا العمل العسكري المبارك ضمن نطاق قواعد القانون الدولي لعجزها عن حماية شعبنا في سوريا ومن قبله في فلسطين أو حتى محاولة شرعنته ضمن نطاق ميثاق الجامعة العربية باعتباره الوجه الآخر لنفس العملة الدولية التي عجزت عن حماية الحقوق العربية على مدار تاريخنا المؤلم لا بل ووضعت قيودا على مدى إمكانية حماية شعوبنا المضطهدة، فهذه العملية هي إفراز طبيعي وردة فعل على الحالة الشاذة في الإقليم كانت حتميتها العسكرية عبارة عن مسألة وقت ويكفي فيها مبررها الأخلاقي الذي ينهض بذاته سببا كافيا للشرعية عند عجز أو عدم كفاية قواعد القانون الدولي وباختصار نقول إن الأمة العربية لم تعد معنية كثيرا بقواعد دولية لا تحقق الحد الأدنى المتيقن من العدالة في المنطقة..
نشير هنا إلى مسألة غاية في الأهمية ونلفت انتباه الإعلام العربي تحديدا إليها وهي أن ولادة نظرية جديدة للقوة العربية فيما بات بالإمكان تسميته (بمبدأ سلمان - الحزم) قد جرى فيه نقل الأمة بكاملها من المفعول به للفاعل ونحن نتحدث هنا عن إعادة تموضع قومي يتجاوز حدود ومفاهيم الدولة الوطنية لذا كان من الخطأ الجسيم بمكان أن يتم اختزال هذا الحدث (التاريخي) بالسعودية (الأم) بوصفه حربا في اليمن لأننا بتنا اليوم نتحدث عن ولادة نظام عربي جديد تكون فيه (الأم) عمود الخيمة والرافعة المتينة الراسخة للخيمة العربية التي لا يمكن أن تكتمل صورتها دون أوتاد وخيوط تشكل النسيج العربي ككل وعليه فلابد للإعلام العربي من إعادة صياغة مفرداته بهذا الاتجاه الأوسع لكي لا يتم تقزيم الآثار الإستراتيجية الكبرى المترتبة على تشكل هذا النظام الجديد وما أستحدثه على المنطقة والتي يمكن بيان أهمها بما يلي: -
أولا/ ولادة القوة بمواجهة الهيمنة والإرهاب
إن أي تغيير لا يمكن أن ينشأ إلا عن حالة قوة تفرض هذا التغيير كواقع على الأرض وتحمي وجوده وتعطيه شرعية الاستمرار القادر على ملء الفراغ الناشئ عن تفكك الدولة الوطنية للتصدي لعمليات الإحلال الحضاري الطارئ - غير العربي - على هوية المنطقة أو التفكيك الخشن لعمليات الإسقاط بالبراشوت للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود والتي حاولت فرض مفاهيم وأدوات وحدود جديدة في المنطقة.
ثانيا/ إزاء الفشل الأخلاقي والقانوني والسياسي والدبلوماسي لقواعد العمل الدولي ومنظماته ومؤسساته وأشخاصه في حل مشاكل الإقليم فإن حالة القوة العربية الوليدة تستمد شرعيتها من ذاتها وواقعها باعتبارها البديل الأخلاقي الواقعي لإنهاء مشاكل الإقليم فتعمل على إخماد الصراع غير الأخلاقي في البؤر المتوترة أو المشتعلة مثل سوريا والعراق..
ثالثا/ أن القوة تخلق قواعدها بنفسها فتفرض معادلات جديدة في المنطقة والعالم وهي تتجاوز حدود فكرة السيادة التي باتت وهمية وتشرع للتدخل ضمن النطاق الحيوي لنظريات الأمن القومي العربي والذي يتجاوز فيها هذا النطاق فكرة (من المحيط للخليج) لتصبح متعدية لتطال الإرهاب بضربه وتفكيكه في العالم كله أو التأثير الدولي على مصالح الغير فيما إذا حاول العبث بالداخل العربي وهنا فعلى الغير اتباع ما ينشأ عن أفعال القوة بمفهومها الواسع وأثر استخدامها لأن القبول بنتائجها من عدمه سيان بالنسبة لمن يملكها ولديه القدرة على استخدامها باعتبار كل ما ينشأ عنها وتفرضه على أرض الواقع يمثل حالة الشرعية وعلى الغير التكيف مع الواقع الجديد..
رابعا/ أن القوة كحالة عربية هي الوحيدة القادرة على إعادة التوازن للمنطقة والأخذ بزمام المبادرة والانتقال من حالة المفعول به للفاعل مما يعني إجبار المجتمع الدولي على القبول بقواعد جديدة في العمل الدولي يفضي إلى تطوير قواعد القانون الدولي وأدواته لأنه قد ثبت أن هذه القواعد وما ينشأ عنها من أداوت كانت ولا تزال عاجزة أمام إنصاف الأمة العربية في قضاياها وكذلك وقفت عاجزة عن التعاطي مع ما نشأ من واقع على الأرض بعد الربيع العربي لاسيَّما فيما يتعلق بقضية الإرهاب الذي أخذ شكلا وحجما وتأثيرا أكبر من بعض دول المنطقة..
خامسا/ أن فكرة القوة العربية لا تتوقف عند حالة الدفاع بل هي متعدية وهجومية عند اللزوم قادرة على ملء أي فراغ ينشأ عن غياب سلطة الدولة الوطنية أو انهيارها لحماية سقوط أي دولة في حالة الفوضى أو استعادتها من الفوضى ومنع توظيف حالة انهيارها لتصبح ورقة تفاوض لدى الغير وبهذا المعنى تصبح الدولة الوطنية جزء من معادلة التفاوض مع الغير كطرف يضع شروطه على الطاولة وهنا يبرز اتجاهان الأول متعلق بتراجع فكرة السيادة الوطنية متى ما كانت على حساب الأمن القومي لتنصاع لمتطلباته والثاني أن الأمن القومي العربي هي فكرة موضوعية مجردة وبالتالي لا يمكن أن تنحاز لحالة أو تركيبة أو فكرة طائفية أو عرقية بل تواجهه ومن هنا فعلى الجميع الاستعداد لفكرة التدخل في سوريا والعراق لتفكيك الاصطفاف الطائفي ووقف التطهير العرقي الحاصل كضرورة وكنتيجة حتمية لولادة القوة الجديدة..
سادسا/ تعريب منطق القوة في المنطقة بعد أن كان حكرا على التدويل بإحياء التضامن العربي الذي تفكك وانهار عام 1990 بعد احتلال صدام حسين للكويت وهو يأخذ شكلا جديدا يتجاوز فكرة التضامن التقليدية وصولا للتحالف الفعلي على الأرض المنشئ لقوة إقليمية ومنظومة دفاع وردع وهجوم افتقدتها الأمة العربية عبر العقود الماضية منذ العام (1973) تمهد لحل المشاكل العربية ضمن النطاق العربي بعيدا عن التدخل الدولي الذي أنهك المنطقة وترك فراغا أو صراعا بعد انسحابه وانقضاء مصالحه وسيساهم ذلك في تشكيل أدوات جديدة كتعبير عن حالة القوة مثل محكمة العدل العربية ومجلس الأمن العربي وتفعيل أدوات سابقة مثل الجامعة العربية مما سيؤدي إلى تغيير نوعي في خريطة السيادة والنفوذ في المنطقة والعالم في حال أدير ملف القوة بما يليق به..
سابعا/ لعل من أبرز وأهم النتائج والآثار الاستراتيجية المترتبة على ولادة القوة العربية هي استعادة رجل الشارع العادي ثقته بالعسكرية العربية وشعوره بالطمأنينة من وجود قوة تحمي وجوده ومكتسباته بعد العبث الذي حصل في الإقليم
قبل الختام نشير إلى ثلاث نقاط غاية في الأهمية لن يكتمل من دونها مشهد ومنطق وتحولات القوة العربية وحيث أن عدم مراعاتها سيكون لها عواقب وخيمة جدا على مستقبل الأمة العربية وهي: -
النقطة الأولى/ لا يمكن السماح بتعطيل أو تأجيل أو فشل ولادة القوة العربية فوضع مقررات القمة موضع التنفيذ واستكمال المشهد اليمني وعاصفة الحزم حتى تحقيق كامل أهدافها على الأرض وفرض الولاية العربية على التراب العربي هو استحقاق وليس خيار ولابد لذلك من نجاح أول تجربة حقيقية في هذا الاتجاه ووضع اليد على كامل التراب اليمني بأيد عربية فالإخفاق في اليمن يعني أمرا واحدا هو فشل منظومة القوة العربية التي ستقود لنهاية النظام العربي بشكله الحالي واستفراد قوى إقليمية أخرى بالمشهد لذلك فأن التدخل البري أمر لا مفر منه وهو مسألة وقت..
النقطة الثانية/ لابد من نزع فتيل الأزمات المتوقعة وأسباب الخلاف الحالية في الشأن المصري ولا يمكن بقاء الوضع المصري محل تناقض أخلاقي وسياسي لذلك فعلى جميع الأطراف المعنية بنجاح منظومة القوة العربية والمؤثرة في المشهد المصري أن تسعى لإجراء مصالحة وطنية تاريخية يصار فيها إلى إعادة تنظيم الأخوان للانخراط في العملية السياسية المصرية بشكل سلمي تعددي ديمقراطي وعندما نتحدث بمنطق المصالحة فنحن نتحدث عن تنازلات من جميع أطراف المعادلة المصرية الوطنية..
النقطة الثالثة/ الأردن.. عليكم بالأردن فعضوا عليه بالنواجذ وأدركوه قبل أن يدركه ما يخشى عليه من تشيع سياسي فهو يعيش ضمن معادلات صعبة ومعقدة .
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4602
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3402
| 29 سبتمبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
1551
| 05 أكتوبر 2025