رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هذا العنوان هو حصيلة مناقشة ثرية عبر الهاتف بيني وبين صديق عزيز مافتئ على مدى الأيام القليلة الماضية يتصل بي للاطمئنان علي وعلى أسرتي وعلى الأوضاع في مصر التي ينظر لها بتقدير شديد على مستوى المكانة والموقع والدور حالما مثلي بأن تعود المحروسة إلى سابق عهدها دولة محورية قوية في داخلها مؤثرة في محيطها الإقليمي.
وبالفعل فإن مصر دخلت حقبة مغايرة عما كانت عليه قبل الخامس والعشرين من يناير2011 وهو أمر يقر به القادة الجدد في النظام وعلى رأسهم عمر سليمان نائب الرئيس وأحمد شفيق رئيس الوزراء وكلاهما إفراز لثورة الشباب المدهشة في هذا اليوم الفاصل في تاريخ المحروسة بكل المقاييس.
ورغم أنني لم أشارك في هذه الثورة ميدانيا إلا أنني كنت معها بالقلب والعقل ولعل مقالاتي في هذا المكان شاهدة على أنني كنت من المطالبين بضرورة التغيير في مصر والعودة إلى مربع العدالة الاجتماعية وتكريس التعددية السياسية الحقيقية وتجاوز حالة حرية الصراخ والتنفيس التي كانت سائدة في السنوات الأخيرة والتي بلغ خلالها الحراك السياسي درجة متقدمة إلا أنه لم يتجاوز حدود الخطاب إلى دائرة الفعل وهو ما أسهم في توسيع حالة الاحتقان التي قادت إلى تفجير ثورة الخامس والعشرين من يناير ولعل ثمة من يتذكر مقالا لي بعنوان التغيير الآمن في مصر بتاريخ الخامس والعشرين من شهر أكتوبر المنصرم ودعوت فيه- اعتمادا على رؤى عدد من النخب الفكرية والسياسية- إلى هذا التغيير الذي كان يمكن أن يقوده الرئيس حسني مبارك بنفسه ولكن يبدو أن هؤلاء النفر ممن أطلقوا على أنفسهم أصحاب الفكر الجديد كان صوتهم هو الأعلى فظلت الأحوال دون أي خطة باتجاه التغيير الآمن بل إن نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر نوفمبر الماضي أسهمت في المزيد من انسداد الأفق السياسي فوسعت الهوة بين مبارك رأس النظام من جهة والنخب السياسية والوطنية من جهة أخرى خاصة مع غياب أي معارضة حقيقية في البرلمان الجديد وبدا واضحا أن مزوري هذه الانتخابات يعيشون في حالة نشوة أو قل تشفى في هذا الغياب.
ورغم أن ثمة من يحاول تشويه ثورة الخامس والعشرين من يناير خاصة فيما يتعلق بركوب قوى سياسية بعضها محظور قانونيا لموجتها - وهو أمر لا يشكل في منظوري مصدرا للقلق منها بحسبان هذه القوى جزء من الشعب المصري - إلا أنها فرضت جملة من المعطيات والتحولات التي ستؤثر على مسار تاريخ مصر الراهن والقادم باعتبارها جسدت رؤى وأحلام الشعب المصري بكل طوائفه وفئاته وشرائحه ويمكن بلورتها على النحو التالي:
أولا: إنهاء مشروع توريث السلطة العليا في البلاد وللأبد خاصة أنه شكل في حد ذاته - رغم النفي المتكرر له من قبل الرئيس مبارك ونجله جمال - واحدا من أهم العوامل التي دفعت إلى ثورة الشباب وقد جاء القرار الذي صدر أمس الأول بإقصاء جمال مبارك من موقعه كأمين عام مساعد للحزب الوطني وأمين لجنة السياسات صاحبة النفوذ السياسي الواسع به مؤشرا واضحا على نهاية حلم التوريث الذي ظلت دوائر عديدة داخل الحزب الحاكم والحلقة الضيقة المحيطة بالقيادة السياسة تروج وكان تعيين عمر سليمان الرجل القوى في مصر نائبا للرئيس بداية التوجه نحو إنهاء هذا المشروع.
ثانيا: سقوط تحالف السلطة والثروة في المعادلة السياسية التي كانت تسود المشهد المصري خلال السنوات العشر الأخيرة بكل ما تمثله من رموز تم أبعادها من التشكيل الحكومي الجديد الذي جاء على رأسه رجل ينتمي إلى مدرسة الانضباط والفعل والنزاهة وهو الفريق أحمد شفيق قائد القوات الجوية الأسبق ووزير الطيران في الحكومة الأخيرة والذي حقق في هذا الموقع نقلة نوعية على صعيد إدخال مصر العصر من حيث منظومة المطارات والخدمات الجوية ونقل مصر للطيران إلى مواقع متقدمة إقليميا وعالميا.
وأظن أنه بذلك قد تم قطع علاقة التشكيل الحكومي مع منظومة رجال الأعمال التي أسهمت في إفساد الحياة السياسية والاقتصادية معا خاصة في ظل غياب رقابة قوية كان من الواجب أن تحول دون خلط أدائهم الوزاري بمؤسساتهم الخاصة بل إن معظم قضايا الفساد الكبرى مرتبطة بوجود هذه النوعية من رجال الأعمال في الحكومة غير أن الضربة القوية لرموز هذا التحالف تمثلت في إبعاد أحمد عز صاحب أكبر احتكارات الحديد في مصر وربما المنطقة العربية من موقع أمين التنظيم بالحزب الحاكم ومنعه مع عدد من الوزراء من التحالف ذاته من السفر وتجميد حساباتهم الأمر الذي يمهد للتحقيق معهم من قبل النيابة خاصة أن بلاغات عدة قدمت ضدهم إلى النائب العام في وقائع فساد متورطين فيها.
ثالثا: بناء منظومة أمنية مغايرة لما كان سائدا في المحروسة تقوم على الموازنة بين الأمن السياسي والأمن الاجتماعي دون أن يطغى جانب على الآخر مثلما كان يحدث على مدى العقدين الأخيرين من هيمنة البعد السياسي على هذه المنظومة على نحو وجه طاقة المؤسسة الأمنية إلى ما يطلق عليه حماية النظام والنخبة الحاكمة خصما من رصيد البعد الاجتماعي وهو ما أفرز سلسلة من الظواهر السلبية في مقدمتها غياب هيبة الدولة والقانون ووقوع الشارع المصري تحت سيطرة من يطلق عليهم بالبلطجية والخارجين على القانون.
وإذا كانت هذه التحولات أو المعطيات الشديدة الأهمية التي أسفرت عنها ثورة الخامس والعشرين فإنه من الأهمية بمكان السعي إلى الحصول على مكاسب أضافية دون الوقوف عند بعض الجوانب التي يمكن أن تعطل أهداف الثورة خاصة تمسك نفر من القائمين عليها بمطلب تنحى الرئيس حسنى مبارك والذي دخل بالفعل منطقة الفعل بعد إعلانه في خطابه يوم الثلاثاء الماضي عدم ترشحه لفترة رئاسية جديدة وأجراء تعديلات جوهرية تنظم الشروط التي يتعين توافرها في المرشح للرئاسة على نحو يتجاوز التعقيدات التي تضمنتها المادة 76 من الدستور فضلا عن تحديد الرئاسة بمدتين فقط بما يلغى النص على أبدية المنصب وفق ما كانت تنص عليه المادة 77 وكلتاهما مرشحتان بقوة للتعديل.
دعونا نتجاوز هذه المسألة لأسباب تتعلق بمعادل القوة الذي يتكئ عليه مبارك وهو المؤسسة العسكرية والتي أعلنت انحيازها له بل أكدت للإدارة الأمريكية نفسها أنها لن تتخلى عنه ولن تسمح بإهانته باعتباره أحد رموزها فضلا عن أسباب إنسانية وتاريخية وحضارية تتقاطع مع الأدوار التي لعبها خاصة قبل أن تحيط به مجموعة الفكر الجديد بقيادة نجله جمال والتي أضرت به بدلا من أن تشكل قيمة مضافة لنظامه ويبدو أنه كان شديد الثقة بهؤلاء النفر والذي حظي بالإسناد من قبل أركان مهمة في هرم السلطة بيد أنهم للأسف استغلوا هذه الثقة على نحو يحقق مصالحهم ويكرس نفوذهم السياسي والاقتصادي ويكفي أن مبارك استوعب الدرس حتى ولو كان متأخرا فهو الوحيد الذي كاد يدفع الثمن من تاريخه السياسي والعسكري فضلا عن الضغوط الخارجية خاصة من الحلفاء والشركاء الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
على أي حال لننتظر الأشهر الست المقبلة فهي لن تؤثر على مسار ثورة شباب مصر التي أضحت رقما شديد الصعوبة ليس بالإمكان تجاوزه أو الالتفات عليه أو المناورة لإسقاط أهدافها التي تقاطعت مع شعب ظل يحلم بموقع قدم في دنيا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
السطر الأخير:
أشرع أبوابي أفتح نافذتي
أتكون في رحمك ثورة
أفرد أِشرعة العشق
أكتبك أغنيتي الأبدية
مصر الحرة
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
6120
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4485
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3342
| 29 سبتمبر 2025