رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كان مشهداً عظيماً مهيباً ذلك المشهد الذي بدا فيه الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي مفتخراً بدينه ومؤيّداً من شعبه بعد أن انتخبوه واختاروه ليمثّلهم رئيساً ويقودهم زعيماً لمصر الإسلام والعروبة التي لطالما فعلت وفعلت من أجل دينها وعروبتها الشيء الذي يصعب ذكره في سطور قليلة معدودة.
وكان مشهداً أعظم منه وأكثر مهابة ذلك المشهد الذي ظهر فيه الرئيس المصري ليلقي فيه كلمته في قمة طهران التي وُصِفت بأنها قمة "عدم الانحياز" وتبين بأنها قمة "الانحياز التام للظلم والعدوان"، لقد كانت كلمة تاريخية عظيمة سيكتبها التاريخ بماء الذهب وسيسطرها بأحرف من نور عندما قال الدكتور محمد مرسي كلمته بكل عزّة وفخر وكرامة لطالما افتقدتها كلمات الكثير من الحكّام العرب والمسلمين الذين خنعوا وخضعوا لأعدائهم وطأطأوا الرؤوس وأداروا الكؤوس وشربوا مع أعداء الأمة نخب قتل شعوبهم وسفك دماء أبناء أوطانهم.
لقد أشعرنا الرئيس المصري في كلمته تلك بأن الأمة لا تزال بخير وأنها بدأت تستعيد جزءاً من كرامتها التي ضاعت وعزّتها التي تلاشت، لقد كانت كلمة الرئيس المصري محمد مرسي بمثابة الرسالة التي تريد الشعوب إيصالها لأعداء هذه الأمة ولمن يتربّصون بها من المنافقين والخونة عندما صدح بالحق الذي ظلّ عقوداً من الزمن حبيس الصدور ووئيد القلوب والأفئدة، لقد أباح الرئيس المصري بجزء مكتوم من غيظ الشعوب وقهر الناس مما يريدون قوله في وجه الطغاة والظلمة والمنافقين والخونة من أدعياء الانتساب لهذه الأمة، فلقد صلى وسلم على أشرف الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وترضّى عن صحابته العظام الكرام مبتدئاً بأبي بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذي النورين ثم علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه.. تلك الرسالة الأولى التي أوصلها الرئيس المصري لأعداء هذه الأمة من المنافقين الذين أتوا بدين جديد قائم على السبّ واللعن والشتم لأصحاب النبي العظيم ورفيقيه وعضديه..أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما حييّن وميّتين عندما شرّفهما الله بجوار النبي وملازمته ومصاهرته ومحبته صلى الله عليه وسلم، فلقد كانت رسالة إيمانية عقائدية عظيمة تلك التي أوصلها الدكتور محمد مرسي في بداية كلمته العظيمة لأعداء هذه الأمة من الذين شوّهوا ديننا العظيم برحمته وسماحته وفرّقوا الأمة بتعصبهم وطائفيتهم البغيضة التي كانت تزرع الفتن بين المسلمين من أجل التمهيد للقضاء على دولة الإسلام وعودة أمجاد الدولة الفارسية المجوسية التي أشركت بالله تعالى وعبدت من دونه النار والحجر والشجر وطغت وأفسدت وتجبّرت.
لقد كانت الرسالة شبيهة بالرسالة التي أوصلها الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه لقائد الفرس "رستم" في معركة القادسية عندما ذهب إلى الفرس في وسط معسكرهم ودخل على رستم في مجلسه ووسط خيمته التي ازدحمت بالنمارق والأرائك والنفائس فلم يؤثّر ذلك كلّه على الصحابي الجليل فتخطّى الجموع بجسده ووطأ البساط برجله وداس الحرير بقدميه بل وخرق النمارق بسيفه أو برمحه نظراً لقصر هامته كما في بعض الروايات ومضى يشقّ طريقه إلى رستم موصلاً إليه رسالة الإسلام بعزّة المؤمن المعتزّ بدينه والمهتدي بهدي نبيه صلى الله عليه وسلّم والواثق بنصر ربّه فأوصل رسالته التاريخية (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام.. وجئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..) ورغم اختلاف الروايات في نصّ الرسالة نفسها إلّا إنها كانت في ذات المعنى والجوهر فقد أوصل رسالة الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة إلى قومٍ لم يعرفوا الإيمان ولا عبادة الله سبحانه وتعالى وانغمسوا في الملذّات والشهوات كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
لقد أعاد الرئيس المصري إلى أذهان شعوب العالم العربي والإسلامي تلك القصص والروايات الخالدة في تاريخ الإسلام من خلال كلمته التي أوصلت رسالة الإيمان والإسلام إلى من شوّهوا صورة الإسلام باختلاقهم وابتداعهم لدينٍ جديدٍ يوافق شهواتهم وملذّاتهم ويتماشى مع غرائزهم وأهوائهم وتمكّنوا في عصرنا الحديث من بعض بلاد المسلمين في إيران والعراق وسوريا ولبنان فعاثوا فساداً وفرّقوا دينهم وكانوا "شيعا" وتفنّنوا في قتل وذبح المسلمين في تلك البلاد..فأعدموهم في إيران ونحروهم في العراق وذبحوهم في سوريا وخطفوهم في لبنان..في سلسلة طويلة من الجرائم التي لم يشهد لها التاريخ حقداً ودموية مثلها.
الرسالة الثانية التي أوصلها الرئيس المصري محمد مرسي في كلمته بطهران..هي رسالة العدل والحق ونصرة المظلوم عندما أعلنها في عقر دار الإيرانيين الذين أيدوا ونصروا الطاغية بشار الأسد وأعانوه على قتل شعبه فقد أعلنها الرئيس المصري مدوّية ومندداً وفاضحاً لجرائم النظام السوري برئاسة ذلك الطاغية ومعلناً للعالم بأسره بأن مصر الثورة تأبى أن تقف في صفّ الظلم والطغيان بعد أن تجرّعته وعانت من ويلاته وضحّت بفلذة أكبادها وخيرة أبنائها من أجل خلاصها منه.
لقد كانت رسالة إيمانية وأخرى سياسيّة رائعة تلك التي أوصلها الرئيس المصري إلى الإيرانيين بشكل خاص وإلى العالم بشكل عام ولكن قوّتها وروعتها تمثّلت في أنه قالها وسط طهران وفي قمة عدم الانحياز التي تبين لاحقاً أنها قمة "الانحياز" التي زيّفت فيها ومعها إيران الحقائق وشوّهت كلمة الرئيس المصري وكشفت عن وجهها الكاذب القبيح الذي كذب مراراً على شعبه وعلى العالم بأسره، فلم تتمالك إيران نفسها من هذه الكلمة القويّة الجريئة فقامت بارتكاب حماقة كبرى وفضيحة عظمى تمثّلت في تحريف وتزوير ترجمة كلمة الرئيس المصري وتغيير كلمة "سوريا" إلى "البحرين" إمعانا في الكذب وزيادة في الإجرام لرغبتها في الدفاع عن المجرم والقاتل بشار الأسد ولنشر الفتنة في البحرين والخليج العربي بشكل عام كما كانت وما زالت تفعل ذلك مراراً وتكراراً.
لقد بعثت تلك الكلمة في نفوس العرب والمسلمين روح العزّة والكرامة من جديد وتناقلها الناس ووسائل الإعلام العربية والإسلامية بكل فخر واعتزاز، وانتشرت عبر مواقع الإنترنت وفي الفضائيات وتباهى الناس بها وافتخروا بمصر ورئيسها الجديد في انتظارٍ وأمل بما تأتي به الأيام من بشائر عزة ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين ونصر وفتح قريب لأهل سوريا وخزيٍ وعارٍ وهزيمة لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمنافقين.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4842
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3576
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2871
| 16 أكتوبر 2025