رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نواصل الحديث حول كتاب «الألم النفسي والعضوي» لمؤلفه د. عادل صادق، إذ يستمر المؤلف وهو يكشف جانباً من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ منادياً على من يحب: «كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي».. ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألماً ضرورياً، حيث يأتي الألم أحياناً ليحمي الإنسان بشكل ما .. إنه حقاً ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز يقوى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: «إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته .. وإلا مات الإنسان».
يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقاراً سحرياً شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنيناً طوالا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلاما جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: «الجسد مظلة تحيط بالنفس .. مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس». وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله ناراً يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: «معظم الناس تنسى أنها ستموت»، ويستطرد ليقول: «المكتئبون يرحبون بالموت». لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أشد فتراه يشير إلى السماء.
يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهاماً مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلاً: «ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع» .. إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث إن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن بتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل .. فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: «وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه». وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمناً أطول عن أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبباً قاطعاً للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحين والمثقفين أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجباً له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالاً لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحاً بريئاً، كما أن الويل والثبور قد يطول كل من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفاً. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم. بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركّب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسلة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائياً في اللاشعور. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم «كلمة الحب» على وجه المحبين تلقائياً، وعنها يقول د. صادق متعجّباً: «وما زال العلم عاجزاً عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة». يختم د. عادل صادق حديثه عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: «وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه .. وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدراً لكل ألم». وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان -بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان .. «إنه الرضى الذي يملأ النفس سروراً فيجعل للألم مذاقاً مقبولاً».
إنه إذاً قول حكيم عن الألم .. ألم وإن كان يُفسّر علمياً كإنذار لخلل بيولوجي أصاب أحد أنسجة الجسم، فإنه يعطي للحياة معنى .. وأي معنى؟!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
9021
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
6516
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
5691
| 14 أكتوبر 2025