رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يذكر كلّ واحد منّا كيفَ عشنا أيّام «جائحة كورونا»، عندما استيقظ العالم فجأة على خبر انتشار واسع لفيروس تسبّب في تغيير نمط الحياة في كلّ المجتمعات الإنسانية، قبيلَ ذلك بفترة قصيرة كنتُ قد حضرتُ افتتاح مكتبة (الأمة) في أنقرة - تركيا - وفي كلمة الافتتاح ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كلمة فلفَت نظري سرده لحكاية ذات مغزى، حيثُ إنَّ أحد الخلفاء العباسيين بعث لاستقدام أحد العلماء الكبار ليحاوره فذهب إليه الرسول ليطلب منه الحضور إلى الخليفة حالًا فوجد العالم في مكتبته وعندما أبلغه برغبة الخليفة قال العالم إني في جلسة حوار لا أستطيع قطعها وسآتيه غدا، وفي الغد ذهب العالم إلى الخليفة، فسأله الخليفة مع من كنت بالأمس قال: كنت مع الكتب..
تلك القصّة الرمزيّة تسرّبت إلى حياتنا تحت وطأة الجائحة، وقد قدّرتُ وقتها أنّ العالم سيتغيّر دون أن يطيح بمكانة الكتاب. وفعلاً ازدادت وتيرة انتقالنا إلى العصر الرقمي دونَ أن نتخلّى عن المعرفة، ومرّت تجربة الحياة تحت وطأة «التباعد الاجتماعي» بإحلال تقارب من نوع جديد وبوسائط جديدة، فقد هيمن البعد التكنولوجي وارتفع نسق الاتّصال والتواصل وبدا السّؤال عن منزلة الكتاب والمكتبات ملحّا لدى المثقفين والكتّاب والقرّاء، ولدى الجهات المعنيّة بمصير الكتاب والمكتبات. كنتُ أسأل نفسي: ما مصيرُ المكتبات في العصر الرقمي؟ وكان لسؤالي وقع مضاعف لأنني لم أكن كاتبا وقارئا فحسب وإنّما رئيسًا لمكتبة قطر الوطنيّة، ممّا حمّلني مسؤوليّة أكبر في تناول هذا السّؤال وتقليبه والتفكير في أهمية تطوير المكتبات حتّى لا يلعب هذا العصر الرقمي بوسائله المتعدّدة دور القضاء على المكتبات، وحتّى لا نعيش زمن هدم المكتبات بطريقة حديثةٍ.
استمرار مجتمع المعرفة
صمدت المكتبات في تاريخ الإنسانيّة رغم الهدم والحرق. ولا يُعقل أن تنحني لعاصفة العصر الرقمي. فقد عرف تاريخ الكتاب مراحل تاريخيّة مختلفة في وسائل التواصل، ولكننا نشهد اليوم حلول أشكال جديدة لتواصلنا مع الكتاب. لنُدقّق الأمر أكثر، فقد كانت المرحلة الأولى التي عاشتها الإنسانيّة تشهد على امتداد أربعة آلاف سنة قبل الميلاد كيفَ تعلّم الإنسان الكتابة، وكيفَ بدأ مع اختراع الكتابة في استخدام لفافات الورق ومخطوطات البردي لحفظ المعلومات والمعاملات والفنون وتعبيره عن رؤيته للحياة والمعتقدات. وبعدها أصبح المخطوط شائعًا فسهّل عمليات التواصل، وعدّ اهتداء الإنسان لفنّ المخطوط ثورة ثقافيّة في تلك العهود سمحت له بتملّك «الوثيقة» وتصفّحها والتعليق عليها في هوامشها، لكنّ مرحلة اختراع الطباعة نحو عام 1450م مكّن الإنسان من الدّخول في عالم التواصل الواسع النطاق، فبعد أن كان استنساخ النّصوص من اختصاص النّساخ صار من مهام المطبعة التي وسّعت مجالات تداول المعرفة ونقلت الكتاب من زمن المخطوط إلى زمن المطبوع. ولا شكّ فإنّ المكتبات التي كانت في السابق تعتمد على المخطوطات وتستعين بصناعة الورّاقين تطوّرت خدماتها بتطوّر صناعة الكتاب. وها نحن اليوم نعيش زمن «النصّ الإلكتروني»، وهي ثورة أخرى في تاريخ الكتاب والتواصل، والمتأمّل في وتيرة تطوّر هذا التاريخ، سيندهش لتلك النقلات المتسارعة التي وفّرتها التكنولوجيا للإنسانيّة، فبينما استغرقت مدّة استخدام الإنسان للكتابة على اللفافة قرابة 4300 سنة، فإنّ استخدام المخطوط بحروف متنقلة دام قرابة 524 سنة، وتطلب الانتقال من الكتاب المطبوع إلى الإنترنت بمحرّكات البحث قرابة 17 سنة لتستغرق مدّة إنجاز محرّكات البحث مع الترتيب عبر غوغل حوالي 7 سنوات. ومن الصّائب الاعتراف أنّنا نعيش على وقع تغيير في تعاملنا مع الكتاب والقراءة على السّواء، إذ يُعدّ دخول الكتاب الورقي إلى عالمنا ميلادًا لفترة جديدة في تاريخ الإنسان. لم تعد القراءة مقتصرة على الكتاب المطبوع، بل إنّ جيلاً كاملاً نشأ بين الصّفحات الافتراضيّة لمحرّكات البحث، وهو لم يعد يستخدم نفس الطرق التي كنا نقرأ بها ونتعامل بها مع الكتاب. إنّه جيل تنوّع طرق القراءة، فالشاشة غير الورقة، وهو قادر في وقت وجيز على تصفح كتب مختلفة في وقت واحد والاكتفاء بنبذات من هنا وهناك. ولا يعني ذلك أنّنا نتحسّر على زمن ما قبل الرقمي فلم يتحسّر أبناء زمن المطبعة على زمن المخطوط، ولم تلغ المطبعة تاريخ الكتاب بل طورته، وكذلك موقفنا من العصر الرقمي. وما الحديث عن أزمة القراءة والكتاب بدعوى هيمنة الرقمي على حياتنا إلاّ حكم يحتاج إلى تروٍّ، فقد عصفت أزمة القراءة أوروبا مثلا قبل أن يحلّ العصر الرقمي، وقد سبق تراجع قراءة الكتب في فرنسا زمن هيمنة الرقمي على عمليات النشر وتداول الكتاب.
إنّنا مجبرون لفهم طبيعة العصر الرقمي ومتطلّباته لكي نستثمر وسائله. لقد حلّ الرقمي في مختلف المجالات، ومن المهمّ التّصريح بذلك حتّى لا يُعتقد أنّ مجال الكتاب والمكتبات مهدّد بشكل متعمّد من هذه الوسائل الجديدة. انتقلت الإدارة في أغلب بلدان العالم من الإدارة الورقيّة إلى الإدارة الرقميّة، وأصبح لزاما على كلّ بلد تطوير خدماته باستخدام التكنولوجيا، لذلك فإنّ الدول التي تعيش ما اصطلح على تسميته بـ»الفجوة الرقميّة» تظلّ متأخرّة قياسا بدول أخرى تمتلك وسائل الرقمنة.
لا يعني الانخراط في العصر الرقمي إعلانا عن «نهاية المكتبات»، فالمكتبات مثل الإنسان تماما فهي على سبيل المجاز «مدنيّة بطبعها» وهي تتأقلم مع المتغيرات التي تحيط بها، وإذا كان «العصر الرقمي» في ظاهره عصر الوسائل والتقانات فإنّه في جوهره عصر معرفي، وما المجتمع الذي يدعو إليه سوى «مجتمع المعرفة». ولكنّ هذا الموقف يتطلّب في الآن نفسه مجهودات كبيرة لأجل «الإبقاء» على المكتبات بل وجعلها تنمو وتعمل بوظائفها المعلومة، وإذا كنا اليوم قادرين على الدخول إلى أيّة مكتبة في العالم للاطلاع على محتوياتها والاستفادة من خدماتها فذلك من فضائل العصر الرقمي ولا يعني أنّ فضاء شاشات الحواسيب سيعتقل القرّاء ليمنعهم من الذّهاب إلى المكتبات واستعارة الكتب منها والمكوث بين أروقتها.
تقوم المكتبات بالتكيّف مع متطلبات العصر، وما يطلبه جمهور القرّاء أيضا، لذلك سارع المهنيّون في المجال إلى دمج وسائل جديدة في المكتبات مثل الشّاشات والألواح الرقميّة في القاعات، ويعني ذلك أنّ إدارة المكتبات ستختلف عمّا كانت عليه، وقد برهن العرب في تاريخنا الثقافي على قدرتهم على اصطناع وسائل جديدة في إدارة المكتبات منذ القديم، فلم يكن لديهم إنشاء المكتبات وليد هاجس حفظ المعارف بقدر ما اهتمّ العرب بـ»إدارة» رصيد مكتباتهم فتوصّلوا قبل غيرهم من الأمم إلى علم إدارة المكتبات، وتصنيف المؤلفات تصنيفاً موسوعياً، ونذكر من أشهر «خزاني المكتبات» سهل بن هارون وابن مسكويه وأبو سيف الأسفرايني. ولذلك فإنّ تطوير المكتبات في هذا العصر ليس مجرّد حاجة وإنّما هو استمرار لمجتمع المعرفة الذي تحافظ فيه المكتبة على مكانتها.
الرقمنة خيار إستراتيجي
لشدّ ما أعجبني قول جيمس برايدل «لا تعني التقانة مجرّد صناعة أو استخدام أداة ما، بل هي صياغة الاستعارات»، فقد اهتدى إلى أنّ الغاية الرئيسيّة في هذا العصر الرقمي لا ترتكز على تملّك أدوات التقنية، بل ترتكز على تلك المفاهيم الجديدة التي نمتلكها لتطويع تلك الأدوات وليس لتوثينها، فيصبح الأمر نوعا من الانقياد الطوعي لـ»الوسيط»، فنغترب فيه وننسى أنّه من صنعنا ولسنا من صُنعه.
وعندما حللت رئيسا على مكتبة قطر الوطنيّة فكّرتُ طويلاً في كيفيّة استثمار هذه الوسائل الجديدة لخدمة مضامين الهويّة الوطنيّة وقيم التعارف الإنساني، وعملتُ على أن توظّف هذه الوسائل في المحافظة على التراث الثقافي لدولة قطر والخليج العربي والتراث الإنساني. ولعلَّ من أبرز أدوار المكتبات الوطنية في العالم بشكل عام القيام بهذا العمل الجليل منْ حفظ للتراث الفكري الإنساني، وذلك هو دور من الأدوار الأساسيّة التي تقوم بها مكتبة قطر الوطنيّة.
لقد تعلَّمنا بأنّ التَّجارب والخبرات التي عرفتها الحضارات استطاعت أن تُراكم معارف ومهارات لا غنى للإنسان عنها في أيّ زمان ومكانٍ لأنّها نواة هذا التطوّر الذي نعيشهُ، وإننا نرى هذا التراكم فيما تركته الأجيال من وسائط مدوّنة أو شفاهيّة، وتناقلتها الأمم، وسارعت إلى حفظها من الزوال حتّى تظلَّ محفورة في ذاكرة الأجيالِ وفاعلة في حاضرها متى دعت الحاجة إليها. وقد تحوّلت هذه الوسائط إلى مصادر للمعرفة يستفيد منها الجميع، ولكنّ هذه الوسائط تحتاج على مرّ السنوات إلى حفظ وصون، وقد أتاحت الوسائط الرقميّة فرصة لهذا الحلم.
تُعدُّ مكتبة قطر الوطنيّة قلعة من قلاع التراث الثقافي بفضل ما تزخر به المكتبة التراثية بها من مخطوطات وخرائط نادرة توفّر للمستفيدين معرفة تراثيّة واسعة بالتاريخ القطري خاصّة، وإن كان معمار مكتبة قطر الوطنيّة حديثًا في طابعه الهندسي فإنّها تولي التراث الثقافي مكانته المتميّزة واللائقة به. وقد تجاوزت المكتبة الدور التقليدي في المحافظة على التراث من خلال تبنيها للأساليب التكنولوجيّة المتقدّمة، ولم تعد تكتفي في أعمالها بتنمية مجموعاتها الوثائقية بحسب حاجيات المستفيدين فقط، بل سارعت إلى حصر الإنتاج الفكري الوطني وتجميعه وتنظيمه والاهتمام بالتراث الثقافي القطري حتّى تكون المكتبة عنصرا فاعلا في بناء الهوية الوطنيّة.
ومن أثر انفتاح هويتنا على التقدم التكنولوجي توظيفنا لكلّ الوسائط الرقميّة، فالمخطوطات تحتاج إلى عناية مخصوصة للمحافظة عليها نظرا لقِدمها ونُدرتها وصعوبة تحقيقها، ومن هنا تأتي أولويّة رقمنتها في جميع مكتبات العالم الإسلامي حتّى تبقى شاهدة على تاريخنا المشترك، وتظلّ مصدرا أساسيا من مصادر معرفتنا بكنوز التراث الفكري والمهاري الذي عرفه المسلمون على امتداد قرون.
إنّ المجتمع الرقمي هو الصّورة الجديدة لمجتمع المعرفة، حيثُ أصبحت المعرفة معتمدة على تقنيات ومنهجيات وأساليب عمل حديثة متطوّرة، وتُترجم مكتبة قطر الرقميّة هذا الانخراط في المجتمع الرّقمي الذي يوسّع من القدرة على استيعاب أكبر قدر ممكن من المعارف وتحصيلها على محامل جديدة كما يوسّع قاعدة المستخدمين من قرّاء وباحثين، فتصبح المعلومات والمعارف متاحة بسهولة ويسر وبلا قيود، ليكون المجتمع الإنساني بشكل عام أكثر معرفة من أيّ وقتٍ مضى. فقد تمّت رقمنة أكثر من مليون ونصف المليون صفحة، وقريبا سترقمن تسعمائة ألف صفحة من المواد الجديدة حول منطقة الخليج، وتعكس هذه الأرقام التدفّق الكبير للمعارف ووفرة المادّة العلميّة المتاحة للأكاديميين والمؤرّخين، والطلاب والباحثين على السّواء.
لنعترف جميعًا بأنّ استخدام التكنولوجيا اليوم لم يعد ترفا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه، مثلما أصبحت المكتبة الرقميّة جزءا من حياة المجتمع المعاصر، وجزءا من تطلّع كلّ مجتمع يريد الخروج من الفجوة الرقميّة ليبلغ التقدّم. ولعلّ من بين ما أنجزته مكتبة قطر الرقميّة، قدرتها على تأكيد عبور دولة قطر إلى مصاف الدول التي تراهن على المعرفة بأدوات في غاية التطوّر، فلم تعد المكتبة مجرد مخزن للكتب ولأوعية المعلومات في صروح شاهقة وبعيدة أحيانا بل أصبحت أقرب إلى القارئ والباحث فتسمح له باستثمارها الاستثمار الأمثل، ويمثّل تيسير تلقي المعرفة نقلة في الزمان والمكان حيثُ تصبح المعلومة والمادة البحثيّة قريبة من طالبها، وتلك هي القيمة المُضافة للمكتبة الرقميّة.
وتساهم رقمنة الموادّ التاريخيّة في اكتساب عامل الوقت، حيث تصبح الاستفادة من المعرفة سريعة، وهو ما يحقّق التواصل مع المواد العلميّة التي كان من المتعذّر الحصول عليها، وهي فائدة تغني الطلاب والباحثين وسائر القرّاء عن التنقّل إلى مواقع هذه المصادر التي كانت مشتتة في المكتبات أو مبثوثة على أرفف الخزائن. وإذا كان النفاذ إلى المعلومة التاريخيّة قد أصبح أمرا متيسّرا فإنّ سعي مكتبة قطر الرقميّة إلى أرشفة مواد من المكتبة التراثيّة بالإضافة إلى مواد من شركاء المكتبة الدوليين من المراكز الأرشيفيّة مثل الأرشيف العثماني والأرشيف الدبلوماسي الفرنسي في باريس والأرشيف الوطني الهولندي، سيسمح بتوسيع دائرة المعرفة، وسيعطي للباحثين فرصا لم تكن متوفّرة لتحصيل الحقائق التاريخيّة، ولفهم التجارب الإنسانيّة المختلفة.
نحن اليوم في حاجة إلى الحوار والتفاعل الإيجابي بين الثقافات والحضارات وليست مكتبة قطر الرقميّة غير أداة متقدّمة للاستجابة إلى هذه الحاجة، فالرهان الحضاري كبير، وهو معقود على تحقيق مستقبل أفضل للإنسانيّة حيثُ يستفيد القارئ من المعرفة لا ليكنزها في عقله ووجدانه بل ليعمل بها، وينتج من خلالها ويساهم بمادّتها في تطوير المعرفة البشريّة، فتنمية المعارف بواسطة التقنيات الجديدة جزء من تنمية مستقبل الإنسانيّة الذي لا يقوم إلا على المعرفة باعتبارها خلاصة احترام الإنسان لأخيه الإنسان لأجل حاضرٍ تسوده القيم المشتركة ومستقبل يعمّه السّلام.
المشهور الذي لم يعد مشهوراً
(ترويج «مشاهير التواصل» للسلع الرديئة يفقدهم المصداقية) جذبني هذا العنوان لدى تصفُّحي اليومي لموقع صحيفة الشرق القطرية وهو... اقرأ المزيد
168
| 25 نوفمبر 2025
معايير الجمال
منذ صغرنا ونحن نشاهد الأفلام والدعايات التي رسخت في عقولنا الشكل والجسم الذي يجب أن نظهر عليه. أتحدث... اقرأ المزيد
177
| 25 نوفمبر 2025
ارتفاع الإيجارات.. أزمة متنامية تستدعي حلولًا واقعية
يشهد سوق العقارات في دولة قطر ارتفاعاً متواصلاً في الإيجارات السكنية والتجارية على حد سواء، حتى أصبحت الإيجارات... اقرأ المزيد
330
| 25 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور الكرام… لحظات تُعلن فيها مؤسسات الدولة أنها انتقلت من مرحلة “تسيير الأمور” إلى مرحلة صناعة التغيير ونقل الجيل من مرحلة كان إلى مرحلة يكون. وهذا بالضبط ما فعلته وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في السنوات الأخيرة. الأسرة أولاً… بُعدٌ لا يفهمه إلا من يعي أهمية المجتمع ومكوناته، مجتمعٌ يدرس فيه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة ويسند هذه المنظومة أكثر من 28 ألف معلم ومعلمة في المدارس الحكومية والخاصة، إلى جانب آلاف الإداريين والمتخصصين العاملين في الوزارة ومؤسساتها المختلفة. لذلك حين قررت الوزارة أن تضع الأسرة في قلب العملية التعليمية هي فعلاً وضعت قلب الوطن ونبضه بين يديها ونصب عينيها. فقد كان إعلانًا واضحًا أن المدرسة ليست مبنى، بل هي امتداد للبيت وبيت المستقبل القريب، وهذا ليس فقط في المدارس الحكومية، فالمدارس الخاصة أيضًا تسجل قفزات واضحة وتنافس وتقدم يداً بيد مع المدارس الحكومية. فمثلاً دور الحضانة داخل رياض الأطفال للمعلمات، خطوة جريئة وقفزة للأمام لم تقدّمها كثير من الأنظمة التعليمية في العالم والمنطقة. خطوة تقول للأم المعلمة: طفلك في حضن مدرستك… ومدرستك أمانة لديك فأنتِ المدرسة الحقيقية. إنها سياسة تُعيد تعريف “بيئة العمل” بمعناها الإنساني والحقيقي. المعلم… لم يعد جنديًا مُرهقًا بل عقلاً مُنطلقًا وفكرًا وقادًا وهكذا يجب أن يكون. لأول مرة منذ سنوات يشعر المُعلم أن هناك من يرفع عنه الحِمل بدل أن يضيف عليه. فالوزارة لم تُخفف الأعباء لمجرد التخفيف… بل لأنها تريد للمعلم أن يقوم بأهم وظيفة. المدرس المُرهق لا يصنع جيلاً، والوزارة أدركت ذلك، وأعادت تنظيم يومه المدرسي وساعاته ومهامه ليعود لجوهر رسالته. هو لا يُعلّم (أمة اقرأ) كيف تقرأ فقط، بل يعلمها كيف تحترم الكبير وتقدر المعلم وتعطي المكانة للمربي لأن التربية قبل العلم، فما حاجتنا لمتعلم بلا أدب؟ ومثقف بلا اخلاق؟ فنحن نحتاج القدوة ونحتاج الضمير ونحتاج الإخلاص، وكل هذه تأتي من القيم والتربية الدينية والأخلاق الحميدة. فحين يصدر في الدولة مرسوم أميري يؤكد على تعزيز حضور اللغة العربية، فهذا ليس قرارًا تعليميًا فحسب ولا قرارًا إلزاميًا وانتهى، وليس قانونًا تشريعيًا وكفى. لا، هذا قرار هوية. قرار دولة تعرف من أين وكيف تبدأ وإلى أين تتجه. فالبوصلة لديها واضحة معروفة لا غبار عليها ولا غشاوة. وبينما كانت المدارس تتهيأ للتنفيذ وترتب الصفوف لأننا في معركة فعلية مع الهوية والحفاظ عليها حتى لا تُسلب من لصوص الهوية والمستعمرين الجدد، ظهرت لنا ثمار هذا التوجه الوطني في مشاهد عظيمة مثل مسابقة “فصاحة” في نسختها الأولى التي تكشف لنا حرص إدارة المدارس الخاصة على التميز خمس وثلاثون مدرسة… جيش من المعلمين والمربين… أطفال في المرحلة المتوسطة يتحدثون بالعربية الفصحى أفضل منّا نحن الكبار. ومني أنا شخصيًا والله. وهذا نتيجة عمل بعد العمل لأن من يحمل هذا المشعل له غاية وعنده هدف، وهذا هو أصل التربية والتعليم، حين لا يعُدّ المربي والمعلم الدقيقة متى تبدأ ومتى ينصرف، هنا يُصنع الفرق. ولم تكتفِ المدارس الخاصة بهذا، فهي منذ سنوات تنظم مسابقة اقرأ وارتقِ ورتّل، ولحقت بها المدارس الحكومية مؤخراً وهذا دليل التسابق على الخير. من الروضات إلى المدارس الخاصة إلى التعليم الحكومي، كل خطوة تُدار من مختصين يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين الوجهة وما هو الهدف. في النهاية… شكرًا لأنكم رأيتم المعلم إنسانًا، والطفل أمانة، والأسرة شريكًا، واللغة والقرآن هوية. وشكرًا لأنكم جعلتمونا: نفخر بكم… ونثق بكم… ونمضي معكم نحو تعليم يبني المستقبل.
13593
| 20 نوفمبر 2025
في قلب الإيمان، ينشأ صبر عميق يواجه به المؤمن أذى الناس، ليس كضعفٍ أو استسلام، بل كقوة روحية ولحمة أخلاقية. من منظور قرآني، الصبر على أذى الخلق هو تجلٍّ من مفهوم الصبر الأوسع (الصبر على الابتلاءات والطاعة)، لكنه هنا يختصّ بالصبر في مواجهة الناس — سواء بالكلام المؤذي أو المعاملة الجارحة. يحثّنا القرآن على هذا النوع من الصبر في آيات سامية؛ يقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل: 10). هذا الهجر «الجميل» يعني الانسحاب بكرامة، دون جدال أو صراع، بل بهدوء وثقة. كما يذكر القرآن صفات من هم من أهل التقوى: ﴿… وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ … وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134). إن كظم الغيظ والعفو عن الناس ليس تهاونًا، بل خلق كريم يدل على الاتزان النفسي ومستوى رفيع من الإيمان. وقد أبرز العلماء أن هذا الصبر يُعدُّ من أرقى الفضائل. يقول البعض إن كظم الغيظ يعكس عظمة النفس، فالشخص الذي يمسك غضبه رغم القدرة على الردّ، يظهر عزمًا راسخًا وإخلاصًا في عبادته لله. كما أن العفو والكظم معًا يؤدّيان إلى بناء السلم الاجتماعي، ويطفئان نيران الخصام، ويمنحان ساحة العلاقات الإنسانية سلامًا. من السنة النبوية، ورد عن النبي ﷺ أن من كظم غيظه وهو قادر على الانتقام، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فكم هو عظيم جزاء من يضبط نفسه لصالح رضا الله. كما تبيّن المروءة الحقيقية في قوله ﷺ: ليس الشديد في الإسلام من يملك يده، بل من يملك نفسه وقت الغضب. أهمية هذا الصبر لم تذهب سدى في حياة المسلم. في مواجهة الأذى، يكون الصبر وسيلة للارتقاء الروحي، مظهراً لثقته بتقدير الله وعدله، ومعبّراً عن تطلع حقيقي للأجر العظيم عنده. ولكي ينمّي الإنسان هذا الخلق، يُنصح بأن يربّي نفسه على ضبط الغضب، أن يعرف الثواب العظيم للكاظمين الغيظ، وأن يدعو الله ليساعده على ذلك. خلاصة القول، الصبر على أذى الخلق ليس مجرد تحمل، بل هو خلق كرامة: كظم الغيظ، والعفو، والهجر الجميل حين لا فائدة من الجدال. ومن خلال ذلك، يرتقي المؤمن في نظر ربه، ويَحرز لذاته راحة وسموًا، ويحقّق ما وصفه الله من مكارم الأخلاق.
1797
| 21 نوفمبر 2025
في لحظة تاريخية، ارتقى شباب المغرب تحت 17 عاماً إلى أسمى آفاق الإنجاز، حين حجزوا مقعدهم بين عمالقة كرة القدم العالمية، متأهلين إلى ربع نهائي كأس العالم في قطر 2025. لم يكن هذا التأهل مجرد نتيجة، بل سيمفونية من الإرادة والانضباط والإبداع، أبدعها أسود الأطلس في كل حركة، وفي كل لمسة للكرة. المغرب قدم عرضاً كروياً يعكس التميز الفني الراقي والجاهزية الذهنية للاعبين الصغار، الذين جمعوا بين براعة الأداء وروح التحدي، ليحولوا الملعب إلى مسرح للإصرار والابتكار. كل هجمة كانت تحفة فنية تروي قصة عزيمتهم، وكل هدف كان شاهداً على موهبة نادرة وذكاء تكتيكي بالغ، مؤكدين أن الكرة المغربية لا تعرف حدوداً، وأن مستقبلها مزدهر بالنجوم الذين يشقون طريقهم نحو المجد بخطوات ثابتة وواثقة. هذا الإنجاز يعكس رؤية واضحة في تطوير الفئات العمرية، حيث استثمر الاتحاد المغربي لكرة القدم في صقل مهارات اللاعبين منذ الصغر، ليصبحوا اليوم قادرين على مواجهة أقوى المنتخبات العالمية ورفع اسم بلادهم عالياً في سماء البطولة. وليس الفوز وحده، بل القدرة على فرض أسلوب اللعب وإدارة اللحظات الحرجة والتحلي بالهدوء أمام الضغوط، ويجعل هذا التأهل لحظة فارقة تُخلّد في التاريخ الرياضي المغربي. أسود الأطلس الصغار اليوم ليسوا لاعبين فحسب، بل رموز لإصرار أمة وعزيمة شعب، حاملين معهم آمال ملايين المغاربة الذين تابعوا كل لحظة من مغامرتهم بفخر لا ينضب. واليوم، يبقى السؤال الأعمق: هل سيستطيع هؤلاء الأبطال أن يحولوا التحديات القادمة إلى ملحمة تاريخية تخلّد اسم الكرة المغربية؟ كل المؤشرات تقول نعم، فهم بالفعل قادرون على تحويل المستحيل إلى حقيقة، وإثبات أن كرة القدم المغربية قادرة على صناعة المعجزات. كلمة أخيرة: المغرب ليس مجرد منتخب، بل ظاهرة تتألق بالفخر والإبداع، وبرهان حي على أن الإرادة تصنع التاريخ، وأن أسود الأطلس يسيرون نحو المجد الذي يليق بعظمة إرادتهم ومهارتهم.
1173
| 20 نوفمبر 2025