رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أخذت أتأمل طويلا في عملية القتل الممنهج التي استعرت في سوريا من قبل قوات الجيش والأمن التابعة لبشار الأسد خاصة في الأيام الأخيرة تحت زعم حسم الأمور لصالح نظامه وظل السؤال يلح عليّ كلما قرأت أو شاهدت هذا القدر من البشاعة في القصف ودك الأحياء والمنازل على ساكنيها خاصة في حمص وحماة وريف دمشق وإدلب وغيرها من مدن ومناطق صامدة ومثابرة: لمن يقتل بشار شعبه؟
هل ينزع إلى تثبيت مرتكزات حكمه ونظامه؟ أم يريد أن يدخل التاريخ كرئيس لم يسقط تحت سنابك ثورة شعب؟
أظن أنه يريد إنجاز الأمرين معا بيد أن الحقيقة تشير إلى أن بشار يستجيب لحتمية التغيير والركض بسرعة نحو دائرة السقوط فدماء الشعب السوري ليست بهذا القدر الذي يتصوره هو وأركان حكمه -رجال الأمن والاستخبارات والحزب وطبقة رجال أعمال ومهربين -من السهولة بحيث يتم القفز عليها وتجاوزها ليتمكن من تكريس نظامه الذي فقد شرعيته عندما أطلق أول رصاصة ضد الثائرين عليه.
كان بوسع بشار أن يفتح الباب لحوار حقيقي وجاد ودون مشروطية عوضا عن إطلاق الهراوات وفوهات البنادق وتحريك جنازير الدبابات والمدرعات في مهمات تتناقض مع مهمتها الرئيسية والمركزية والمتمثلة في الاستعداد لحرب العدو الذي ترابط قواته على مسافة بضعة كيلو مترات محتلة الأرض وجاثمة على أنفاس الوطن دون أن يحرك ساكنا منذ أكثر من أربعين عاما بل إن أحدا لا يتذكر أن هذا الجيش أطلق رصاصة واحدة على هذا العدو طوال هذه المدة بينما- وتلك هي المفارقة - لديه قدرة فائقة على محاربة الأشقاء في لبنان وأبناء الوطن في الشام.
وكلما شاهدت هذه الطوابير الممتدة من دروع ودبابات ورجال الجيش وهي تجوب المدن والأحياء والمناطق المختلفة وتفتك بالبشر من رجال وأطفال ونساء نراهم على الشاشات جاثمين بأجسادهم على الأرض سواء قتلا أو إصابة يجتاحني الألم ويسكنني الوجع فهذا جيش كابد الشعب السوري من أجل بنائه وتسليحه وتحديثه دوما ولم يبخل عليه خاصة بعد سقوط الجولان في قبضة العدو ومع ذلك لم يدفع باتجاه تحرير الهضبة وأظن أن ذلك هو السر وراء الانشقاقات المتزايدة من ضباط وجنود فهم يكرهون أن يكونوا أداة طيعة في نظام لا يرغب في تحرير التراب الوطني المحتل ولكنه يمعن في قتل شعبه بوتيرة تنطوي على نوع استثنائي من الحق من النخبة الحاكمة على هذا الشعب الذي تجرأ وأعلن رفضه لاستمرار الاستبداد والقمع وغياب الحرية وانزواء العدالة الاجتماعية.
وإذا استمر بشار في قتل شعبه على هذا النحو من الهمجية تحت زعم أنه يحارب الجماعات المسلحة والإرهابيين (وهي نفس العبارات التي استخدمها من قبله كل هؤلاء المستبدين الذين رحلوا إما بقوة السلاح أو بقوة هدير الجماهير أو بقوة السياسة) فهل يمتلك القدرة على الاستمرار في حكمه؟ وأتساءل مرة أخرى: أي ضمير يسكنه وهو يجلس على عرش الشام خلفا لوالده سامحه الله على تدشينه أسوأ تقليد يتمثل في توريث الابن لسلطة الأب في ظل نظام جمهوري؟
ألم يقرأ بشار وقائع التاريخ والمفروض أنه قارئ جيد أم المقربون منه يجنبونه الكتب التي تتناول هذا النوع من الأحوال؟ ومتى كانت الرغبة في البقاء في السلطة والركض خلف مميزاتها وامتلاك ناصيتها قادرة على تغييب الضمير الإنساني وممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب وأظن أن تقريرا داخل مجلس حقوق الإنسان الدولي يعد الآن وسيصدر وفق معلوماتي في شهر مارس الجاري ليكشف حقائق الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي مارسها بشار وزبانية نظامه والذي يبدو أنهم يتأسون بالإرهابي الصهيوني العائش في الغيبوية منذ سنوات خلال عدوانه على الضفة الغربية ردا على انتفاضة الشعب الفلسطيني على اقتحامه هو وجنده المسجد الأقصى ليس ثمة فوارق بين المنهجين قتل واقتحام ودك للمنازل والأحياء ومطاردة للسكان دون حرمة لعجوز أو طفل أو امرأة فضلا عن فرض الحصار على الأماكن ومنع كل ما ييسر الحياة ويداوي جرحا، ولا تتورع قوات الأسد عن قتل الناس خلال تشييع الجنازات أي قسوة وغياب لكل المحددات الدينية والقيمية التي تكرست عبر التاريخ الإنساني.
هل يعيد بشار نفس أساليب بعض خلفاء الدولة الأموية والذين كانوا يحكمون المسلمين من دمشق ولم يتورعوا عن حصار الكعبة المشرفة وقصفها والاعتداء على حرمتها التي قررها الله في كتابه العزيز وقتل وسحل المعارضين سواء في المدينة المنورة أو في العراق خاصة في كربلاء عندما هجمت القوات التابعة للخليفة يزيد بن معاوية على المجموعة المنضوية تحت قيادة حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما فأبادت أفرادها جميعا في موقعة كربلاء الشهيرة سوى طفل صغير هو زين العابدين حفيد الحسين ودون ذلك لما بقي من ذرية الرسول أحد وقامت بسبي نساء من آل البيت وفي مقدمتهن زينب بنت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم والاستيلاء على ممتلكاتهن. لقد قرأت كتابا مؤخرا عن هذه الفترة وهو ما يجعلني أقول إن بعضا من تاريخ بني أمية يعود من جديد وليته يعود عبر المحافظة على الثغور وفتح الأمصار الجديدة وتمديد الحضارة الإسلامية وذلك هو الشق المشرق في سيرة نخب بني أمية الحاكمة لكنه يعود من بوابة الدم والقتل وانتهاك الحرمات والفتك بالمعارضين بأشد أنماط القسوة والجبروت.
لم يعد أمام بشار سوى الرحيل لأنه لن يكون بمقدوره أن يتواصل حاكما على شعب يقتله، فهو – أي هذا الشعب- قرر الثورة ضده والثبات في الميدان رغم الجوع وسطوة الشتاء وقسوة الضربات المتتالية في الصباحات والمساءات واستخدام كل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة ضد الأطفال والنساء القابعين في الحجرات المعتمة بلا طعام أو دواء.
هذا الشعب لن يغفر لبشار صناعة مدن الدم في أنحاء الوطن الجريح ومن ثم فإنه من الحري به أن يبادر بالمغادرة عبر قبوله بالمبادرة العربية الأخيرة التي تقترب من النموذج اليمني التي حققت تحولا مهما على الأرض يتمثل في غياب الرئيس الذي ظل جاثما على عرش سبأ منذ العام الذي تخرجت فيه من الجامعة – العام 1978 - ورغم التحفظات المتعلقة بمنح صالح الضمانات ضد الملاحقة الأمنية فإن هذا النموذج شكل البداية لتحقيق أهم مطالب ثورة شباب اليمن والمتمثلة في إسقاط النظام ولا أشك أن الرئيس الجديد الطالع من رحم النظام السابق سوف يقدم على تبني سياسات مغايرة بل ومناقضة لسياسات سلفه لإعادة بناء وطن ظل خاضعا لهيمنة آل صالح التي كانت قائمة على ثنائية السلطة والثروة وهي الثنائية ذاتها التي نهض عليها نظام مبارك ومن قبل بن علي ومن بعد معمر القذافي وما زالت قائمة في الشام.
إن الشعوب لم تعد مهيأة للقبول بهذه الثنائية التي تخصم من حضورها وحظوظ حياتها وأشواقها الكبرى للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وبالتالي فإن بشار مطالب بالإسراع بالرحيل لأن قرار الشعب صدر ولا نقض له ولا يظنن أن فيتو تمارسه دولة أو أخرى لحمايته أو موقفا من هنا أو هناك أو حتى تقديم إسناد له بالسلاح والمال من هذا الطرف أو تلك الجماعة سيجديه نفعا. المجدي الحقيقي هو أن ينحني لثورة شعب لم يعد يهمه أن يقتل أو يصلب أو تدمر مقدراته فهو مدرك أن للانتصار أثمانا باهظة هو يدفعها بالفعل عبر أرواح شهدائه البررة الذين تجاوزت أعدادهم أكثر من ثمانية آلاف شخص أو عشرات الألوف من الجرحى والمئات من البيوت المهدمة وأشجار الكرز والزيتون المصلوبة بحدائق الشام.
السطر الأخير:
تمادت حروف الكتابة
تصلبت بأصابعي
قلت لها: شاعر أنا
فكوني طيعة لإلهامي
سكتت تمددت أمامي
صرخت في وجهي:
اكتب عن العشق
عن طوابير الواقفين ببوابات الشام
حالمين بالطهر
والياسمين لبردى
والسكينة والعدل لبلاد
تحلم بالحرية وعزف
الأنغام
(70 مليون طن من الركام والأنقاض وأكثر من 20,000 من القنابل التي لم تنفجر في قطاع غزة) ربما... اقرأ المزيد
261
| 19 أكتوبر 2025
أعادت الطائرات المسيّرة رسم مشهد الحروب الحديثة، فلم تعد مجرد أدوات تقنية، بل أصبحت قوة بنيوية تغيّر موازين... اقرأ المزيد
153
| 19 أكتوبر 2025
المرحلة الثانية من وقف الحرب لا تُشبه الهدوء، بل تشبه الصمت الذي يسبق الانفجار. هي مرحلة تتزيّن بالحديث... اقرأ المزيد
138
| 19 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
7902
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6789
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر الموظفون والمتقاعدون في قطر بمرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والتقدير العملي لعطاءاتهم الطويلة. فقد نصت المادة (31) من القانون على أن الموظف الذي أكمل أكثر من ثلاثين سنة في الخدمة يستحق مكافأة عن السنوات الزائدة، وهو ما اعتُبر نقلة نوعية في التشريعات، ورسالة وفاء وعرفان من الدولة لأبنائها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسساتها. غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ جاءت اللائحة التنفيذية لتضع قيداً لم يرد في النص الأصلي، حيث حصرت استحقاق مكافأة السنوات الزائدة فيمن تجاوزت خدمته الثلاثين سنة ابتداءً من عام 2023 فقط، متجاهلة بذلك آلاف المتقاعدين الذين أنهوا خدماتهم الطويلة قبل هذا التاريخ. هذا التفسير الضيّق أثار جدلاً واسعاً بين القانونيين والمتقاعدين، لأنه خالف صراحة روح المادة (31) وأفرغها من مضمونها العادل. النص التشريعي والغاية المقصودة: لا جدال في أن المشرّع حين أقر المادة (31) كان يبتغي تحقيق مبدأ المساواة والعدل بين كل من خدم الوطن أكثر من ثلاثين عاماً، دون التفريق بين من انتهت خدمته قبل أو بعد 2023. فالقانون قاعدة عامة مجردة، ومقاصده تتجاوز اللحظة الزمنية لتغطي جميع الحالات المماثلة. فإذا جاء النص واضحاً في تقرير الاستحقاق، فإن أي تفسير لاحق يجب أن يكون شارحاً ومكملاً، لا مقيّداً أو مفرغاً من المضمون. إن حصر المكافأة بفئة زمنية محددة يتنافى مع المبادئ العامة للتشريع، ويجعل القانون غير منصف في تطبيقه. فالذين تقاعدوا قبل 2023 قدّموا جهدهم وعرقهم طوال عقود، ومن غير المنطقي أن يُحرموا من حق أثبته النص لمجرد أن توقيت تقاعدهم سبق صدور القانون الجديد. أثر التمييز الزمني على المتقاعدين: إن استبعاد فئة كبيرة من المتقاعدين من حق المكافأة يخلق شعوراً بالغبن واللامساواة، ويؤدي إلى اهتزاز الثقة في العدالة التشريعية. هؤلاء المتقاعدون خدموا في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة، وأسهموا في بناء نهضة الدولة منذ بداياتها، وتحملوا ظروف العمل في فترات صعبة لم تكن فيها الامتيازات والرواتب كما هي اليوم. إن تجاهل هذه الفئة يرسل رسالة سلبية مفادها أن جهد العقود الطويلة يمكن أن يُطوى بجرة قلم، وأن التقدير مرهون بتاريخ تقاعد لا بعطاء حقيقي. وهذا يتناقض مع قيم الوفاء والعرفان التي اعتادت الدولة على إظهارها لأبنائها. الحديث عن مكافأة السنوات الزائدة ليس مجرد نقاش مالي أو قانوني، بل هو في جوهره قضية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. فالمكافأة تمثل تقديراً رمزياً لمشوار طويل من الخدمة، وتساهم في تحسين أوضاع المتقاعدين الذين يواجهون أعباء الحياة المتزايدة بعد انتهاء عملهم. ومن هنا فإن إعادة النظر في تفسير المادة (31) ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو استجابة طبيعية لقيم العدالة التي تميز نظامنا القانوني والإداري. الحق لا يسقط بالتقادم: ومن المهم التأكيد على أن الحق لا يسقط بالتقادم، خاصة إذا كان مرتبطاً بسنوات خدمة طويلة بذل فيها المواطن جهده وطاقته في سبيل وطنه. إن مكافأة السنوات الزائدة تظل حقاً أصيلاً لصاحبها، يحق له المطالبة به ولو بعد حين، ما دام القانون قد أقرّه صراحة في نصوصه. إن محاولة إسقاط هذا الحق بمرور الزمن أو تقييده بتاريخ صدور اللائحة التنفيذية أمر يتعارض مع المبادئ القانونية الراسخة ومع قواعد العدالة والإنصاف. المقارنة بتجارب خليجية سابقة: من المفيد أن نشير إلى أن دولاً خليجية أخرى اعتمدت أنظمة تقاعدية أكثر مرونة في هذا الجانب، حيث شملت مكافآت أو بدلات السنوات الزائدة جميع المتقاعدين دون تمييز زمني، إيماناً منها بأن العطاء لا يُقاس بتاريخ انتهاء الخدمة بل بعدد السنوات التي قضاها الموظف في خدمة وطنه. هذا يعكس أن المبدأ ليس غريباً أو صعب التطبيق، بل هو إجراء ممكن وواقعي أثبت نجاحه في بيئات مشابهة. المطلوب هو أن تشمل مكافأة السنوات الزائدة جميع من تجاوز ثلاثين عاماً خدمة، سواء تقاعد قبل 2023 أو بعده. فذلك هو التطبيق الأمثل لروح القانون، والتجسيد الحقيقي للعدل، والضمانة لردّ الاعتبار لمن حُرموا من حقهم رغم استحقاقهم. إن مكافأة السنوات الزائدة ليست ترفاً ولا منحة عابرة، بل هي استحقاق مشروع وواجب وطني في حق كل من خدم الدولة أكثر من ثلاثة عقود. تجاهل هذا الاستحقاق يفتح باب التمييز ويضعف الثقة في التشريع، بينما إنصاف المتقاعدين يرسخ مبادئ العدالة ويؤكد أن الدولة لا تنسى أبناءها الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية البناء والتطوير. وليطمئن كل متقاعد أن عطاءه محفوظ في سجل الوفاء الوطني، وأن سنوات الخدمة الزائدة لن تضيع هدراً، بل ستُكافأ بالعدل والإنصاف.
3501
| 12 أكتوبر 2025