رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. خالد وليد محمود

• متخصص بالسياسة السيبرانية

مساحة إعلانية

مقالات

312

د. خالد وليد محمود

تشظّي الأنا.. صراع الهوية في عصر «الخوارزميات الرقمية»

04 أغسطس 2025 , 03:04ص

لم تعد الهوية الإنسانية -في خضم الثورة الرقمية الجارفة- تمثل كتلة صلبة متجانسة، بل تحولت إلى كيان سائل متحول، يتشكل ويتبدل عبر تفاعلات لا تنقطع مع فضاءات رقمية متداخلة. لم يعد توسع المنصات الرقمية ينتج مجرد تمثيلات افتراضية للذات، بل أنشأ واقعاً موازياً تتوزع فيه الهوية إلى أشباح متعددة، تتنقل بين الواقع المادي والعالم الرقمي في حالة من التشظي والتجزؤ المستمر. هذا التكاثر الهوياتي، بعيداً عن كونه تعبيراً عن ثراء داخلي، يثير إشكاليات عميقة حول وحدة الوعي وتماسك الشخصية، في عصر أصبحت فيه الخوارزميات هي المتحكم الأول بجدول ظهورنا واختفائنا، وبالتالي بوجودنا الرمزي.

تاريخيًا، كانت الهوية تُبنى من الداخل، بالتأمل، والتجربة، والتراكم الشخصي. أما في السياق الرقمي، فقد أصبحت الذات تُنتَج من الخارج، وفق منطق الصورة، والتفاعل، وعدد المتابعين. لم يعد الإنسان يعرف نفسه بوصفه كينونةً متفردة، بل بوصفه واجهة مرئية تُراقب وتُقيَّم. في هذا السياق، تنزاح مقولة ديكارت “أنا أفكر، إذن أنا موجود” لتحلّ محلّها سرديات جديدة: “أنا أظهر”، “أنا أُشاهَد”، «أنا أتفاعل».

أبحاث متعددة تشير إلى أن عملية بناء الهوية الرقمية لا تُترك للفرد بصورة حرة، بل تُوجّه عبر بنى رقمية وخوارزميات تحدّد معايير النجاح والظهور. فالفرد يعيد تشكيل صورته بما يتلاءم مع شروط المنصة: جاذبية بصرية، قابلية للاختزال، كثافة في التفاعل. وبهذا المعنى، تصبح الهوية مشروعًا تسويقيًا يتطلب صيانة مستمرة، وإنتاجًا دائمًا للرمزية، خوفًا من السقوط في هوامش النسيان الرقمي أو التعليق أو الحذف.

لا يمكن اليوم الحديث عن «ذات واحدة» في الفضاء السيبراني؛ بل نعيش حالة من الذات الموزعة، حيث يمتلك الفرد تمثيلات متباينة في كل منصة: شخصية مرئية على إنستغرام، أُخرى تفاعلية في بيئة الألعاب، نسخة مهنية على لينكد إن، وأخرى مختصرة في تيك توك. كل تمثيل من هذه النسخ يخضع لخطاب خاص، وجمهور مختلف، وقواعد أداء مستقلة.

هذا التعدد، وإن بدا أحيانًا شكلًا من الحرية التعبيرية، إلا أنه قد يفضي إلى تشوش هويّاتي واضطراب نفسي، لا سيما في المراحل العمرية الحساسة مثل المراهقة. وقد أظهرت الباحثة شيري توركل ببحث لها أن المراهقين في البيئات الرقمية الكثيفة يعانون من صعوبة في التمييز بين «الذات الأصيلة» و»الذات المؤداة»، مما يؤدي إلى اضطرابات في تقدير الذات، وشعور متزايد بالاغتراب.

وثمة دراسة حديثة أظهرت أن تعدّد الحسابات النشطة يرتبط بارتفاع معدلات القلق الاجتماعي، وزيادة التشتت الذهني، وضغط نفسي غير مرئي لإرضاء جماهير متعددة ومتقلبة، مما ينتج تمزقًا هوياتيًا يصعب على الفرد احتواؤه.

السمة الأبرز للذات الرقمية في جيل Z وجيل ألفا ليست فقط في تعددها، بل في سطحيتها التمثيلية. فالذات لم تعد تتشكل من الداخل، بل صارت مُصمَّمة للخارج؛ تُبنى من خلال الصورة المُفلترة، والتعليق القصير، والمقطع السريع. هذا النمط من البناء الهوياتي ينتج ذاتًا “حاضرة دائمًا” في الفضاء الرقمي، لكنها حضور مشروط بمدى التفاعل، لا بعمق التجربة أو اتساق المعنى.

إننا أمام لحظة مفصلية لا يُعاد فيها تشكيل الأدوات فحسب، بل إعادة صياغة الإنسان ذاته. الهوية لم تعد تُبنى داخل الأسرة والمدرسة والحيّ فقط، بل في التطبيقات والمنصات وتحت أعين جماهير افتراضية لا تنام. والمراهق اليوم لا يواجه فقط قلق “من أكون؟” بل قلق “أي نسخة منّي يجب أن أكون اليوم؟”. فجيل Z وجيل ألفا ليسا فقط امتدادًا زمنيًا للأجيال السابقة، بل يمثلان قطيعة بنيوية في بنية الذات والوعي والعلاقة مع الآخر. فجيل Z عاش الانتقال من الواقعي إلى الرقمي، بينما وُلد جيل ألفا داخل الشاشات وتفاعل أولًا مع الخوارزميات. وكلا الجيلين يعيشان تجربة إنسانية جديدة تُعيد تعريف الإدراك، والانفعال، والانتماء. 

إنّ التحدي الأكبر في عصرنا ليس تطوير التقنيات أو تحسين الأدوات، بل هو تحدٍ وجودي وأخلاقي عميق: كيف نحافظ على إنسانيتنا في عالم يختزل القيمة في الإنجاز والكفاءة؟ كيف نعيد بناء الذوات في زمن أصبحت فيه الهوية تُقاس بعدد المتابعين وحجم التفاعلات الرقمية؟ الأسئلة الحقيقية التي تواجهنا اليوم ليست تقنية، بل هي أسئلة عن المعنى والغاية: كيف نربّي أبناءً قادرين على أن يكونوا أنفسهم بصدق، لا مجرد حسابات نشطة تلهث وراء الرضا الآني؟ كيف نعلّمهم فنّ التأمل في عالم يرفض التوقف، وقيمة البطء في ثقافة تُقدّس السرعة، وأهمية العمق في زمن السطحية؟ 

المعضلة الحقيقية تكمن في أننا نواجه نظامًا يعيد تشكيل الوعي البشري وفق قواعد الأداء والاستهلاك. فلم يعد التعليم مجرد نقل للمعرفة، بل أصبح تدريبًا على المنافسة في سوق لا يعترف إلا بالأرقام. ولم تعد العلاقات الإنسانية تعكس العمق العاطفي، بل تحوّلت إلى سلسلة من التفاعلات المؤقتة. أمام هذا الواقع، يصبح السؤال الأخلاقي ملحًّا: كيف نصنع مساحات مقاومة لهذا التيار؟ كيف نخلق بيئات تسمح للأبناء بالنمو دون أن يفقدوا أنفسهم في زحام التوقعات؟ الجواب لا يكمن في رفض التكنولوجيا، بل في توظيفها لخدمة إنسانية أكثر اتساعًا، حيث يكون للوجود معنى يتجاوز الأداء، وللحياة قيمة لا تُقاس بعدد الإشعارات.

هذا ورغم هذا التحدي الجذري، فإن مستقبل الإنسان الرقمي لا يُحسم بالخوارزميات، بل بـ الوعي النقدي. فالتحول الرقمي ليس قدرًا، بل مجال للتفكير، والمساءلة، وإعادة التمركز. ما نحتاجه اليوم ليس فقط تنظيم «وقت الشاشة» بل إعادة تصوّر علاقتنا بالوجود في زمن تذوب فيه الذات الأصيلة داخل صور متعددة.

اقرأ المزيد

alsharq حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد وحدودٍ من نار، انقطعت شرايين الأخوة التي كانت تسقي القلوب... اقرأ المزيد

1272

| 04 نوفمبر 2025

alsharq إذا رغبت الحياة.. فاهجر ضفافك!

ثمّة نداءات خفية خافتة عن الأسماع، ظاهرة على الأفئدة، تُستشعر حين تضيق على النفس الأرض بما رحبت، وتنقبض... اقرأ المزيد

249

| 04 نوفمبر 2025

alsharq نظم في قطر

انطلقت أمس مباريات بطولة كأس العالم للناشئين في ملاعب أسباير لتعيد إلى الأذهان ذكرى مونديال 2022 للكبار، الذي... اقرأ المزيد

240

| 04 نوفمبر 2025

مساحة إعلانية