رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ذلك كان عنوان ندوة نظمها البرلمان العربي واستمرت ثلاثة أيام بالقاهرة بمشاركة لفيف من السياسيين والخبراء والمفكرين من أقطار عربية شتى. ولاشك أن توقيتها كان من الأهمية بمكان في ظل حالة اضطراب غير مسبوقة يتعرض لها النظام الإقليمي العربي، منذ تبلوره بشكل واضح في أربعينيات القرن الفائت وأظن أن هذا الأمن بات مستباحا في المرحلة الراهنة على نحو ينطوي على مخاطر تهدد الدولة الوطنية العربية. فضلا عن تهديد الوجود العربي ذاته مع تمدد حالة السيولة السياسية التي تشهدها المنطقة، والتي من ملامحها ذلك الفيضان الإرهابي – إن جاز لي الوصف - وصعود الجماعات المتطرفة من كل اتجاه، وهو ما يقود إلى تلاشي الدولة، إن لم يكن انهيارها بالكامل في بعض الحالات. بيد أن أخطر هذه الملامح في تقديري ما زال يتمثل في الكيان الصهيوني الذتي تتصاعد نزعته العدوانية باتجاه محو الهوية الوطنية الفلسطينية، متمثلا ذلك بصورة سافرة في تعاطيه مع قدس أقداس فلسطين المسجد الأقصى، والذي تعرض خلال الأيام الأخيرة لأشد الانتهاكات والاختراقات بلغت ذروتها بإغلاقه بالكامل أمام المصلين نهار الخميس الماضي ومنع الصلاة فيه إلا لمن تعدى الستين، فضلا عن منع الأذان من مآذنه التي ما زالت شامخة، خاصة عبر استخدام مكبرات الصوت، وهو تطور يحدث للمرة الأولى منذ احتلاله في يونيو من العام 1967، ناهيك عن العدوان المفرط في قوته وقسوته على غزة خلال شهر يوليو الماضي والذي استمر زهاء الخمسين يوما ولم تتوقف تداعياته السلبية بعد.
غير أن ما لفت انتباهي في توصيات هذه الندوة المهمة، غياب البعد الصهيوني عنها في حين تركز جلها على التطورات الأخيرة في المنطقة والمتعلقة بالإرهاب وصعود الجماعات المتطرفة، وهو ما كان واضحا في الدعوة إلى ضرورة تفعيل تنفيذ القرارات العربية الصادرة عن القمم العربية حول الأمن القومي العربي ومستجداته الطارئة والتوصل لتوصيات ومقترحات عملية وقابلة للتنفيذ بشأنها، والإشارة إلى أن الأمن القومي العربي ومخاطره، وتحدياته تحتاج إلى رؤية عربية جديدة والتعامل معها بآليات ورؤى تراعي ما تم التوافق عليه في آليات واتفاقيات عربية، فلم يذكر الكيان الصهيوني بحسبانه المصدر الرئيسي للخطر والإرهاب في المنطقة العربية، بل يمكن القول باطمئنان إن وجوده غير الشرعي في المنطقة يمثل المقدمة، التي أفرزت كل هذه النتائج التي تتجلى بتداعياتها السلبية في الأركان المختلفة، فمع غياب الحل العادل للقضية الفلسطينية على نحو يعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، الذي يكابد الاحتلال الأشد سوءا وبشاعة في التاريخ المعاصر تهيأت البيئة لبروز التطرف ثم انقلب الأمر إلى إرهاب، غير أن اللافت أن الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي تمدد في المنطقة العربية حاليا رأسيا وأفقيا، لا تعير الكيان أي اهتمام ولا تخوض ضده أي معارك وتبدو حريصة على تجنب الاشتباك معه أو إيذائه رغم اقترابها من حدوده في غير موقع. وقد فسر ذلك الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية رئيس الوحدة الإسرائيلية الإستراتيجية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط بقوله: "إن إسرائيل "الكيان" أعدت إستراتيجية مواجهة مع هذا التنظيم وداعش لن يقترب من إسرائيل في هذا التوقيت، والخلايا التي يتم كشفها في الأراضي المحتلة.. إسرائيل تتعامل معها فورا، أشعر أن هناك اتفاقا بين الطرفين بعدم الصدام، لن ندخل ولن نقترب منكم وانتم لا تتعرضون لنا".
ومع ذلك فإن الندوة قدمت منظورا شاملا للتعامل مع الأمن القومي من خلال الدعوة إلى ضرورة مراجعة وتحديث ما تم التوصل إليه من آليات واتفاقات ورؤى لحماية الأمن القومي العربي في ضوء المستجدات الطارئة عليه، وفي مقدمتها مواجهة الإرهاب، والعمل على تطبيق وتفعيل الاتفاقات العربية بشأنها، فضلا عن المطالبة بمراجعة العلاقات العربية العربية، والارتقاء بها وبما يخدم العلاقات البينية بما يعزز الاندماج العربي وصولا إلى تحقيق الوحدة العربية كقوة في مواجهة العالم الخارجي مع تكثيف تعاون الدول العربية لمواجهة وحل مشاكلها الداخلية والتي نتجت عن تدخلات خارجية.
كما شددت على أهمية توسيع الاهتمام بالتنمية المستدامة الشاملة في الدول العربية، لاسيَّما التنمية البشرية وتطوير المنظومة التعليمية، والعدالة الاجتماعية، والحفاظ على البيئة في سياق التأكيد على المنظور الشامل لتحقيق الأمن القومي العربي بمحاوره المتعددة والتي تبناها البرلمان العربي. والعمل في هذا السياق على تفعيل مشروعات التكامل الاقتصادي العربي كطرف آخر لتحقيق التكامل العربي الشامل، وتحقيق الأمن القومي العربي إلى جانب إدراك المخاطر التي تواجه الأمن الغذائي والمائي العربي وسبل مواجهتها، وضرورة إيلاء الأهمية القصوى للتناول الإعلامي السليم لكافة الموضوعات التي تمس مقدرات الأمة العربية دون مؤثرات أو ضغوط خارجية.
وتعكس هذه المضامين التي طرحتها الندوة شعورا بأهمية الحلول غير الأمنية للمهددات التي تواجه الأمن القومي العربي، خاصة في الشق المتصل بالإرهاب والتطرف. فهذه الحلول بطبيعتها آنية وقد ينتج عنها- إذا ما انطوت على مبالغة - المزيد من إفراز مسببات التطرف والإرهاب وبالتالي فإن الجهات النافذة والنخب السياسية مطالبة بالإسراع في وضع إستراتيجيات المواجهة على الصعيد الاقتصادي والفكري والثقافي والإعلامي والاجتماعي وثمة دراسات ضخمة وضعتها المؤسسات البحثية وهي في حاجة فقط إلى نفض الغبار المتراكم عليها لوضعها موضع التطبيق.
ومن داخل نقاشات الندوة خرجت التحذيرات قوية من مخاطر تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات جديدة، وفق طروحات تروج للفيدرالية والكونفيدرالية، وتحت دواعٍ طائفية ومذهبية ومنح حقوق الأقليات وهو ما نلمسه ونراه بأعيننا وأيدينا في ضوء ما يجري في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا والتي يتداخل فيها البعد المذهبي بالطائفي بالجهوي، فضلا عن البعد المتعلق بالتطرف المتصاعد بقوة في المنطقة نتيجة سنوات الاستبداد والإقصاء والتهميش لجماعات مهمة ضمن الشعوب العربية. وهو ما بدا واضحا فيما عبر عنه عمرو موسى الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، من وجود مخطط لسايكس بيكو جديدة تستهدف تقسيم المنطقة إلى دويلات وبناء نظام إقليمي جديد يخدم مصالح خارجية وهو ما يستوجب -وفق رؤيته - البحث المعمق في ذلك.
على نحو يجعل الدول العربية تساهم بفعالية في بلورة مسار المنطقة المستقبلي وقال: "لو تركنا الآخرين يرسمون حدود النظام الإقليمي العربي، فإن ذلك سيكون جريمة كبرى في ظل القرن الواحد والعشرين الزاخر بالوسائل والتكنولوجيات الحديثة، فضلا عن امتلاكنا الكوادر القادرة على المساهمة بذلك".
مؤكداً في الوقت ذاته أن ما شهدته الدول العربية يكشف رفض الشعوب العربية للعيش في العصور الظلامية وأنها عازمة على العيش في الدولة المدنية الديمقراطية.
كما جسدت الرؤية التي أوضحها أحمد بن محمد الجروان رئيس البرلمان العربي نفس الشعور بالخطر، من محاولات التقسيم والتفتيت من المشرق إلى المغرب العربي والتي تجب مواجهتها - كما يقول - من خلال تعزيز القدرات الدفاعية والاقتصادية، ومواكبة المفاهيم الفكرية والثقافية والمجتمعية المعتدلة، التي تتناسب مع المجتمعات العربية والتي تعزز من وضع المواطن العربي وقدرته على مواجهة تلك المتغيرات.
إن الأمن القومي العربي لم يعد مسألة تتعلق بحماية الحدود الخارجية للأمة، لكنه يتقاطع مع محددات وأبعاد متعددة ولا يتحمل مسؤولية حمايته المؤسسات العسكرية والأمنية فحسب، وإنما تتشارك فيها كل شرائح المجتمعات العربية والأمر مرهون بإطلاق العنان لمنظومة الدولة الوطنية القائمة على المواطنة والمساواة والعدالة وفق معادلة الحكم الرشيد الذي ينهض على الديمقراطية وتداول السلطة والعدالة الاجتماعية والانحياز للشعب وليس للأقلية، سواء النخب السياسية أو رجال أعمال.
تعددت نماذج القيادة عبر الأزمان ولكن لسنا بحاجة للرجوع إلى النماذج الغربية للقيادة، فلدينا أعظم مرجع للقيادة يحتذى... اقرأ المزيد
174
| 03 أكتوبر 2025
ليس واحدا أو اثنين أو ثلاثة، بل أربعة دفعة واحدة استشهدوا مع أبناء عمومتهم والجيران، قُصف المنزل على... اقرأ المزيد
117
| 03 أكتوبر 2025
في مشهد تربوي يؤكد حضور اللغة العربية كهوية وانتماء، دشّنت مدرسة الوكرة الإعدادية للبنات يوم الخميس 25 سبتمبر... اقرأ المزيد
189
| 03 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4521
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3387
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.
1344
| 28 سبتمبر 2025