رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كنت قد عزمت، أن أدع قلمي ساكناً، وأتركه ساكتاً، ليبقى صامتاً، لا ينطق بحرف واحد، ولا ينبض بكلمة وحيدة، ولا يدوّن جملة مفيدة، ولا يرسم فاصلة جديدة، ولا يخوض في قضايا الداخل والخارج!
لكن كارثة غزة، بكل الدماء التي تسيل من صميمها، والأشلاء التي تتناثر في حميمها، حركت في داخلي فورة إنسانية، ولا أقول «ثورة حماسية»، لأكتب عن المجازر الوحشية، التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
وقبل الاسترسال، في هذا المجال، عبر هذا المقال، لا بد من الاستهلال، وليس أفضل في هذا الشأن من الاستدلال.
وهذا يتحقق، من خلال الإشادة، وليس الإشارة فحسب، بالوساطة القطرية الحيوية الإيجابية، التي تقوم بها الدوحة، من أجل التوصل إلى صيغة أو «صفقة» لوقف إطلاق النار في غزة، بالتنسيق مع الوسطاء الآخرين، وسط ظروف إقليمية بالغة التعقيد، ومتغيرات ميدانية بالغة التصعيد.
وما من شك في أن نجاح الوساطة النزيهة، في هذه اللحظة المفصلية، بل المصيرية، يرتبط بضرورة خفض التصعيد العسكري الإسرائيلي المتصاعد، في القطاع الفلسطيني المقطع.
هناك في قطاع غزة، المقطوع الأوصال، وأيضاً في مخيمات الضفة الغربية، شمالاً، في طولكرم، وطوباس وجنين، حيث تتواصل الاقتحامات، والاعتداءات الإسرائيلية، وتتوسع الهجمات العدوانية، واسعة النطاق.
هناك حيث تتزايد الانتهاكات الصهيونية، التي ترتكبها وحدات الجيش الإسرائيلي، ضد المدنيين، ولا أقول «المدانين»، بمشاركة قطعان من المستوطنين.
هناك تشهد قضية فلسطين، أخطر مراحلها، وتعيش أصعب فصولها، منذ نكبة 1948، مع إصرار الإرهابي نتنياهو، وحكومته المتطرفة، على إلغاء الوجود الفلسطيني، عبر تدمير وتهجير الفلسطينيين، في محاولة صهيونية، للتخلص منهم، ومن مقاومتهم، ومن حقوقهم، ومن قضيتهم إلى الأبد.
ووسط هذا الواقع الفلسطيني المؤلم، والظرف السياسي المظلم، يتواصل تعثر المفاوضات، وتتبعثر أوراق المباحثات، في العديد من الجولات، التي عقدت لتقليص الفجوات، وإزالة العقبات.
وتتعطل العديد من المحاولات، التي بذلت حتى الآن، من أجل الوصول إلى اتفاق، لوقف إطلاق النار، وإطلاق سـراح الأسرى والمحتجزين في كلا الجانبين، تمهيداً لإنهاء الحملة العسكرية الوحشية الإسرائيلية، ضد الفلسطينيين.
وفي سياق ذلك التعثر السياسي، والتبعثر الدبلوماسي، الذي تقوده الولايات المتحدة، المنحازة لإسرائيل، قولاً وفعلاً وتفاعلاً، تواصل آلة الحرب الإسرائيلية، غاراتها وتوغلاتها وتغولاتها، على جميع فئات ومكونات الشعب الفلسطيني.
وتستمر في حرق الأرواح البريئة كل يوم، واستهداف التجمعات المدنية، وتفجير الأحياء السكنية، وتدمير المربعات الحضارية، المتمثلة في المستشفيات والمدارس والجامعات، وجميع المؤسسات، وسحق كل مظاهر الحياة الفلسطينية، ومحوها من خريطة الوجود.
وما من شك، في أن هذا التصعيد، على كل صعيد، تتحمل مسؤوليته الولايات المتحدة، بالدرجة الأولى، التي يبدو أنها لا تريد تغيير الواقع الاستعماري، الاستيطاني، غير الإنساني في الأراضي المحتلة.
ولهذا تسعى واقعياً وعملياً وفعلياً وميدانياً، لتثبيت الاحتلال، وانتهاك حقوق الفلسطينيين، من خلال قيامها بتوفير الدعم العسكري، والحماية السياسية، للكيان الصهيوني، ليواصل حربه ضد الشعب الفلسطيني.
والمفجع أن هذه الحرب الطاحنة، يختلط في أحداثها البشعة، الخوف مع الفزع، ويمتزج في تطوراتها الوقحة، الهلع والجزع، بعدما فقدت الإنسانية قيمها وقيمتها، مع استمرار همجية الاحتلال، في حصد أرواح آلاف الأطفال.
ومع مواصلة إسرائيل حربها الوحشية، ضد الفلسطينيين، التي انتهكت خلالها القوانين الإنسانية، وتجاهلت المعايير الدولية، وتجاوزت الضوابط القانونية، في مجال حماية المدنيين، أتوقف عند قوائم الشهداء الأبرياء، ضحايا الحرب الإسرائيلية، الذين ارتقت أرواحهم إلى السماء.
هناك في غزة المنكوبة، أكثر من (40 ألف) روح فلسطينية بريئة، أزهقتها إسرائيل قصفاً.
هناك أكثر من (40 ألف) نفس بشرية، فتكت بها حكومة التطرف الصهيوني.
هناك أكثر من (40 ألف) حياة، دمرتها إسرائيل، وشطبتها من قوائم الأحياء.
هناك الجموع الفلسطينية متأثرة، الأشلاء متناثرة، الأجساد متحللة، الأجسام متفحمة، ولا شيء في غزة، غير رائحة الدم!
هناك الجروح لا تلتئم، الإصابات لا تندمل، الأوجاع لا تتعافى، الدمار في كل مكان، والفلسطيني لا يشعر بالأمان.
هناك في غزة، لا وجود لما يسمونه «حقوق الإنسان»، ولا قيمة لما يُعرف أممياً باسم «القانون الدولي الإنساني» ولا مكان إلا للمجازر الوحشية، والمقابر الجماعية.
هناك المجرم نتنياهو، ولا يوقف طاحونة القتل.
المتطرف «بن غفير»، لا يوقف خطاب الكراهية.
المتعجرف «سموتيرتش»، لا يوقف تصريحاته العدوانية.
هناك يتواصل التوحش الإسرائيلي، لحكومة المتوحشين الصهاينة، ضد المدنيين الفلسطينيين، بدعم أمريكي، وصمت غربي، وخواء عربي، وخوار أممي!
هناك لا تكاد تجف دماء مجزرة، حتى نتابع أخرى، أكثر بشاعة منها، دون أن يستيقظ ضمير العالم، ودون أن يتحرك النظام الرسمي العربي، لإيقاف المذابح، باستثناء الموقف الأخلاقي والأخوي، والإنساني، والسياسي، الذي تتبناه الدبلوماسية القطرية، سعياً لوقف إطلاق النار، والإفراج عن الأسرى في كلا الجانبين وإنهاء الحرب.
هناك في خان يونس، وتل الهوى، ودير البلح، ومخيم الشاطئ، ومخيم النصيرات، وسائر المخيمات.
وأيضاً في بيت حانون، وحي الزيتون المأساة الفلسطينية لا حدود لها، والمعاناة الإنسانية لا سقف لها، ومواكب الشهداء لا نهاية لها، ومثلها مراسم العزاء.
هناك نهشت الكلاب الضالة جثث ضحايا أبرياء، تركت في الطرقات، وغيرها جثامين المئات من الشهداء، تحللت في شوارع القطاع المقطع!
هناك سويت أحياء سكنية كاملة بالأرض، خلال تفجيرات عدوانية متعمدة ومتعددة، قام بها جنود الاحتلال، خلال اقتحاماتهم للمربعات المدنية.
هناك قام الجنود الصهاينة، بإحراق المباني، وإضرام النيران في المساكن عمداً، لجعلها غير صالحة للسكن، بناء على أوامر مباشرة من قادتهم، تطبيقاً لسياسة الأرض المحروقة.
وأمام هذا الاستهداف الإسرائيلي الممنهج، والعدوان الصهيوني المبرمج، أستطيع القول باللهجة «الغزاوية»:
«ما ضلش حدا» يأمن على حياته في غزة!
والمؤلم إلى أقصى درجات الألم، أن هذا هو واقع الحال في غزة، التي يعاني أهلها من سوء الأحوال، واشتداد الأهوال، وعجز العقل، مع تواصل هذه الجرائم الصهيونية البشعة، عن التمييز بين الواقع والخيال، حيث تفوح هناك رائحة الموت، وتسيل دماء الشهداء بين الركام، وتنتشر بقايا الأشلاء بين الحطام!
والأكثر إيلاماً، أن القصف الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من (10 شهور)، تسبب في حدوث كارثة إنسانية، لا يمكن تخيلها، ومجاعة غذائية لا يمكن تحملها، ومعاناة بشرية لا يمكن وصفها، ولا يمكن قبولها، ولا يمكن تمريرها، ولا يمكن تجميلها، ولا يمكن التسامح معها، ولا يمكن السماح بها.
والمعيب، ولا أقول العجيب، أن الإدارة الأمريكية، التي صدعتنا بخطابها «الزئبقي»، عما تسميه «حقوق الإنسان» بعدما نصبت نفسها، للدفاع عن «حريات الشعوب»، تتجاهل استغاثات الفلسطينيين، وصرخات المنكوبين، ونداءات المستضعفين في غزة!
وتتعامى عن مشاهدة المستهدفين، من الأبرياء المدنيين، الذين تستهدفهم الصواريخ الإسرائيلية، والغارات الصهيونية يومياً.
فلا ترى المشهد الفلسطيني الدامي، إلا بعين الكيان الصهيوني، ولا تسمع إلا بأذن نتنياهو، ولا تنطق إلا بلسان حكومته المتطرفة.
وما يثير السخط على وجه الخصوص، أن الولايات المتحدة، وتوابعها من دول الغرب الأوروبي، تشاهد المجازر الوحشية، التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، والتي تنقلها قناة «الجزيرة» بكاميراتها، وعدسات مصوريها، وتقارير مراسليها، وغيرها من القنوات الفضائية العالمية.
لكن واشنطن، وتوابعها تبدو غير مكترثة، بارتفاع أعداد الضحايا الأبرياء، وغير متأثرة بالقصف الإسرائيلي الهمجي، الذي تسبب في سفك الكثير من الدماء، وغير مبالية بتقطيع أجساد أطفال فلسطين، وتحويلها إلى أشلاء.
ومع تواصل هذا العدوان الإسرائيلي، غير المسبوق، نقف أمام إجرام صهيوني فادح، ومشهد دموي واضح، وموقف سادي فاضح، تجسده حكومة الاحتلال الإرهابية، وجيشها الغاشم، ولا أقول الغانم، المدجج بكافة أسلحة القتل والتدمير.
وما يثير العجب، ولا أقول الإعجاب، أن «أنتوني بلينكن»، رئيس الدبلوماسية الأمريكية، كرر خلال زيارته التاسعة إلى المنطقة، منذ السابع من أكتوبر، تصريحاته «الزئبقية»، معلناً حرص بلاده على «تهدئة التوترات في المنطقة»!
ولا أدري كيف تهدأ التوترات في الشرق الأوسط، مع استمرار الولايات المتحدة، تزويد إسرائيل، بالسلاح الأمريكي المدمر، الذي تستخدمه حكومة الإرهاب الصهيوني، لقتل الفلسطينيين؟
وكيف يمكن أن تتوقف الاضطرابات في المنطقة، مع إصرار واشنطن على استخدام «الفيتو»، في مجلس الأمن، لإجهاض أي قرارات أممية تدين إسرائيل؟
وكيف يمكن أن تنتهي الصراعات في الشرق الأوسط، بينما الولايات المتحدة، تتماهى مع الموقف الإسرائيلي، المناهض لحقوق الفلسطينيين المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية؟
وكيف يمكن أن يتحقق «الاستقرار الإقليمي»، بعد إعلان حكومة التطرف الإسرائيلي، أن إسرائيل لن تنسحب من المواقع «الاستراتيجية»، التي احتلتها، وسيطرت عليها، خلال حربها على قطاع غزة، وتحديداً محور «نتساريم»، الذي يقسم القطاع المقطع، إلى قسمين: شمالي وجنوبي.
بالإضافة، إلى سيطرتها على محور «فيلادلفيا» المعروف فلسطينياً باسم «صلاح الدين»، الذي يستمد أهميته الاستراتيجية، من احتضانه «معبر رفع»، المنفذ الرسمي الحيوي الوحيد، على الحدود الفلسطينية المصرية.
ونشر قواتها على طوله، مثل «ورم سرطاني» مما يشكل تهديداً مستمراً للأمن القومي المصري، بعد اقتحامه بالدبابات الإسرائيلية، وإحكام قبضتها العسكرية عليه، في انتهاك سافر غادر، لمعاهدة «السلام» الموقعة عام 1979، بين القاهرة وتل أبيب.
يحدث هذا الانتهاك الصهيوني، في ظل وقوف الولايات المتحدة، موقف المتفرج على ما يجري في المنطقة المضطربة، رغم أنها الراعي الرسمي، والضامن السياسي الدولي، لاتفاقية السلام المثيرة للجدل الموقعة بين مصر وإسرائيل.
أقول هذا في إطار «حرية التعبير»، التي تدعي واشنطن أنها تؤمن بها، وفي سياق هذه الحرية أيضاً أقول لوزير الخارجية الأمريكي، الذي اعتاد خلال زياراته للمنطقة، إظهار انحيازه المفضوح للموقف الإسرائيلي، وإطلاق تصريحاته «اللزجة»، التي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، إلا لصالح إسرائيل:
إذا كنتم تريدون فعلاً «تهدئة التوترات في المنطقة»، أوقفوا الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، والانتهاكات الصهيونية لحقوق الآخرين.
وتوقفوا عن تزويد إسرائيل بالأسلحة المدمرة، التي تستخدمها في قتل الفلسطينيين الأبرياء.
وبادروا بوضع قواعد «حل الدولتين» في الشرق الأوسط، قبل نهاية الفترة المتبقية من ولاية «بايدن»، المخضبة بدماء المدنيين.
وعدا ذلك ستبقى «حركاتكم»، ولا أقول تحركاتكم الدبلوماسية، في المنطقة، مجرد حركات «زئبقية» لكسب الوقت، وإطالة الحرب الإسرائيلية.
وستبقى محاولاتكم «الرخوة»، لوقف إطلاق النار، مجرد غطاء لتحقيق أهداف نتنياهو، وحكومته المتطرفة، المتعطشة لسفك المزيد من دماء الفلسطينيين.
ومع عدم ظهور أي مؤشرات إيجابية حتى الآن، ولا إشارات عملية في المفاوضات، تشير إلى قرب التوصل إلى اتفاق أو صيغة أو «صفقة» لوقف الحرب المسعورة، ستبقى الكارثة الإنسانية، التي يعاني منها أهلنا في غزة، تعكس حالة غير مسبوقة، من الظلم الأمريكي، والضيم الدولي.
كما تعكس حالة مخزية، ولا أقول مخجلة، من الخنوع والخضوع والعجز العربي، ممثلة في «الجامعة العربية»، العاجزة عن التحرك، أو حتى إطلاق حراك دبلوماسي، لوقف انتهاكات إسرائيل.
وكأن ما يجري في غزة لا يعنيها، ولا يهم «أمينها العام» الذي يتابع الأحداث، وكأنه يشاهد مسلسل «الاختيار» أو فيلماً من أفلام «الأكشن»، التي يمثلها «نمبرون» المدعو محمد رمضان!
ووسط غياب «جامعة العرب»، عن وقف المجازر الوحشية، التي ترتكبها إسرائيل ضد العرب، والمذابح التي تستهدف خلالها أبناء العرب، وشيوخ العرب، ونساء العرب، وأطفال العرب في قطاع غزة، ستبقى مواكب الشهداء، تشهد على تضحيات الفلسطينيين، الذين اختارهم الله، وشرفهم بنيل الوسام الإلهي.
وما من شك في أن شهداء غزة، ومدن وقرى الضفة المحتلة، يصنعون بأرواحهم معراجاً، إلى النصر المبين، ويعبدون بدمائهم طريق الحرية والاستقلال.
ستظل أسماؤهم، رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، محفورة في سجلات التاريخ، ومحفوظة في الذاكرة، والقلوب والضمائر الحية.
فسلام عليهم يوم ولدوا..
ويوم استشهدوا، ويوم صاروا عند ربهم أحياء يرزقون.
وهذا مني سلام آخر، على شهداء غزة.
وسلام دائم على شهداء فلسطين.
والمجد، والنصر، للمقاومة الفلسطينية
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
246
| 27 أكتوبر 2025
التوظيف السياسي للتصوف
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد
117
| 27 أكتوبر 2025
عن خيبة اللغة!
يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد
234
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6381
| 24 أكتوبر 2025
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6216
| 27 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5103
| 20 أكتوبر 2025