رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
دعوني أذكركم بقصة جميلة بطلها السلطان العثماني سليم ياووز، أو القاطع كما كان يسميه البعض، لعل هذه القصة تدغدغ خيالنا و تجعلنا نعيش أحلاما جميلة لدقائق.
لم يكن السلطان سليم يعتني بهندامه كثيرا، وكان الوزراء وكبار رجال الدولة يقلدونه في ذلك، حتى غدا ديوان السلطان خاليا من البهرجة وجميل اللباس، بل إن لباسهم أصبح رثا مجاريا لباس السلطان الذي يخجل الجميع من مفاتحته، فاستغل الصدر الأعظم حضور سفير دولة أوروبية إلى الديوان فتقدم بتردد إلى السلطان قائلا:
يا مولانا السلطان، إن عدونا ناقص عقل، ولهذا فهو ينظر بسطحية ويعطي أهمية زائدة للمظاهر، ومن اللائق أيها السلطان ..
قاطعه السلطان قائلا : نعم، لنفعل ذلك، وأنتم أيضا تدبروا لأنفسكم ألبسة جديدة مزركشة.
فرح الوزراء بهذا الأمر السلطاني ولبسوا أجمل ما لديهم في تلك المناسبة محاولين مجاراة السلطان الذين سيكون في أبهى حلة.
طلب السلطان بوضع سيف مجرد من غمده مسنودا على العرش قبل حضور السفير، وفي ذلك اليوم تجمع الوزراء وكبار رجالات الدولة في القاعة السلطانية منتظرين السلطان الذي توقعوا أن يحضر المناسبة بشكل مختلف عما اعتادوه.
دخل السلطان بذات الملابس القديمة التي كان يلبسها، فانصدم الوزراء وخجلوا من أنفسهم، فلباسهم أجمل وأغلى من لباس سلطانهم، فدخلت أعناقهم في أجسادهم وانتظروا حتى يعرفوا السبب.
دخل السفير ووقف أمام السلطان منحنيا راكعا راجفا بين يديه، وبعد تبادل بعض الجمل القليلة غادر السفير بسرعة، حينها طلب السلطان من أحد وزرائه أن يسأل السفير عن لباس السلطان، وكان رد السفير صادما..
" لم أر السلطان العظيم، فقد خطف بصري السيف المجرد المسنود على قائمة العرش، ولم أر غيره."
وعندما نقل الخبر للسلطان، أشار نحو السيف الذي مازال مسنودا قائلا:
"طالما بقي حد السيف بتارا، لن ترى عين العدو لباسنا ولن تنتبه إليه، الله لا يرينا اليوم الذي يجعل فيه سيفنا غير بتار وننشغل باللباس والمظاهر .."
أورد هذه القصة الكاتب التركي مصطفى أرمغان في كتابه: التاريخ السري للامبراطورية العثمانية وقد نقلتها بتصرف هنا.
دعوني أعود إلى عنواني، أنا لا أعتقد أن داعش صنيعة إيرانية أو أمريكية كما يود البعض أن يردد، ولكنهم في نظري صنيعة عربية بامتياز، وإن أردت التوضيح أكثر هم صنيعة الأنظمة العربية التي راكمت على مدى عقود من الزمن ظلما لم يستطع هؤلاء الشباب تحمله فآثروا الموت مقاتلين على القتل مسالمين.
تقول المصادر الاستخبارية الغربية بأن أعداد المقاتلين في صفوف الدولة الإسلامية حوالي عشرين ألف شخص، نصفهم لديهم خبرة قتالية يعتد بها والنصف الآخر مازالوا في مرحلة تراكم الخبرات، ولكنهم لن يستطيعوا مجابهة قوة مقاتلة تملك التدريب والتسليح اللازمين لمجابهة عسكرية، فنحن إذن نتحدث عن حوالي عشرة آلاف مقاتل فقط.
وقدرت المصادر الغربية بأن تكلفة الحملة على داعش حوالي 21 مليار دولار سنويا، تكفلت بها الدول الخليجية، وهذه الحملة قد تمتد من خمس إلى عشر سنوات في أحسن الأحوال، أي أن خزائن الدول المساندة والداعمة لهذه الحملة ستفرغ من احتياطها المالي قريبا، وقد يؤدي بها ذلك الى إفقار شعوبها و تعطيل تنميتها إن لم يكن موتها.
لم تشكل داعش حتى هذه اللحظة خطرا على أي دولة عربية سنية بالمعنى الحقيقي، فهي أعلنت الحرب على النظام السوري و النظام العراقي، ومع اختلافنا في طريقة تفكيرها وأسلوبها وغبائها وجنونها إلا أنها مازالت تستنزف هذين النظامين الطائفيين البغيضين، بل إنها كسرت الهلال الشيعي الذي عملت إيران على تشكيله طوال عقود طويلة من الزمن.
وإذا كانت الولايات المتحدة والغرب ترى في داعش خطرا على مصالحها، فدونها إياه، فإن كانت داعش قد قتلت بضع غربيين بطريقة مقززة تبعث على الغثيان فهم قد نكلوا بالآلاف من المسلمين بطريقة أسوأ من ذلك يصعب اللسان عن شرحها والعقل عن استيعابها، من هؤلاء من كان يستسقى به المطر، فدعوا الطرفين يتفاهمان باللغة التي يحسنانها.
إن دخول دول الخليج في معركة مثل هذه يجعلها عرضة لانتقام عناصر داعش ودخولها في أزمة هي في غنى عنها من البداية، وفي حال افترضنا أنه تم الانتهاء من تنظيم داعش عسكريا فسيخرج لنا تنظيم آخر باسم آخر وقيادات أخرى، فالأمر لن ينتهي أبدا طالما بقي الاستبداد والظلم، فقد اعتقدت الولايات المتحدة أنها أنهت طالبان في أفغانستان، ولكن الأخيرة مازالت تقاتل هناك وقد بدأت بوادر حوار قادم بعد أن تعب الجميع من القتل، واعتقدت الولايات المتحدة أنها أنهت المقاومة في العراق، ولكن المقاومة مازالت هناك أيضا، فمن الصعوبة إنهاء عارض إن لم يتم تشخيص المرض وعلاجه.
لإيران أجنحة عسكرية متعددة أكثر من أن تحصى، حزب الله اللبناني (حالش) وفيلق بدر وكتائب أبو الفضل العباس، وعصائب الحق، والحوثيين وماعش (مليشيا إيران الشيعية في العراق) وغيرها الكثير، وقوائم القتل والتنكيل والتهجير التي قامت بها هذه المليشيات أكثر من أن تسرد، بل إن هناك خلايا نائمة لايران منتشرة في دول الخليج بانتظار الإشارة للتحرك لم نعرف أسماءها بعد، ومع ذلك لم توسم بالإرهاب، فهل المسألة أصبحت انتقائية؟ لقد بدأ السنة يشعرون بهذا الانحياز الواضح الذي أضاف تعاطفا شعبيا مع الحركات السنية مهما كانت درجة الخلاف العقائدي معها، فانتقائية الغرب تغض النظر عن تفاصيل البذور التي تضعها في أرض عنيفة خصبة.
ثم إننا لم نعط داعش فرصة الحوار والمناظرة كما فعلنا مع إسرائيل التي مازلنا نتفاوض معها منذ عقود طويلة موقنين بأننا لن نحصل منها على شيء، ولم نعطهم ما أعطينا الحوثيين الذين فاوضتهم الحكومة اليمنية لسنوات طويلة ولم يشفع لها ذلك وانقلبوا عليها، ولم نعطهم الفرصة التي حصل عليها حزب الله الذي أصبح يتحدث باسم لبنان يجره من حرب إلى أخرى ومن مأساة إلى مثلها بل إنه أدخل البلاد والعباد في دوامة عنف لأن هناك من فصل ضابط أمن المطار!! كل هذا بدون أن يحصل الحزب حتى على كلمة لوم في ذلك، ولم نعطهم ما أعطينا حكومة المنطقة الخضراء في العراق التي أهانتنا بتصريحاتها الطائفية البغيضة في إعلامها بشكل فج بعيدا عن الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها، ومع ذلك مازلنا متمسكين بأن اللاحق قد يكون أفضل من السابق حتى وإن درسوا على نفس الشيخ ، ألم تفاوض بريطانيا الجيش الأيرلندي الذي فجر ودمر حتى في العاصمة لندن؟ ألم تفاوض أمريكا كل عصابات الأرض في أمريكا الجنوبية خوفا على مصالحها؟ ألم تفاوض أسبانيا منظمة الباسك؟ هل تريدون أمثلة أخرى؟
إن الأموال التي رصدت لضرب داعش خلال سنة واحدة فقط بالإمكان استخدامها لإغراء الكثير منهم بالعودة إلى ديارهم وإكمال تعليمهم ودمجهم في مجتمعاتهم والحوار معهم، أو على الأقل محاولة ذلك قبل العلاج بالكي.
لكم أن تتخيلوا معي لو ما الذي سيقول السلطان سليم عنا الآن، ولكننا أسقطنا السيف ثم تعرينا، بل قد نكون سلمنا سيف السلطان سليم لعدونا.
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
33
| 26 أكتوبر 2025
سلامٌ على غزة وأهلها
تباشر قناة الجزيرة منذ أيام مضت أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد توقيع الاتفاق في شرم... اقرأ المزيد
36
| 26 أكتوبر 2025
رؤية الأسرة القطرية
ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، خطابًا شاملاً بمناسبة انعقاد دور... اقرأ المزيد
21
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6180
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3753
| 21 أكتوبر 2025