رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يرتبط التعلم ارتباطاً شديداً بالتذكر، ذلك أنه إذا لم يتبق لدينا شيء من خبراتنا السابقة فلن نتعلم شيئاً، وللتذكّر أهميته الخاصة، فإن تفكيرنا مرتبط إلى حد كبير بما نتذكر من حقائق، كما أن استمرار الإدراك في حد ذاته، إنما يتوقف على استمرار ذاكرتنا، فنحن نستطيع أن ندرك العلاقات بين الماضي والحاضر، ونقوم بعمل تنبؤات عن المستقبل، ويرجع الفضل في ذلك كله إلى حضور ذاكرتنا وقوتها ومرونتها.
ونحن نتعلم ونتذكر وننسى باستمرار، وتجَمُّع المعلومات وتراكمها هي عملية يبدو فيها الشخص كمن يخطو خطوتين للأمام وخطوة للوراء. وهذه العملية تحتم على المدرس والطالب الاهتمام بجانبين أساسيين هما:
- كيف يمكن أن يكون التعلّم فعّالاً؟
- كيف نتذكر ما تعلمناه تذكراً جيداً؟
ولو كان الإنسان يتذكر كل ما يتعلمه، ولو أمكن حفظ الحقائق والمفاهيم والمهارات حفظاً تاماً؛ لكانت الامتحانات غاية في السهولة، ولكانت معلوماتنا ومعارفنا واسعة تماماً، إلا أن الواقع غير ذلك، فحصيلة الطفل من المعلومات خلال عام واحد ضئيلة، لاحظ مثلاً مقدار ما يتذكره الطالب الجامعي من دراسة اللغة الفرنسية في المرحلة الثانوية، أو من دراسة التاريخ، إن ما يتذكره لا شك قليل ومحدود.
وسوف نعرض لمفهوم كل من التذكر والنسيان وما يرتبط بهما من عوامل قد تساعد على التذكر أو تقادم النسيان..
التذكر: سوف يتم الحديث عن النقاط التالية:
- تعريف التذكر.
- وسائل التذكر.
- العوامل المؤثرة في التذكر.
(1) تعريف التذكر:
التذكر هو القدرة على استرجاع الخبرات السابقة، ولذلك فإن التعليم يعتمد على ما نستطيع تذكره في الوقت الحاضر، كما أن التعلم والتذكر عمليتان يؤدي كل منهما إلى الآخر. فنحن لا نستطيع أن نتعلم شيئاً دون استعادة ما يرتبط بالموقف التعليمي من خبرات ماضية، كما أن التعلم لا يكتسب معناه إذا لم نكن قادرين على تذكر ما تعلمناه لنستخدمه في مواقف مقبلة.
(2) وسائل التذكر:
1- الاستدعاء:
هو: عملية استرجاع الاستجابات الماضية دون وجود المثير الأصلي الذي استدعاها في الأصل، ومثال ذلك: استرجاع قصيدة من الشعر ثم تعلمها في الماضي، أو: استرجاع بعض المعلومات التي دُرِسَتْ من قبل.
ويتم الاستدعاء على هيئة صور ذهنية تنقل المعنى الذي وُجد في المثير الأصلي أثناء عملية الإدراك، وهذه الصورة الذهنية تحدث غالباً في صورة ألفاظ وعبارات. وقد يكون الاستدعاء مباشراً أو غير مباشر.
2- التعرف:
عندما نتعرف على شيء فإننا نعني بذلك أن هذا الشيء مألوف لدينا، والتعرف ظاهرة شائعة وهي تتم بطريقة تلقائية، فقد تقابل زميلاً قديماً لك لم ترهُ منذ وقت طويل وتقول له: "إنني متأكد أننا تقابلنا من قبل رغم أنني لا أذكر اسمك أو أين ومتى كان ذلك".
3- التداعي والترابط:
تتداعى الأفكار المترابطة لدى الفرد، أي أن الفكرة تلو الأخرى في ترابط واتصال، حيث يتذكر الفرد موضوعات وأموراً يتصل بعضها ببعض، وبقدر ترابط تلك الأفكار وتماسكها تحدث عملية التداعي لدى الفرد. ويوجد نوعان من التداعي هما: التداعي الحر والتداعي المقيد.
(3) العوامل المؤثرة في التذكر:
1- سرعة وبطء المتعلم:
يختلف الأفراد فيما بينهم من حيث معدل السرعة في عملية التعلم، فمنهم من يتقدم بسرعة ملحوظة، ومنهم بطيء التعلم؛ وبالتالي يؤثر هذا العامل في تذكر الموضوعات من حيث السرعة في التعلم والفهم والاستيعاب.
2- مواد التعلم:
يؤثر عامل المعنى تأثيراً فعالاً في مدى تعلم الفرد للمواد المختلفة. فالمادة ذات المعنى أسهل وأيسر في تعلمها واسترجاعها، حيث يجد التلميذ يسراً في حفظ المواد ذات المعاني الواضحة، وبالتالي يؤدي عامل المعنى إلى سرعة التعلم والحفظ والاسترجاع.
3- طرقة التعلم:
تؤثر طريقة التعلم المستخدمة في مواقف التعلم، على مقدار حفظ المادة، ومقدار تذكرها، فالطريقة الكلية في التعلم -رغم تعدد فقرات الموضوع المدروس- إلا أن المتعلم يحاول دراسته كوحدة كلية متكاملة الأجزاء. بينما في الطريقة الجزئية يسير المتعلم في تعلمه للأجزاء حتى ينتهي من الموضوع.
ويرتبط بطريقة التعلم التدريب والممارسة اللذين يساعدان المتعلم كثيراً في مقدار حفظه للمادة المتعلمة وتذكرها.
النــسـيـان: سوف يتم الحديث عن النقاط التالية:
1- تعريف النسيان.
2- عوامل النسيان.
3- العوامل التي تساعد على الحفظ الجيد (مقاومة النسيان).
1- تعريف النسيان:
هو: عدم القدرة على تذكر بعض الخبرات التي سبق اكتسابها وتعلمها، ومن ثم يُعْتَبَر الجانب السلبي للتذكر.
وعملية النسيان التي تحدث للإنسان، فيفقد بعض خبرات ومواقف من ذاكرته وبالتالي لا يقوى على تذكرها، لهو أمرٌ مفيدٌ بالنسبة له. فقد تكون الخبرات والمواقف مؤلمة غير سارة وبالتالي فإن نسيانها أفضل من تذكرها.
كما أن العقل الإنساني تتراكم بداخله الحقائق والمعلومات والمواقف. هذا التراكم والتزاحم من شأنه أن تختلط الأمور ببعضها البعض، ولكن عملية النسيان التي تحدث تحقق جزءاً من التنظيم لتلك المعلومات والحقائق، حيث يتسع المجال لمعلومات وإضافات جديدة تنمّي العقل والتفكير.
2- عوامل النسيان:
أ - الفترات الزمنية الطويلة تؤدي إلى نسيان الموضوع أو الشيء، حيث ينقص مقدار تذكر الفرد للموضوعات والخبرات والمهارات.
ب- التداخل الذي يحدث بين مجموعة من الأفكار والحقائق، من شأنه أن يؤدي إلى النسيان.
ج- الكف الرجعي الذي يحدث في مواقف التعلم يساعد على حدوث النسيان.
د- عدم تثبيت موضوع التعلم عن طريق التكرار يساعد على حدوث النسيان.
هـ- المواقف الانفعالية المؤلمة بالنسبة للفرد تساعد على حدوث النسيان؛ نظراً لأنها تكبت ولا تظهر في الشعور.
و- غموض المعنى والتباسه لدى الفرد في موضوعات التعلم يؤدي إلى النسيان.
3- العوامل التي تساعد على الحفظ الجيد:
1- وضوح المعنى لدى المتعلم:
يؤدي وضوح المعنى لمحتوى المادة التي يتعلمها الطالب إلى تسهيل الحفظ، وتسهيل عملية التعلم بشكل عام.
وقد تبين من نتائج بعض الدراسات أنه من السهل تذكر المادة الدراسية إذا كان معناها مفهوماً وواضحاً وكان محتواها منظماً والعكس.
2- التنظيم:
يساعد التنظيم السليم على حفظ آلاف الحقائق والمفاهيم والمهارات في اللغة والعلوم والرياضيات والاجتماعيات وغيرها من المواد الدراسية التي يتعلمها طلاب المدارس على اختلاف أنواعها ومراحلها، كما يؤدي تنظيم المادة الدراسية وفهمها إلى مقاومة الكف الرجعي.
3- الإتقان:
من الصعب تذكر أي معلومات دون إتقانها، ويتحقق الإتقان عن طرق التدريب المتواصل على مهارة ما، أو حفظ معلومات ما، فإن زيادة التعلم واستمراريته في موضوع معين تقلل من النسيان وتساعد على الحفظ.
4- المراجعة:
مراجعة المادة أو المواد المتعلمة التي نستذكرها مراجعة منتظمة وعلى فترات يساعد على الحفظ ويقلل من نسبة النسيان، وترجع أهمية المراجعة إلى أنها تساعد على تثبيت المادة المتعلمة.
5- التكامل:
يمكن تحسين الحفظ عن طريق العمل على تكامل الموضوعات التي يدرسها الطلاب في تتابع. فعندما يدرس الطلاب مجموعة متتالية من الموضوعات كما في العلوم أو المواد الاجتماعية أو اللغة العربية، يجب أن يكون الموضوع الجديد مرتبطاً بالموضوع القديم أو يدرس كاستمرار طبيعي للموضوع القديم، ومثل هذا التكامل في دراسة الموضوعات المتتابعة يقلل من فرصة النسيان.
العوامل الدينامية المساعدة على الحفظ:
ومن أمثلة هذه العوامل: الميول، والاستعداد العقلي، وتوافر هذين العاملين من شأنه أن يساعد على التذكر ويقلل من فرص النسيان.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1245
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
801
| 10 ديسمبر 2025