رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

رمضان 1435

2972

القرضاوي : الله أحسن تأديب نبيه بالعلوم وبآداب العبودية (3)

30 يونيو 2014 , 12:59م
alsharq
الدوحة - بوابة الشرق

من المهم هنا أن نتحدث عن كلمة (الأدب) في تراثنا الديني والشرعي، فلا ريب أن الكلمة قد عرفت عندهم كما عرفت عند غيرهم، بل إن القرون الأولى كان الجانب الديني فيها أظهر من غيره، كما يظهر ويتجلى ذلك للدارسين والباحثين.

ولقد ظهر لنا في بحث رجال اللغة: أنهم وجدوا الحديث الذي نسبوه إلى الرسول الكريم: "أدَّبني ربي فأحسن تأديبي". وهو حديث معروف عند علماء الدين، وإن لم يبلغ درجة الصحة المعروفة عندهم، ولكنهم تقبَّلوه، وتحدثوا عنه، وشرحوه، وخصوصًا المتأخرين منهم، كالعلامة المصري المُناوي (ت 1031ه) شارح (الجامع الصغير) للحافظ السيوطي، قال:

" أدبني ربي ". أي علَّمني رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة. والأدب ما يحصل للنفس من الأخلاق الحسنة، والعلوم المكتسبة. وفي شرح النوابغ: هو ما يؤدي بالناس إلى المحامد. أي: يدعوهم.

"فأحسن تأديبي". بإفضاله عليَّ بالعلوم الكسبية والوهبية، بما لم يقع نظيره لأحد من البشر. قال بعضهم: أدَّبه بآداب العبودية، وهذَّبه بمكارم أخلاق الربوبية.

ولما أراد إرساله ليكون ظاهر عبوديته مرآة للعالم؛ كقوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي". وباطن حاله مرآة للصادقين في متابعته، وللصِّدِّيقين في السير إليه؛ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].

وقال القرطبي: حفظه الله من صغره، وتولى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل به، حتى كرَّه إليه أحوال الجاهلية، وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كل ذلك لطفٌ به، وعطفٌ عليه، وجمع للمحاسن لديه.

وفي هذا من تعظيم شأن الأدب ما لا يخفى.

ومن ثَمَّ قالوا: الأدب صورة العقل، فصوِّرْ عقلَك كيف شئتَ.

وقالوا: الفضل بالعقل والأدب، لا بالأصل والنسب؛ لأن من ساء أدبه ضاع نسبه، ومن ضل عقله ضل أصله.

وقالوا: زكِّ قلبك بالأدب، كما تزكَّى النارُ بالحطب. وحسن الأدب يستر قبيح النسب).

كلمة الإمام القرافي

ذكر الإمام الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي (ت 684هـ)، في كتابه (الفروق) وهو يتحدث عن موقع الأدب من العمل، وبيان أنه مقدَّم في الرتبة عليه: (واعلم أن قليل الأدب، خير من كثير من العمل، ولذلك قال رُويم العالم الصالح لابنه: يا بُنيَّ اجعل عملك مِلْحًا، وأدبَك دقيقًا. أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته في الكثرة؛ نسبة الدقيق إلى الملح في العجين، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح، خير من العمل الصالح مع قلة الأدب!.

وقبل ذلك قال الإمام الغزالي (ت 505هـ) في موسوعته (إحياء علوم الدين):

(فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة الأخلاق، والآداب رشحُ المعارف، وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها، وتبدِّل بالمحاسن مكارهَها ومساوئَها. ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه. ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية، لم يُفِضْ على ظاهره جمالُ الآداب النبوية.

ولقد كنتُ عزمتُ على أن أختم ربعَ العادات من هذا الكتاب بكتابٍ جامعٍ لآداب المعيشة، لئلَّا يشُقُّ على طالبها استخراجُها من جميع هذه الكتب، ثم رأيتُ كلَّ كتاب من ربع العادات قد أتى على جملة من الآداب، فاستثقلت تكريرها وإعادتها، فإن طلبَ الإعادة ثقيل، والنفوس مجبولة على معاداة المُعادَات، فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد، فأسردها مجموعة فصلًا فصلًا، محذوفة الأسانيد، ليجتمع فيه مع جميع الآداب: تجديد الإيمان، وتأكيده، بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق الله تعالى، وأعلاهم رتبة، وأجلُّهم قدرًا، فكيف مجموعها؟

ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكرَ خِلْقَته، ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار، ليكون ذلك مُعْرِبًا عن مكارم الأخلاق والشِّيَم، ومُنْتَزِعًا عن آذان الجاحدين لنبوته صمامَ الصَّمَم. والله تعالى وليُّ التوفيق للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق والأحوال، وسائر معالم الدين، فإنه دليل المتحيرين، ومجيب دعوة المضطرين.

وقال في (العوارف): بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصلح العمل، وبالعمل تُنال الحكمة.

ولما ورد أبو حفص النيسابوري العراق، جاءه الجُنَيد، فرأى أصحابه وقوفًا على رأسه يأتمرون بأمره، فقال: أدَّبْتَ أصحابَك آداب الملوك. قال: لا، ولكن حسن الأدب في الظاهر، عنوانُ حُسن الأدب في الباطن.

وقال العارف ابن سلام: مددتُ رجليَّ تجاه الكعبةِ، فجاءتني امرأة من العارفات، فقالت: إنك من أهل العلم، لا تجالسْه إلا بالأدب، وإلا مُحِيَ اسمُك من ديوان القُرب.

وقال السَّقَطِي: مددت رجلي ليلة في المحراب، فنوديت: ما هكذا يُجالَس الملوكُ؛ فقلتُ: وعزتِكَ، لا مددتها أبدًا. فلم يمدَّها ليلًا ولا نهارًا.

قال في العوارف: وكل الآداب متلَقَّياتٌ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه مَجْمَعُها ظاهرًا وباطنًا.

وقال بعضهم: قد أدَّب الله تعالى رُوح نبيِّه صلى الله عليه وسلم ورباها في محل القُرْب، قبل اتصالها ببدنه الظاهر باللُّطف والهِبَة، فتكامل له الأنسُ باللُّطْف، والأدب بالهَيْبة، واتصلت بعد ذلك بالبدن، ليخرج باتصالها كمالاتٌ أخرى، من القوة إلى الفعل، وينال كلٌّ من الرُّوح والبدن بواسطة الأخرى، من الكمال ما يليق بالحال، ويصير قدوة لأهل الكمال.

والأدب: استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا. وقيل: الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل: تعظيم مَن فوقَه، مع الرِّفْق بمن دُونَه. وقيل: غير ذلك.

قال الحرَّاني: والربوبية إقامة المَرْبوب لما خُلِق وأريد له، فرَبُّ كلِّ شيء مُقيمُه بحسَب ما أبداه وجودُه، فربُّ المؤمن رَبَّهُ وربَّاه للإيمان، وربُّ الكافر رَبَّه وربَّاه للكُفران. ورَبُّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم رَبَّه وربَّاه للحمد، وربُ العالمين ربَّ كُلَّ عالَمٍ لِمَا خُلق له، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. فالربوبية بيانٌ في كل رتبةٍ بحسَب ما أظهرته آية مربوبة، من عرف نفسه فقد عَرَف ربَّه)

فضل الأدب والتأديب عند ابن مفلح الحنبلي:

قال العلامة ابن مفلح الحنبلي المقدسي في فصل (في فضل الأدب والتأديب) من كتابه المعروف (الآداب الشرعية):

(قال في (الغُنْية) — بعد أن ذكر جملة من الآداب —: ينبغي لكل مؤمن أن يعمل بهذه الآداب في أحواله. رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه قال: تأدَّبوا، ثم تعلَّموا.

وقال أبو عبد الله البَلْخِي: أدبُ العلمِ أكثر من العلم.

وقال ابن المبارك: لا ينْبُل الرجل بنوعٍ من العلم ما لم يُزين عِلْمه بالأدب، رواه الحاكم في (تاريخه).

ورُوِيَ عنه أيضًا: طلبتُ العلمَ فأصبتُ فيه شيئًا، وطلبت الأدب فإذا أهله قد ماتوا.

وقال بعض الحكماء: لا أدب إلا بعقل، ولا عقل إلا بأدب، كان يقال: العون لمن لا عون له: الأدبُ.

وقال الأحنف: الأدب نور العقل، كما أن النار في الظُّلمة نور البصر.

كان يقال: الأدب من الآباء، والصلاح من الله. كان يقال: من أدَّب ابنَه صغيرًا، قرَّت به عينه كبيرًا. وقال بعضهم: من لم يؤدِّبْه والداه أدَّبه الليلُ والنهار.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]. قال: أدِّبوهم وعلِّموهم.

وقال بعضهم:

قد ينفع الأدب الأحداث في صِغَر وليس ينفع عند الشِّيبةِ الأدبُ

إن الغصــــــــونَ إذا قوَّمتها اعتدلَتْ ولا تلينُ إذا قوَّمتـــــــــها الخُشُبُ

قيل لعيسى عليه السلام: من أدَّبك؟ قال: ما أدَّبَني أحد، رأيتُ جهلَ الجاهل فاجتنبتُه.

وقال محمد بن سيرين: كانوا يقولون: أكرمْ ولدَك، وأحسنْ أدبه.

وقال الحسن: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر.

وقال لقمان: ضربُ الوالد للولد كالسِّماد للزرع. ذكر ذلك ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس.

وقال ابن المبارك: قال لي مَخْلدة بن الحسين: نحن إلى كثير من الأدب أحوجُ منا إلى كثيرٍ من الحديث.

وعن سعيد بن العاص مرفوعًا: "ما نَحَلَ والدٌ ولدًا أفضلُ من أدب حسن".

وعن جابر بن سمرة مرفوعًا: "لَأَنْ يؤدبَ الرجل وَلَده خيرٌ من أن يتصدق بصاع". رواهما الترمذي، وقال في كل منهما: غريب.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله:

ومن لم يذق مُرَّ التعلُّم ساعةً تجرَّعْ ذلَّ الجهل طولَ حياتهِ

ومن فاته التعليم وقت شبابه فكَبِّر عليه أربعًــــــــــــــــــا لوفاتهِ

حياةُ الفتى واللهِ بالعلمِ والتُّقَى إذا لم يكونا لا اعتبار لذاتهِ

ومن هنا كان حرصهم على التعلم في وقت الصغر، والذاكرة قوية، ومشغوفة بالتقاط المعارف، وفارغة من المواد المتزاحمة.

ولهذا قال الحكيم: من لم يتعلم في صغره لم يتقدم في كبره، والعلم في الصغر، كالنقشِ على الحجرِ؛ فقيل له: إن الكبير أوفر عقلًا؟ قال: ولكنه أكثر شغُلًا).

ومن أجل هذا أنشَأَت الأمم الراقية المدارس والكتاتيب والخلاوي، لتعليم الأولاد في فترة الصبا والصغر، ولئلا يُضيعوا هذه الفترة في اللعب وحده، ولكن ليكون اللعب وسيلة للتعلم، ومعينًا على التعلم. وكثيرًا ما تُنشأُ مدارس للأذكياء يودعون فيها من صغرهم، ويتعلمون فيها اللغات والمهارات والكمبيوتر وغيرها، ويظهر فيها نوابغ وعباقرة، ويجب الاستفادة مما وصلوا إليه في التعليم العام عندنا.

قيل لأحد الملوك: لماذا تحترم معلمك أكثر من أبيك؟ قال: لأن أبي سبب حياتي الفانية، ومعلمي سبب حياتي الباقية؛ يعني حياة الفكر والضمير والروح. وقال الشاعر معبرًا عن هذا المعنى:

فهذا مربي الروح، والروح جوهرٌ وذاك مربي الجسم، والجسم كالصَّدَف!

وقد قرأتُ قديمًا هذه الحكمة: من أراد أن يكون أديبًا فليعرف شيئًا عن كل شيء، ومن أراد أن يكون عالمًا (أي: متخصصًا) فليعرف كل شيء عن شيءٍ.

وهو ما يحاول بعضهم الآن أن يفرق به بين المثقِّف والعالم، فالمثقَّف من يعرف كثيرا من الأشياء؛ كيف يأخذ من كل علم قطرة أو شَربة أو رَشفة، والعالم: من يرتوي من أحد العلوم، ويتخصص فيه.

أدب المسلم

مع العلم والعلماء والتعلم والتعليم

أول ما يحرص المسلم عليه، ويطلبه: هو العلم، الذي به يعرف نفسه، ويعرف ربه، ويعرف أصله، ويعرف الكون الذي يعيش فيه، والكائنات التي يتعامل معها، وخصوصًا من بني جنسه. وبهذا العلم تتكشَّف له الحقائق، وتُزاح عنه الأباطيل. وعن هذا العلم الأول، تتفرع علوم شتَّى، منها ما يتعلق بالدين، ومنها ما يتصل بالدنيا، ما ينزل بالمرء إلى أعماق الدنيا، ومنها ما يعلو به إلى آفاق الآخرة. وكل هذه العلوم مطلوبة، ولها وسائلها ومصادرهها، ولها شيوخها ومعلِّموها. ولابد لكل إنسان أن يطلب منها على قدر ما يتسع واديه، ولهذا كان أول ما نزل من القرآن على قلب محمد رسول الإسلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5 — 1].

ويسرُّني أن أبدأ هنا بما قاله أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبْد ربِّه الأندلسي، في مقدمة كتاب (الياقوتة في العلم والأدب)، من كتابه الكبير (العقد الفريد)، وهو من الكتب العربية الأدبية الأصلية، قال: (ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب، فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا، وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية، وهما مادَّة العقل وسراج البدن، ونُور القَلب، وعماد الرُّوح، وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته، وعظيم سُلطانه، بعضَ الأشياء عَمَدًا لبعض، ومُتولِّدًا من بعض، فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسُّ تَبعث خواطر الذِّكر، وخواطر الذكر تنبه رويَّة الفِكْر، ورويَّة الفِكْر تثير مكامِن الإرادة، والإرادة تُحْكِم أسباب العمل، فكلُّ شيء يقوم في العقل، ويُمَثَّل في الوهم، يكون ذِكْرًا، ثم فِكْرًا، ثم إرادة، ثم عملًا. والعقل متقبِّل للعِلْم، لا يعمل في غير ذلك شيئًا. والعلم عِلمان: علم حُمِل، وعلم استُعمل، فما حُمل منه ضرَّ، وما استُعمل نَفع. (ويقصد بما حُمل: أنه لم يعمل به، كمثل الحمار يحمل أسفارا).

والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان، والسمع في تقبل الأصوات: ان العاقل إذا لم يُعلَّم شيئًا كان كمن لا عقل له، والطِّفل الصغير لو لم تُعرِّفه أدبًا، وتُلقِّنه كتابًا، كان كأبلهِ البهائم، وأضلِّ الدوابِّ.

قيل للمُهلَّب: بِمَ أدركتَ ما أدركتَ؟ قال: بالعِلم. قيل له: فإن غيرك قد عَلِم أكثر مما عَلِمتَ، ولم يُدرك ما أدركت!! قال: ذلك عِلم حُمِل، وهذا علم استُعْمل.

وقد قال الحُكماء: العِلمُ قائد، والعَقل سائق، والنَّفس ذَوْد، فإذا كان قائد بلا سائق هلكت (الماشية)، وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يمينًا وشمالًا، وإذا اجتمعا أجابت طَوْعًا أو كَرْهًا.

مساحة إعلانية