أعلنت إدارة العلاقات العامة والاتصال بوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي عن إهداء وردة رمزية، تعبيراً عن الوفاء والامتنان لجميع المعلمين والمعلمات في المدارس...
رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
تحت رعاية وحضور معالي الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ينظم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مؤتمراً علمياً بعنوان "المؤتمر العالمي للتعليم الشرعي وسبل النهوض به"، وذلك في الفترة من 15 إلى 17 أبريل الجاري بالدوحة، وبحضور سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية د.غيث الكواري، إضافة إلى قرابة 20 سفيرا من سفراء الدول المعتمدة لدى دولة قطر. وسوف يشارك في المؤتمر نخبة من العلماء والباحثين في التخصصات المختلفة ذات العلاقة بالتعليم الشرعي ومن دول عديدة يتقدمهم العلامة أ. د. يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد، وفضيلة أ. د. علي القره داغي الأمين العام للاتحاد، حيث سيتم مناقشة مجموعة من الأبحاث في جلسات المؤتمر العلمية، بهدف الخروج بتوصيات يتم رفعها عالمياً للدول والمنظمات والجامعات والمعاهد الشرعية المتخصصة لتكون مساعداً في وضع إطار لتطوير هذا النوع الهام من التعليم والنهوض به وترقيته. كما سيتولى أ. د. أحمد الريسوني - نائب رئيس الاتحاد - رئاسة اللجنة العلمية للمؤتمر. ومن الجدير بالذكر أن التعليم الشرعي هو التعليم المتخصص في تدريس العلوم الشرعية وما يرتبط بها من معارف تكميلية، كاللغة العربية والحضارة الإسلامية وتاريخ الإسلام. وهذا التعليم له مؤسسات عريقة وشهيرة في العالم الإسلامي، مثل جامعات: الأزهر بمصر، والقرويين بالمغرب، والزيتونة بتونس، وندوة العلماء بالهند.. وقد أنشئت له جامعات حديثة كثيرة في العديد من الدول الإسلامية. كما أحدثت له في الحقبة الأخيرة عدة جامعات ومعاهد وكليات متخصصة غير حكومية، في عدة دول إسلامية، وحتى في بعض الدول الغربية، في أوروبا وغيرها. كما يدخل في التعليم الشرعي: المدارس المتخصصة - منذ البداية - في التعليم الشرعي. وتدخل في مسمى التعليم الشرعي مسالك وأقسام وكليات متخصصة، وهي ضمن مدارس التعليم العام وكلياته وجامعاته؛ كوجود كليات الشريعة ضمن جامعات للتعليم العام، أو أقسام للدراسات الإسلامية في كليات الآداب والعلوم الإنسانية أو كليات الحقوق. ويوجد في بعض البلدان مسالك دراسية شرعية ضمن مؤسسات التعليم الثانوي...وأخيرا ظهرت مؤسسات تعليمية وبرامج للتعليم الإسلامي عن بعد، أو بالمراسلة، أو عبر الشبكة العنكبوتية.
486
| 11 أبريل 2016
قدم فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التعازي للسودان وللأمتين العربية والإسلامية في وفاة الدكتور حسن عبدالله الترابي الذي انتقل إلى رحمة الله نهار السبت وذلك في حفل التأبين الذي أقامته السفارة والجالية بالمركز الثقافي السوداني مساء اليوم بحضور عدد من سفراء الدول العربية والإسلامية وكبار العلماء ورئيس الجالية السودانية وأمينها العام ورموز الجالية السودانية في قطر. و أكد القرضاوي في كلمته أن الترابي ظل رجل السودان والعرب والمسلمين وقد يختلف الناس حوله لكنه يعتبر أحد رجالات الأمتين العربية والإسلامية بالفكر والدعوة والتربية والجهاد والسياسة وإن رحليه فقد للإسلام والمسلمين فقد ظل مرتهنا حياته لهذا الدين وعمل من أجله واجتهد فيه وللمجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطا ، كما تحدث فضيلته بإسهاب عن علاقته بالراحل داعيا الله أن يتقبله قبولا حسنا وأن يحشره مع الأنبياء والشهداء والصديقين . كما تحدث سعادة السفير ياسر خضر خلف الله سفير السودان لدى دولة قطر عن مناقب الراحل مبينا أنه غيابه شكل صدمة كبرى مبينا أنه كان عالما مجددا في الدعوة والسياسة وكان عطاؤه مستمرا وفقيها ومصلحا وسياسيا وكان حلمه في رؤية السودان موحدا وأن يخرج الناس من الخلاف إلى الوفاق وفي ختام كلمته تقدم ياسر بالشكر لكل من أتى معزيا في وفاة فقيد السودان والأمتين العربية والإسلامية. هذا وقد تحدث أيضا الدكتور علي القرة داغي الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين عن الراحل ومناقبه واجتهاده وعلمه ومسيرته الطويلة ودفاعه عن الإسلام والمسلمين.
1831
| 06 مارس 2016
أعلن رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي عن تضامنه مع معتقلي "مقبرة العقرب" في مصر. وكتب "القرضاوي" تغريدة عبر حسابه الشخصي بموقع "تويتر"، مساء اليوم الأربعاء: قال فيها: "أعلن تضامني مع إخواني المعتقلين ظلماً وعدواناً في #مقبرة_العقرب والمضربين عن الطعام لنيل أبسط حقوقهم الإنسانية!".
411
| 02 مارس 2016
احتفلت مسابقة الشيخ غانم بن علي آل ثاني في دورتها العاشرة بتكريم حفظة القرآن الكريم البالغ عددهم "546" فائزاً وفائزة وشارك في المسابقة ما يزيد على "1814" متسابق ومتسابقة من مراكز ودور تحفيظ القرآن الكريم على مستوى الدولة .[i خلال افتتاح الحفل حضر حفل التكريم والذي اقيم في فندق راديسون بلو فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين كما حضر الحفل سعادة الشيخ محمد بن حمد ال ثاني مدير إدارة الصحة العامة بالمجلس الأعلى للصحة كما حضر الحفل عدد من الدعاة ..وشرف الحفل وفد من علماء المغرب كضيوف شرف وهم الدكتور العربي بوسلهام والدكتور القارئ عبد الفتاح الفريسي والدكتور اسماعيل الأشقري . . وقال الشيخ خالد بن محمد أل ثاني رئيس اللجنة المنظمة للمسابقة إن اللجنة تحتفل بمناسبتين الأولى مرور 10 سنوات على قيام المسابقة التي كانت بدأت عام 2006 بـ 266 طالبا والثانية بمناسبة تكريم " 546 " طالبا وطالبة حفظوا القرآن الكريم ولفت إلى أن المسابقة قامت في عامها الثاني بفتح قسم للطالبات وقامت قبل 3 سنوات بفتح قسم لها في الهند . تنافس قوي للمشاركين وقال إن العدد الكبير من المتنافسين الذي وصلت إليه المسابقة بفضل الدعم الذي تجده من الشيخ غانم بن علي آل ثاني ومن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ممثلة في إدارتي الدعوة المساجد .. حيث بلغت الميزانية الإجمالية للمسابقة والفعاليات المصاحبة لها كمجلس سماع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسابقة الهند لتصل لحوالي "5" مليون ريال قطري، من سعادة راعي المسابقة الشيخ غانم حفظه الله وللعام العاشر على التوالي. وكشف الشيخ خالد عن الإعلان قريبا عن مجلس الحديث النبوي الخامس ومسابقة الهند الثالثة . وكان سعادة الشيخ خالد بن محمد بن غانم آل ثاني رئيس اللجنة المنظمة لمسابقة الشيخ غانم بن علي آل ثاني في دورتها العاشرة قد اعتمد النتائج النهائية للمسابقة، والتي شهدت تنافساً قويا وشديدا بين الطلاب والطالبات من المنتسبين لمراكز ودور التحفيظ النسائية العاملة بالدولة والتي تشرف عليها إدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. لا حياة بغير القرآن ومن ناحيته ثمن الدكتور عبدالفتاح الفريسي من علماء المغرب في كلمة بهذه المناسبة الجهود التي تبذلها دولة قطر تجاه حفظة القرآن الكريم وتجاه بناء الإنسان وإنشاء حضارة الإسلام .. وقال إن الحياة خواء بغير كتاب الله الذي قال إن السعادة في حفظه وتلاوته والعمل بآياته .. وقال د عبدالفتاح إن التحديات التي تعيشها الأمة الإسلامية تحتاج إلى المزيد من القرآن ..وشدد في هذه الأثناء أنه لابد من مصالحة مع كتاب فهما وتدينا حتى تقام به الدنيا والآخرة وقال إن الأمة تعيش لا مخرج منها إلا بكتاب الله . وأضاف " إننا بحاجة خاصة للعناية بالقرآن الكريم كما اهتم به سيد البشرية حرفا حرفا .. والأمة بغير القرآن لا قيمة لها " الإسلام يتعرض لمؤامرات ومن ناحيته استهل الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين كلمته بالإشارة إلى احتفال قطر بافتاح دورة جديدة لمجلس الشورى وإلى احتفال العالم الإسلامي بفوز حزب التنمية والعدالة في تركيا ..وقال في هذه الاثناء أن الإسلام يتعرض لمؤامرات من بعض المسلمين وغير المسلمين ولكنه سينتصر . وأكد أن الأمة بخير ما دام الصغار يحفظون كتاب الله .. د . القرضاوي يلقي كلمة خلال الحفل وأشاد بالجهود التي تبذلها قطر من أجل القرآن الكريم مشيرا إلى أنه بفضل هذه الجهود فإن الملايين من الناس حفظوا القرآن ولفت في هذه الأثناء إلى أنه لايوجد في العالم ولا حافظ واحد للإنجيل ..ولفت إلى التحفيز لحفظة القرأن الكريم وقال إنه عندما حفظ القرآن كافأته مصر بجنيه ونصف الجنيه وكان وقتها أكبر جائزة للحفظة في مقابل آلاف الريالات التي يتلقاها الحفظة اليوم . الحفظة صاروا بالملايين واشار إلى حفظة القرآن الكريم اليوم في العالم يعدون بالملايين مما يعد حفظا لكتاب الله " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وهذا من فضل الله علينا .. ولفت إلى التطور الذي حدث في قطر من جهة القرآن الكريم مبينا أن الحفظة يحفظون اليوم بالقراءات العشر .. وأكد أن الأمة لن تتغير ما دامت تتمسك بكتاب الله .. ودعا الشباب إلى زيادة الحفظ بمعرفة معاني القرآن . تكريم مديري مراكز القرآن الفائزة المراكز الفائزة و حصلت خمسة من المراكز ومثلهم من الدور على المراكز الأولى وهي : أولاً الدور التي حققت المراكز الخمسة الأولى: هي مركز النساء بمؤسسة حمد بن خالد في المركز الأول ورئيسته الفاضلة مريم الأبرش، وحلت وفي المركز الثاني دار حفصة بنت عمر وتديرها الفاضلة عائشة بنت حسن الكواري، وجاءت في المركز الثالث مركز موزة بنت محمد وتديره الفاضلة هيفاء بنت عبد الله النعيمي، والمركز الرابع دار الحكمة وتديرها الفاضلة ندى علي العمادي، وحلت في المركز الخامس دار الدر المنير وتديره الفاضلة بنان عبدالرزاق. كما أن ترتيب المراكز الأولى للطلاب جاء على النحو التالي: الأول سعد بن عبادة ومديره الشيخ محمد امداد الله حافظ عبدالرب، والمركز الثاني مركز الطلاب بمؤسسة حمد بن خالد ويديره الشيخ عادل عبدالرحمن مخلوف محمد، والمركز الثالث عاصم بن أبي النجود ويديره الشيخ أسامة عبدالوهاب محمد كريم، والمركز الرابع: مركز الفرقان ويديره الشيخ حبيب الله مولوي، والمركز الخامس هشام بن المغيرة ويديره الشيخ عبدالحكيم نعمان محمد راجح. تطور المسابقة وعرضت اللجنة المنظمة للحفل فيلما عن المسابقة بمناسبة مرور 10 سنوات على انطلاقتها حيث استعرض الفيلم الجهود التي بذلت لتطويرها إلى أن وصلت وضعها الحالي وسط مشاركة الألاف من المتنافسين على حفظ كتاب الله من الصغار والشباب والفتيات وحتى النساء كبار السن.
1339
| 07 نوفمبر 2015
أكد العلامة الشيخ يوسف القرضاوي أن الدفاع عن المسجد الأقصى، والرباط فيه لمنع الصهاينة من تدنيسه فريضة, وشدد على تقديم الدعم المادي لأهلنا الصامدين حول المسجد، وطالب السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين بالقيام بواجبهم، وقال إن حماية الأقصى والعمل على استرداده هو واجب المسلمين جميعًا، ليس الفلسطينيون وحدهم. جاء ذلك في بيان أصدره اليوم مستنكرا اقتحام الأقصى، وقال: من استطاع أن يواجه الصهاينة بنفسه فليفعل، ومن استطاع أن يعين أهل الرباط بماله فليفعل، ومن لم يستطع فليخلص الدعاء لهم. والله لوددت لو أستطيع الوصول إلى إخواننا المرابطين وأخواتنا المرابطات، فأضع يدي في أيديهم، وكتفي بأكتافهم، فداء للأقصى، ودفاعا عن الأقصى. وأضاف: لن يكون لنا عذر أمام الله، شعوبا، وحكومات، ومؤسسات، إذا استطاع اليهود تنفيذ مخططاتهم تجاه الأقصى، وفينا عين تطرف، أو قلب ينبض. وأضاف: أقول للمقدسيين والمرابطين في الأقصى: أنتم في رباط وجهاد، فاثبتوا في أماكنكم، لا تخافوا ولا تفزعوا، فأنتم الأعلون، "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". وقال: أقول لحكام المسلمين جميعا: اتقوا الله في شعوبكم، واتقوا الله في أمتكم، واتقوا الله في مقدساتكم.. عودوا بالأمة إلى الإسلام، فهذا هو طريق تحرير المسجد الأقصى.. لا تعزلوا الإسلام عن زمام القيادة، وتنحوه عن التوجيه والتأثير. وأضاف أن الصهاينة يحاربوننا باسم الدين، فعلينا أن نحاربهم باسم الدين الأقوى، حاربونا باسم اليهودية، فلنحاربهم باسم الإسلام، حاربونا باسم موسى، فلنحاربهم باسم محمد وموسى، حاربونا باسم التوراة، فلنحاربهم باسم القرآن.
454
| 13 سبتمبر 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ29 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الدكتور حسن المعايرجي، وعبد العزيز الرنتيسي، والدكتور عبد الله شحاتة: الدكتور حسن المعايرجيعاشق القرآن(ت: 1429هـ = 2008م)انتقل إلى جوار ربه في الأربعاء 29 محرم 1429هـ، الموافق 6 فبراير 2008م، رجل العلم والتربية والدعوة والعمل في سبيل الله، والغيرة على القرآن، الدكتور حسن المعايرجي رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الصالحين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وهو اليوم نفسه الذي مات فيه العالم الجليل الدكتور بكر أبو زيد، عضو هيئة كبار العلماء السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.وقد جاء المعايرجي - هو مصري الجنسية - إلى قطر منذ أكثر من نصف قرن، وعمل بوزارة التربية، ثم بالجامعة، ثم أصيب بالشلل، وفقد الاتصال بما حوله، ومن حوله، منذ سنوات، حتى وافاه الأجل، أسأل الله أن يجعل ذلك في ميزانه.سمعت عن حسن المعايرجي في مدينة الزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية بمصر، في أوائل الخمسينيات، وأنه من الشباب الناشطين في جماعة الإخوان المسلمين بالشرقية، ولكن لم أسعد بلقائه إلا في قطر، بعد وصولي إليها سنة 1961م.كان حسن المعايرجي من المجموعة المصرية التي وصلت إلى قطر مبكرًا، في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، حين كانت قطر تخطو خطواتها الأولى في طريق النهضة التعليمية والعمرانية، فقد جاء هو وعبد الحليم أبو شقة وعز الدين إبراهيم من الشام، ومعهم محمد الشافعي، وعبد اللطيف مكي، وقد تزوج عز الدين من سوريا، كما تزوج هو من لبنان، كما جاء كمال ناجي وعلي شحاتة من السودان.وعمل الجميع في وزارة المعارف، التي كان يحمل مسئوليتها في عهد الشيخ علي بن عبد الله آل ثان، الشيخ قاسم درويش، كما حمل منصب مدير المعارف الداعية المعروف الأستاذ عبد البديع صقر رحمه الله.وقد أصبح المعايرجي بعد ذلك مديرًا لمدرسة الدوحة الإعدادية والثانوية، وكان وكيله الأستاذ عبد الحليم أبو شقة. وقد وقع معه في تلك الفترة حادث معروف وهو: أنه حطم صورة جمال عبد الناصر، التي كانت معلَّقة في أحد الصفوف، وكان عبد الناصر موضع الإعجاب والحماس من أبناء قطر في ذلك الزمن، وكان لهذه الحادثة دويُّها بقطر في ذلك الوقت، كاد المعايرجي يفقد فيه عمله، ثم سويت الأمور، وسار المركب كما كان.وبعد ذلك تغير الوضع في وزارة المعارف، وتولى الوزارة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، الذي سلمها لشقيقه الشيخ قاسم بن حمد، وفي ذلك الوقت عزلت الفئة السابقة من مناصبها، فتولى عبد البديع صقر مدير المعارف إدارة مكتبات حاكم قطر، التي طُوِّرت بعد ذلك وسميت (دار الكتب القطرية)، وعمل البعض في مناصب إدارية، والبعض الآخر مدرِّسين. وبعضهم- مثل عز الدين إبراهيم- سافر إلى لندن للحصول على الدكتوراه.ومن هذه الفئة المعزولة: من كان قويّ الارتباط بحاكم قطر في ذلك الوقت، وهو الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، مثل حسن المعايرجي، الذي قرَّبه الحاكم منه؛ ليقوم بتدريس أولاده العلوم واللغة الإنجليزية وغيرها.وكان حسن المعايرجي شخصية محببة مثقفة، يتقن اللغة الإنجليزية، ويطَّلع على معظم المجلات العلمية العالمية التي تكتب بها، ويلمّ بالثقافة الإسلامية، بحكم انتمائه إلى الإخوان المسلمين، لهذا كان مدرسا محببًا إلى تلاميذه لانفتاح شخصيته واتساع أفقه، وتنوع معلوماته، وقوة تأثيره، فلم يكن يكتفي بتعليم المادة العلمية المقررة، بل يعلمهم فن الحياة أيضًا.وكنت ألتقي بالمعايرجي أنا والعسّال وعبد الحليم أبو شقة ومحمد مصطفى الأعظمي، الذي كان يعمل أمينًا عامًّا لمكتبات الحاكم، ورغم أنه هندي، فإن الدعوة إلى الإسلام كانت هي النسب الذي يضم الجميع، كما أن سجن عبد الناصر له في مصر قرَّب ما بيننا، ولما عاد عز الدين إبراهيم من لندن بعد أن حصل على الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة كامبريدج: انضم إلى المجموعة التي كانت تلتقي كل أسبوع مرة، وفي الغالب كنا نطرح كل مرة موضوعًا علميًّا أو تربويًّا أو إسلاميًّا أو من واقع الحياة.ثم سافر المعايرجي إلى ألمانيا للحصول على الدكتوراه، وهو يحمل بكالوريوس من كلية الزراعة، وقد حصل على الدكتوراه في علم البكتيريا، ولكن الذي يحتك به يدرك أن ثقافته العلمية أوسع من تخصصه؛ لأنه لم يحبس نفسه في دائرة تخصصه، كما يفعل كثير من الأكاديميين العلميين، الذين إذا أخرجت أحدهم من تخصصه، حسبته في عداد الأميين، وهذا نتيجة التقوقع في التخصص.ولكن المعايرجي كان يقرأ دائمًا خارج تخصصه، وخصوصًا ما يتعلق بالإسلام والمسلمين، فهو مركز الدائرة بالنسبة لقراءاته واهتماماته. وعلى الأخص: ما يتعلق بالقرآن الكريم، وترجمة معانيه إلى اللغات الأجنبية، فقد أمسى هذا الموضوع أكبر همّه، في المراحل الأخيرة من حياته، فقد اهتم به، وتفرَّغ له، وأعطاه من وقته وجهده ما يستحق في نظره.ولما رجع من ألمانيا في عهد الشيخ خليفة بن حمد، وكان هو من المحسوبين على الشيخ أحمد بن علي، الذي عُزِل عن الحكم بعد الحركة التصحيحية التي قام بها الشيخ خليفة في 22 فبراير 1972، لم يجد المعايرجي الباب مغلقًا في وجهه، فقد كانت علاقته بالشيخ حمد بن خليفة طيبة؛ إذ كان ممن درَّسه مع أبناء الشيخ أحمد بن علي، فلا غرو أن سهَّل له الشيخ حمد الرجوع إلى البلاد، كما أوصى أن يفسح له المجال في جامعة قطر.وكان الأستاذ الدكتور إبراهيم كاظم مدير الجامعة يعرفه من قبل، وهذا ما مكَّنه من العمل أمينًا عامًّا لمركز البحوث العلمية التطبيقية، الذي أصبح له وضعه ومكانته في جامعة قطر.وكان المعايرجي مع عمله الرسمي، يرى أن عليه واجبًا آخر هو مسئول عنه أمام الله وأمام الأمة، وهو العمل للإسلام والقرآن الذي يرى أن الأمة الإسلامية قد فرطت كثيرًا في حقه، ولم تعطِه من العناية ما هو أهل له، وهو كتاب الله الذي أحكمت آياته ثم فُصِّلَتْ من لدن حكيم خبير.. {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. جعله الله منهاجًا للفرد، ودستورًا للأمة، وقانونًا للدولة، وضمن له الخلود والبقاء، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].ويجب على الأمة الآن أن تنقله إلى العالم، حتى تتحقق عالمية الإسلام الذي خاطب فيه رسوله فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. وقال عن هذا القرآن: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104]. فكيف يكون للعالمين، وقد نزل بلسان عربي مبين؟ لا يكون ذلك إلا بترجمة معانيه إلى لغات العالم.وقد فعل ذلك النصارى، فترجموا الإنجيل إلى لغات العالم الأصلية والتابعة، بل إلى لهجات العالم. مع أن دينهم في الأصل ليس دينًا عالميًّا، فإنما أرسل الله الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلى أقوامهم، ومنهم المسيح عيسى الذي أُرسل إلى بني إسرائيل، وهو قال في الإنجيل: إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة!!.فكيف بدين أعلن من أول يوم، ومنذ العهد المكي: أنه أرسل إلى الناس كافة. كما قال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28].عُنِي الدكتور المعايرجي بترجمات القرآن إلى لغات العالم المختلفة، فتتبع تاريخها، وعرف قيمة كل منها من الدقة والأمانة والموضوعية، وجمع من الترجمات المتنوعة من شتى اللغات ما كوَّن مكتبة علمية منقطعة النظير، ومن واجب الأمة أن تحافظ على هذه المكتبة وتنتفع بها، وأولى الناس بذلك هو دولة قطر التي عاش فيها المعايرجي، إلى أن لقي ربه رحمه الله.كان القرآن وخدمة القرآن، وتبليغ دعوة القرآن إلى العالم، هو الشغل الشاغل للدكتور المعايرجي في سنينه الأخيرة، وكان لا يلقى عالمًا كبيرًا، أو مفكرًا مرموقًا، أو مسئولًا ذا بال، إلا وحدَّثه عن القرآن، وواجبه نحو القرآن، ومسئولية الأمة عن القرآن.وكان هناك أمر يفكر فيه باستمرار، وبات يشغله بالنهار، ويحلم به بالليل، وهو ما سماه (الهيئة العالمية للقرآن الكريم).وكان يتعجب ويقول: إن هناك أمورًا ليس لها أهمية القرآن، ولا عشر معشاره، ومع هذا أنشئت لها مؤسسات وهيئات عالمية، أفلا يبلغ القرآن- وهو الآية الكبرى والمعجزة العظمى للإسلام ونبيه- مبلغ هذه الأمور؟!.وكيف لأمة يبلغ عددها مليارًا ستمائة مليون من المسلمين أو أكثر، لا تعطي الاهتمام الكافي اللائق لكتابها المقدس، الذي ختم الله به كتب السماء، وحفظه من كل تغيير وتحريف؟!.وقد كتب الدكتور المعايرجي كتابه عن القرآن وترجماته المتعددة، وواجب الأمة نحوه، وحلمه في إنشاء الهيئة العالمية لخدمته والدعوة إليه، والمحافظة عليه، وجعل عنوانه (الهيئة العالمية للقرآن الكريم)، وطلب إليّ أن أكتب له مقدمة، فكتبتها، استجابة لطلبه ووفاء بحقه، وتحقيقًا لأمله، وتنويهًا بمكانة هذه الهيئة التي يطلبها ويُلِحُّ في طلبها، وهي ليست بالأمر المستحيل، ولا الأمر الذي يشق تحقيقه مشقة بالغة، بل هو يسير على من يسّره الله عليه.ولقد ظل المعايرجي يسعى حثيثًا لدى المسئولين المعنيين في قطر، حول هذا الهدف المنشود، حتى تكونت لجنة برئاستي، تضم عددًا من المهتمين من الديوان الأميري، ومن الجامعة، ومن الأوقاف، وقد اجتمعنا مرات عدة، وناقشنا الأمر من وجوهه المختلفة، العلمية والتقنية والمالية، وما يتطلبه من قوى بشرية، ومن مقدرات مالية، وكتبنا بذلك تقريرًا موقعًا عليه من أعضاء اللجنة، قُدِّم إلى الديوان الأميري.ولكن للأسف لم تظهر نتيجة لهذا التقرير، وجُمد في الأدراج، برغم متابعة الدكتور له؛ إذ لم يجد أذنًا صاغية من المسئولين عن هذا الشأن في الديوان، ولم تتح فرصة لمقابلة الأمير لشرح هذا الموضوع له، وهو أهل لأن يهتم بمثله إذا اقتنع به.وكانت خيبة الدكتور المعايرجي كبيرة، وصدمته بإهماله قاسية، فقد وضع كل آماله وأحلامه في نجاح هذا المشروع، وقيام دولة قطر به، وهي أهل لذلك، ولكن قطر خيَّبت ظنه، وحطمت بقسوة حلم حياته، ومشروع مستقبله، فأصابه من الأسى والكدر ما أصابه، وأظلمت الدنيا في وجهه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، ودخل في حالة بائسة من الاكتئاب الشديد، وانقطع عن الناس، كما انقطع الناس عنه، لا يزور، ولا يُزار، ولم يكن يخرج من البيت، بل ظل فترة طويلة، لا ينزل من الدور الثاني، الذي هو مقيم فيه، إلى الدور الأول من المنزل، وكأنما هو محتجٌّ على الناس، في قطر، وفي غير قطر، على العرب، وعلى المسلمين في كل مكان، حيث خذلوه ولم ينصروه، وأعرضوا عن دعوته، ولم يجيبوه، وانعكست كآبة نفسه على صلابة جسده، فانهار هذا الجسد، تحت مطرقة الكآبة والهم والحزن.هذا مع أن شخصيته شخصية انبساطية، مرحة منفتحة، وليست شخصية انطوائية منغلقة، وهذا دليل على ضعف الإنسان، الذي وصفه الله بقوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]. وما زالت به الحال حتى دخل المستشفى، وأصيب بالشلل، الذي طال به، ولقي ما لقي منه من المعاناة، جعل الله ذلك كفارة لسيئاته، وزيادة في حسناته، ورفعًا لدرجاته، اللهم آمين.وأملنا في دولة قطر المعطاءة، التي أنشأت مؤسسات عديدة لتحقيق أهداف شتى: ألا تضن على مشروع المعايرجي في خدمة القرآن، وأن تنشئ هذه الهيئة العالمية، التي كان ينشدها أخونا وحبيبنا رحمه الله.فإذا لم تنهض قطر بمشروع المعايرجي- كما هو العهد والرجاء فيها- فإني أحيل الموضوع إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وأمينها العام د. أكمل الدين إحسان أوغلو، وقد كان صديقًا للمعايرجي، وهو على علم بمشروعه وأهميته، نرجو أن تتولى المنظمة القيام على هذا المشروع، ولن تعجز الأمة الإسلامية على كبرها وسعتها، أن تقوم بمشروع يخدم كتابها العظيم: القرآن الكريم.رحم الله حسن المعايرجي، وغفر له، وجزاه خيرًا عن الإسلام وعن القرآن العظيم.عبد العزيز الرنتيسيشهيد المقاومة وفلسطين والدعوة(1366 – 1425هـ = 1947 – 2004م)وفي 17 إبريل 2004م ودعنا فقيد أمتنا، وفقيد قضيتنا، وفقيد جهادنا، أخانا البطل المجاهد الصابر المصابر المرابط الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقد أصبح مقدر علينا أن نودع ما بين الحين والحين قائدا من القواد الذين حملوا الراية؛ ليذودوا عن حمى هذه الأمة، وعن حياضها، ويدافعوا عن مقدساتها، وعن هُويَّتها أمام هذه الهجمة الشرسة من أعدائها. ما بين الحين والحين نودع واحدا، وقد ودعنا قبله بأسابيع الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، وخلفه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في القيادة والشهادة.سجن عبد العزيز الرنتيسي في سجون الاحتلال أكثر من
2770
| 15 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ28 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني والأستاذ عادل حسين: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني المحدث الكبير (1333 - 1420هـ = 1914 - 1999 م): في 2 أكتوبر 1999م الموافق 22 جُمادى الآخِرة 1420هـ، توفي المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ويبدو أن هذه السنة هي سنة رحيل العلماء، علماء الشرع والدين عن هذا العالم، فقد ودعنا فيها عددًا منهم، ابتداء من العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ مناع القطَّان، والشيخ عطية سالم، والشيخ محمد المجذوب، وأخيرًا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المحدِّث الشهير، صاحب الكتب الحديثية التي شرَّقت وغرَّبت.كان الشيخ الألباني أحد كبار علماء الحديث في عصرنا، الذين اشتغلوا بتحقيق عدد من كتب الأحاديث وأخرجوها للناس، وألَّف كتبًا شتى، مثل (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، و(سلسلة الأحاديث الضعيفة)، و(صحيح الجامع الصغير وزيادته)، و(ضعيف الجامع الصغير وزيادته)، وكذلك صحيح كتب السنن الأربعة، (صحيح أبي داوود) و(ضعيفه)، و(صحيح الترمذي) و(ضعيفه)، و(صحيح النسائي) و(ضعيفه)، و(صحيح ابن ماجه) و(ضعيفه). و(صحيح الترغيب والترهيب)، وإن كان لم يكمله نشرًا، ولعله عنده مخطوط.وخدم المذهب الحنبلي بكتابه (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل)، فقد رأى أن المذهب الحنبلي- وهو مذهب أقرب ما يكون إلى الحديث- ليس فيه كتاب تخريج للأحاديث المذكورة في كتب فقهه، فالحنفية عندهم (نصب الراية لأحاديث الهداية)، والشافعية عندهم (تلخيص الحبير لتخريج حديث شرح الرافعي الكبير)، والمالكية عندهم تخريجات الموطأ، والحنابلة ليس عندهم، فاعتمد أن يخرِّج كتاب (منار السبيل)، وأخرجه في ثمانية أجزاء.وكذا أخرج (مختصر صحيح مسلم)، و(مشكاة المصابيح)، و(السنة لابن أبي عاصم).. وغيرها من الكتب.التقيت الشيخ ناصر الدين الألباني عدة مرات في حياتي، التقيت به أول مرة في المدينة المنورة، في حجتي الثانية في صيف سنة 1964م، وتناقشنا في قضية التصوير الفوتوغرافي، حيث أخذ علي أني أبيحه، كما أباحه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي وغيره من العلماء، والشيخ الألباني يحرمه تحريمًا قاطعًا، وقد ذكرت له الأحاديث الصحيحة التي استثنت من الصور "ما كان رقمًا في ثوب". وبيان العلة في التصوير: أنه "مضاهاة خلق الله". وهذا التصوير لا يضاهي خلق الله، بل هو خلق الله نفسه، انعكس على الورق، كما تنعكس الصورة في المرآة، ولا غرو أن يسميه أهل الخليج (عكسًا) ويسمون المصوِّر (العكَّاس) والصور (العكوس). ولكن الشيخ أصرَّ على رأيه، ولم يتزحزح قِيدَ شعرة.والتقيت به بعد ذلك في بيت الشيخ زهير الشاويش –في لبنان- صديقي وصديقه، وناشر كتبه، وإن اختلفا فيما بعد، وأظنه كان قد انتهى من تخريج أحاديث كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) و(مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام). وقد حييتُه على جهوده في خدمة السُّنَّة، ولا سيما في مجال التخريج والتصحيح والتضعيف، وتحقيق المصادر، ثم شكرته على عنايته بتخريج أحاديث كتبي. وقلت له: إنني ممن يدعون إلى ضرورة إيجاد قنطرة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ليكونا معًا في خدمة العلم ونصرة الشريعة بالحق، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل فقيه لا يشتغل بالحديث، وكل محدِّث لا يشتغل بالفقه.وكان من تفضُّله ولطفه: أن رحب بالتعاون بينه وبيني، باعتباره محدِّثًا مشهورًا، وباعتباري من المشتغلين بالفقه، ومن الدارسين للحديث. وشهدت في هذه اللقيا شيئًا من المعركة التي دارت بينه وبين العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.والتقيت به في الدوحة، وشهدت سجالًا علميًّا دار بينه وبين الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، رئيس المحاكم الشرعية في قطر، حول رأيه الشيخ المحمود في المهدي، وكان هذا السجال في بيت الشيخ ابن محمود، وحضرها الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد الله الأنصاري، بطلب من الألباني، ليُقنعه بصحة الأحاديث الواردة في شأن المهدي، أو بعضها، وكانت مساجلة بين الشيخين: الشيخ الفقيه والشيخ المحدِّث، وانتهت الجلسة بأن بقي كل منهما متمسِّكًا برأيه.والتقيت به في أكثر من مكان، وخصوصًا في المدينة المنورة، وكنا معًا عضوين في (المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) فكنا نلتقي في الجامعة، وفي منازل بعض من يدعوننا من المشايخ الكبار، كما كان لقاؤنا الطبيعي في المسجد النبوي الكريم.تخريجه لأحاديث بعض كتبي:خرج الشيخ الألباني أحاديث بعض كتبي ككتاب (الحلال والحرام)، وكتاب (مشكلة الفقر)، ولا شك أن تخريج العلامة الألباني لأحاديث كتبي، هو نوع من التكريم للكتاب وصاحبه، فعلماء الحديث من قديم لا يخرجون أحاديث الكتب التافهة أو المغمورة، إنما يخرجون الكتب التي لها قيمة ووزن علمي، وشهرة عند أهل العلم وجماهير الناس.وقد رأيت كتاب الشيخ الألباني: (غاية المرام) ورأيت ما حكم عليه بالضعف من الأحاديث.وأعترف للرجل بسعة اطلاعه وتبحره في علوم الحديث، ووصوله إلى الدرجة الرفيعة فيه، حتى أصبح بكثرة إنتاجه المحدث الأول. وإن كنتُ أختلف معه في بعض الأحيان في بعض ما يصحِّحه، وأختلف معه في بعض ما يصل إليه من اجتهادات فقهية، كقوله بتحريم الذهب المحلق على النساء، وقوله بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة، ونحو ذلك. وهو ليس معصومًا.والشيخ له أنصار كثيرون، وله خصوم أكثر، وخطأ العالم في بعض المسائل لا يسقط منـزلته، فالعالم كما قيل في الحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"( ). فالعالم المشهور إذا كان له بعض الأخطاء في فتاواه، فهذه الأخطاء لا تسقط منـزلته.لقد ودعت الأمة الشيخ الألباني، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعوضها عنه خيرًا، وأن يغفر له، ويتقبله في الصالحين، ويجزيه عن خدمة السنة، وعن خدمة العلم والدين خير ما يجزي به العلماء العاملين، والدعاة الصالحين. آمين.فارس الكلمة (الأستاذ عادل حسين)(ت: 1421هـ = 2001م){إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].لا عزاء لنا غير هذه الكلمة الربانية إزاء فواجع الدهر، التي تلاحقنا يوما بعد يوم، فنفقد عزيزا، ونودِّع حبيبا، وننشد بعده قول الشاعر:أفي كل يوم لي حبيب أودع؟ فلا أنا أقفوه ولا هو يرجع!لقد اتصل بي الإخوة في إسلام أون لاين بعد ظهر الخميس 15 مارس 2001م، وأبلغوني بالنبأ الفاجع الذي وصلهم في الحال: أن الكاتب المفكِّر المجاهد المعروف عادل حسين، قد ودع الحياة، ولقي ربه، بعد أن أصابه نزيف حاد، دخل علي أثره مستشفى مصطفى كامل بالإسكندرية، ولكن أجل الله إذا جاء لم ينفع دواء، ولم يُغنِ طبُّ الأطباء.إن الطبيب له علم يدلُّ به ما دام في أجل الإنسان تأخيرحتي إذا ما انتهت أيام مهلته حار الطبيب وخانته العقاقيروهكذا قُدِّر للفارس المغوار أن يترجَّل، بعد أن عاش سنواته الأخيرة ممتطيا جواده، حاملا رمحه، شاهرا سيفه، متنكبا قوسه، مالئا جَعبته بما قدر عليه من النبال، يرمي بها عن يمين وشمال، في أكثر من عدو، وأكثر من جبهة معادية، وقف لها بالمرصاد: الجبهة الصهيونية وعملائها، والجبهة الصليبية وفروخها، والجبهة الإلحادية ودعاتها، والجبهة العلمانية ورعاتها، وجبهة اللصوصية وحماتها، وجبهة النفاق وحراسها. وقد فتح النار علي هؤلاء وأولئك، لم يخشَ في الله لومة لائم، ولم يخَف في الحقِّ نقمة ظالم.وقد اتَّخذ من جريدة (الشعب) منبره الذي يطلُّ منه علي القرَّاء، واتَّخذ من قلمه سلاحه الذي لم يفل ولم يغمد، وظلَّ يتابع معاركه المتواصلة في سبيل الله والمستضعفين، لا يكاد يخرج من معركة وينفض غباره منها، إلا رأيناه يدخل في معركة أخري، وكأنه يحمل سيف خالد بن الوليد، أو سيف صلاح الدين الأيوبي!ولم يفتَّ في عضده، أو يثنِ من عزمه، أن بعض خصومه الذين ينازلهم، كانوا من رجال السلطة الكبار، ممن يعلم أن ظهره مسنود، وأن أزره مشدود، وأن قلاعه محروسة، ولكنه لم يعبأ بالقلاع ولا بحراسها، ولا بالظهر وحماته، وخاض معركته متوكِّلا علي الله، يردِّد بقلبه ولسانه ما كان يردده الخليل إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل).ولقد نصره الله في مواطن كثيرة، لعل أشهرها معركته مع وزير الداخلية الأسبق زكي بدر، الذي استطاع أن يفاجئه ويفاجئ الجميع بنشر خطابه الخطير، الذي تطاول فيه بلسانه البذيء علي عدد من أعلام الوطن من كلِّ الفئات، وأحرج الدولة، حتي أنها لم تجد بدًّا من إعفائه من منصبه، وكان ذلك نصرا لجريدة (الشعب)، ورئيس تحريرها يومئذ عادل حسين.وكانت آخر معاركه الفاصلة: معركة الرواية الشهيرة (وليمة لأعشاب البحر)، التي هيَّجت الرأي العام المصري من الإسكندرية إلي أسوان، وثار لها طلاب الأزهر وطالباته، ووقف معهم شيخ الأزهر ومدير جامعته ومجمع بحوثه، فقد تجاوزت هذه الرواية الحدود في الطعن في المقدَّسات، وفي قدس الأقداس، الله جلَّ جلاله، والقرآن ومحمد عليه السلام، كما خرجت علي كلِّ مألوف في رعاية الآداب والأخلاق.وكانت وقفة جريدة (الشعب) ورئيس تحريرها مجدي حسين، وأشهر محرِّريها عادل حسين، الأمين العام لحزب العمل الاشتراكي وقفة تاريخية، وهي التي ألهبت الشعور المصري العام ضدَّ الرواية وكاتبها، ولا سيما أن الذي تولَّي نشرها هو (وزارة الثقافة المصرية)، التي يفترض فيها ألا تنشر علي الشعب المصري إلا ما يتَّفق مع عقيدته ومسلَّماته الدينية والوطنية.وقد اعتقل عادل حسين، وابن أخيه مجدي حسين، إثر هذه المعركة، وجُمِّد الحزب، وأغلقت الصحيفة، وحُكم علي عادل حسين بغرامة عشرين ألف جنيه، وهو رجل يعيش علي الكفاف.ورغم إنصاف القضاء المصري للحزب وللجريدة، لم تلتزم السلطة بتنفيذ حكم القضاء. والعجيب أن (وزارة الثقافة المصرية) في مرحلتها الراهنة، أمست تتبنَّي ما كانت تنكره علي عادل حسين وإخوانه من قبل، وهو ما يُحمد لها ويحسب في ميزانها. وأصبحت تُهاجَم من قبل الكتاب اليساريين والعلمانيين، الذين طالما كالوا لها المديح والإطراء من قبل!لقد كان عادل حسين من رجال الفكر والقلم، وقد نذر حياته وقلمه لنصرة الحقِّ، والدفاع عن الشعب، وعن الحرية، وإعلاء كلمة الإسلام، والوقوف في وجه القوي المعادية له، المتربصة به. ووفَّي بما وعد، لم ينكص، ولم يهن، ولم يستكن لما أصابه في سبيل الله.وهو من أسرة اشتهرت بالكفاح والجهاد ضدَّ الاستعمار والطغيان من قديم، فشقيقه هو الزعيم الوطني الشهير أحمد حسين مؤسس (مصر الفتاة) وصاحب المواقف المشهورة في عهد الملكية وعهد الثورة. والشيء من معدنه لا يستغرب، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58].لقد عرفتُ عادل حسين منذ بضعة عشر عاما، حين زارني لأول مرَّة في منزلي بمدينة نصر بالقاهرة، ومعه صديق عمره ورفيق دربه المستشار والمفكر المعروف الأستاذ طارق البشري، وقد صحبهما إليَّ ليعرفني بهما صديق ثلاثتنا الأستاذ عبدالحليم أبو شقة رحمه الله، الذي كان من أحرص الناس علي التعرُّف إلي كلِّ ذي عقل حرٍّ، وكلِّ ذي ضمير حيٍّ، وكلِّ مَن يلمح فيه أن لديه قدرة علي خدمة الفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي، وتطويره إلي ما هو خير وأمثل.وعرفت من تاريخ عادل حسين أنه كان ماركسيا ملتزما، مناضلا جلدا عن مبادئها لسنين عدة، وقد دخل السجن وذاق مرارته مع زملاء له في عهد عبد الناصر من أجل الشيوعية، التي كان يراها مدافعة عن المستضعفين من العمال والفلاحين والطبقات المسحوقة في المجتمع، وأنها تقف ضد الاستعمار والإمبريالية المستكبرة في الأرض.فلما أنار الله بصيرته، وشرح صدره، ليقرأ الإسلام من جديد، فيما انتجته أقلام الم
27874
| 14 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ27 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن العلامة أبو الحسن الندوي رجل الأمة في الدعوة والتربية والثقافة والتاريخ (1333 — 1420هـ = 1914 — 1999م): في يوم الجمعة 23 رمضان 1420هـ الموافق 31 ديسمبر 1999م، توفِّي إلى رحمة الله تعالى، الشيخ الإمام أبي الحسن على الحسني الندوي رضي الله عنه، في يوم الجمعة، وفي رمضان، وفي العشر الأواخر منه،، وفي آخر يوم من أيام السنة الميلادية — التي يعتبر بعضهم هذه السنة آخر القرن، وإن كان آخر القرن في الحقيقة بعد سنة — في هذا اليوم ودعنا الشيخ أبو الحسن الندوي، ولقي ربه راضيًا مرضيًّا، إن شاء الله تبارك وتعالى.وقد كتبت عنه كتابا بعنوان (العلامة أبو الحسن الندوي كما عرفته)، قلتُ في مقدمته: (لم أكن أنوي في هذه الآونة خاصة أن أخرج كتابًا عنه، مكتفيًا بما كتبته عنه في مناسبات مختلفة.ذلك لأني في شغل شاغل، ووقت مزدحم بكثرة الأعمال والواجبات التي ضاقت بها الأوقات، وما كنت أحب أن أكتب عن شيخنا الحبيب، وأنا في هذه الزحمة، حتى أفرغ له، وأعطيه حقه، كما ينبغي له من مثلي.ولكنَّ أقدارًا دفعتني، لأصدر هذه الدراسة عن شيخنا الكبير رحمة الله عليه، وأن أعجِّل بها، ليسد ثغرة في هذا الجانب، وتفتح الباب لمن يزيد، فمجال القول ذو سعة.ولا سيما أني قد كتبت عن (ركائز فقه الدعوة) عند الشيخ، وحصرتها في عشرين عدًّا، ولم أتحدث بالتفصيل، إلا عن واحدة منها فقط، وتركت لمن بعدي من تلاميذ الشيخ وتلاميذي أن يكملوا ما بدأته.إن مهمة العلماء في الأرض كمهمة النجوم في السماء، هي هداية للسائرين، وشهب تنقض على الشياطين، وخصوصًا العلماء الربانيين المتميزين منهم الذين يعلمون ويعملون ويُعَلِّمُون، فهم ورثة الأنبياء حقًّا، يدعون إلى الله على بصيرة، ويقودون الناس إلى الحق عن بينة، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].ولقد كان الشيخ الندوي واحدًا من هؤلاء الأفذاذ، الذين بعثهم الله لهذه الأمة ليجددوا لها دينها، ويعيدوا إليها يقينها، وينهضوا بها لتؤدي رسالتها، ومن حق الشيخ أبي الحسن على من يعرفه من علماء الأمة ودعاتها وأدبائها، أن يكتبوا عن الشيخ، ويجلوا مآثره وفضائله، لتعرفه أجيال الأمة الصاعدة، وتتخذ منه أسوة وإماما. وبهذا يتواصل الأبناء والآباء، والأحفاد والأجداد، والخلف والسلف).الشيخ العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، أحد العلماء الربانيين، الذين يعْلَمُون ويَعْمَلُون ويُعلِّمون، ويدعون إلى الله على بصيرة، من بقية السلف، كأنما أُخِذ من عصور السلف الصالحين الماضين، وجيء به إلى هذا العصر.كان الشيخ الندوي أحد العلماء والدعاة الأفذاذ في هذا العصر، تلقى العالم الإسلامي كتبه بالقبول، ابتداء من كتابة الفريد الشهير (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وهذا الكتاب أول ما عرفه به العالم العربي، فيه نظرة تاريخية حضارية شمولية إلى الإسلام وأمته وحضارته وثقافته وتاريخه.نظرة جديدة للتاريخ من خلال رؤية إسلامية، فهو يرى أن العالم خسر خسارة كبيرة بتخلف المسلمين عن قيادة ركب الحضارة. حينما قاد المسلمون ركب الحضارة الإسلامية قدموا للإنسانية رسالة حضارية متوازنة، تجمع بين العلم والإيمان، بين الرقي المادي والسمو الروحي والأخلاقي. رسالة وصلت الأرض بالسماء، وجمعت بين العقل والقلب، ومزجت الروح بالمادة، ووازنت بين حق الفرد ومصلحة المجموع. ووضَح فيه كيف كانت حال أوروبا، عندما كان المسلمون في القمة كانت أوروبا في الحضيض.وبيّن كيف كانت الحالة الدينية، حالة الرهبان، فذكر من قساوة الرهبان في تلك العصور، الذين كانوا ينفرون من المرأة، ولو كانت المرأة أمة أو أخته، بل من ظلها، حتى قالوا: ظلها من الشيطان. وكانوا يعتبرون أن القذارة مما يقرب إلى الله، والنظافة من عمل الشيطان، وذكر فيه معلومات هائلة.كما ذكر أن الذي أضاع المسلمين، هو تضييعهم الجهاد والاجتهاد، كانوا أقوياء في الجهاد، وقادرين على الاجتهاد، ثم ضعفوا في الاجتهاد، ثم قعدوا عن الجهاد، فأضاعوا القوة المادية والقوة العقلية، واحتلتهم القوى الأخرى.وأكد الشيخ من خلال كتابه أنه لا خلاص للمسلمين إلا بالرجعة إلى الإسلام، رجعة صحيحة، ولابد للعالم العربي أن يأخذ مكانه في قيادة الأمة الإسلامية.قال: إن محمدًا رسول الله هو رُوح العالم العربي، وإن العالم العربي إذا تخلى عن محمد رسول الله، فلن تكون له قيادة. وهذه هي خلاصة هذا الكتاب الجليل، الذي يُعْتَبَرُ أول ما قرأناه للشيخ الندوي.لقاءاتي بالشيخ أبو الحسن الندوي:في يناير سنة 1951م، قام العلامة أبو الحسن الندوي بزيارة إلى مصر، وكنت طالبا حينها في كلية أصول الدين، وكنت قد قرأت كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وقد أعجبت بالكتاب، ودللت عليه بعض الأصدقاء ليقرؤوه، وإن كنت لا أعرف عن صاحبه شيئًا إلا أنه عالم هندي مسلم، والكتاب فيه نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى التاريخ العالمي من منظور إسلامي، وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية، يعرف التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته، وقد ساعده على ذلك معرفته باللغة الإنجليزية، كما ساعده الحس النقدي، والحس الحضاري، والحس الدعوي، والحس الإصلاحي — وكلها من مواهبه — على تقديم هذه النظرة الجيدة من خلال كتابه الفريد.اتصل بي بعض الإخوة من الطلاب الهنود الذين يدرسون في مصر، وقالوا لي: هل تعرف الأستاذ أبا الحسن الندوي؟ قلت لهم: أليس هو صاحب كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)؟ قالوا: بلى، قلت: وما شأنه؟ قالوا: سيصل إلى القاهرة يوم كذا. قلت: أرجوكم أن توصلوني إليه عند حضوره.كان الشيخ ومن معه يسكنون في شقة متواضعة في زقاق من أزقَّة شارع الموسكي بحي الأزهر؛ فالشيخ لا يقدر على سُكنى الفنادق، ولا يحبها إن قدر عليها، وفي اجتماعات مجلس رابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية يَدَع الفنادق التي ينزل فيها الضيوف، وهي من فنادق الدرجة الأولى، وينزل عند بعض إخوانه.كما أنه يرفض النزول ضيفًا على بعض الكبراء من الأغنياء والموسرين؛ لعل ذلك للشبهة في أموالهم، أو لئلا يكون أسيرًا لإحسانهم.كان الشيخ حين زار مصر في شَرْخ الشباب؛ لحيته سوداء، ووجهه نضر، وعزمه فتيٌّ، وروحه وثَّابة، وغيرته متوقدة.. كان يحمل حماس الشباب، وحكمة الشيوخ، يحمل فكر العالم الموفق، وقلب المؤمن الغيور في آنٍ واحد.وما هي إلا أيام حتى حضر الشيخ، ومعه اثنان من إخوانه ورفقائه الندويين.ذهبت لزيارة الشيخ في مسكنه المتواضع أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش مراد (رحمه الله) رفيقي في الدراسة، ورفيقي في الدعوة، ورفيقي في المحنة، ورفيقي في السكن، ودعوناه إلى بيتنا في شبرا؛ ليلتقي ببعض إخواننا من شباب الأزهر الملتزمين بالدعوة في صورة ما يسميه الإخوان (كتيبة)، وهو تعبير عن ليلة جماعية تقضى في العلم والعبادة والرياضة، وقليل من النوم، وكان الشيخ حريصًا على أن يستمع منا كما نستمع إليه؛ فكان يسأل عن حسن البنا وكلامه وطريقته، ومواقفه وتصرفاته في الأمور المختلفة، كبيرة كانت أو صغيرة؛ وهو ما كون معه فكرة عن الشيخ البنا، وأنه كان (إمامًا ربانيًّا) بحق، ولم يكن مجرد زعيم يطالب بحكم إسلامي، بل كان قبل كل شيء (مربيًا) يريد أن ينشئ للإسلام (جيلًا جديدًا) يحسن الفهم له، والإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.وتكرر لقاؤنا معه، ولقاؤه معنا، نحن شباب الدعوة الإسلامية (أنا، والأخ أحمد العسال، والأخ الدمرداش، والأخ مناع القطان، والأخ عبد الله العقيل... وآخرون).كانت أيام الشيخ أبي الحسن في مصر أيامًا خصبة مباركة، لا يكاد يخلو يوم منها عن محاضرة عامة يُدعى إليها، أو درس خاص يُرتَّب له، أو لقاء خاص يُعد له. ألقى محاضرة تحت عنوان (المسلمون على مفترق الطرق) في دار الشبان المسلمين — على ما أذكر —، وعقّب عليها الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ الغزالي. كما ألقى محاضرة عن (محمد إقبال شاعر الإسلام في الهند) في كلية دار العلوم، كان لها تأثيرها ودويُّها، والشيخ من المعجبين بشعر إقبال، ويحفظ منه الكثير الكثير، وقد أخرج كتابًا عنه بعنوان (روائع إقبال).والتقى الشيخ في القاهرة بكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وسجَّل عنهم ملاحظاته الدقيقة في كتابه الذي أصدره بعد رجوعه (مذكرات سائح في الشرق العربي).التقى بالأديب الكبير الناقد الشهيد سيد قطب، وأعجب به الشهيد، وكتب مقدمة أخرى لكتابه (ماذا خسر العالم...؟) أنصف فيها الكتاب وصاحبه، وقدره حق قدره.والتقى كثيرًا بالشيخ محمد الغزالي، ورافقه في بعض رحلاته الدعوية، وأعجب كل منهما بصاحبه، وكتب عنه الشيخ في (مذكراته) تلك.وأذكر أن الشيخ الندوي كان قد اصطحب معه عدة رسائل من أوائل كتاباته الإسلامية الدعوية، وهي جملة رسائل تعبر عن حس رقيق، وفكر عميق، وبيان أنيق، وعن رهافة الحاسة الأدبية، وعمق الحاسة الروحية عند الشيخ.وأذكر أن الشيخ الغزالي قرأها ومنها رسالتان؛ إحداهما: (من العالَم إلى جزيرة العرب)، والأخرى: (من جزيرة العرب إلى العالَم). وفيهما يستنطق الشيخ ما يريده العالَم من الجزيرة من الهدى ودين الحق، وهو ما قدمته الجزيرة قديمًا للعالَم، وردُّ الجزيرة على هذا.قال الغزالي معقبًا: (هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه!.لقد وجدنا في رسائل الشيخ لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتًا إلى أشياء لم تكن نلتفت إليها. إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر (رضي الله عنه) أمام رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.أبو الحسن الندوي — فيما أعلم — هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت).وقد لقي الشيخ أستاذنا البهي الخولي، وقد أعجب به الأستاذ البهي غاية الإعجاب، وسجّل ذلك في رسالة سطرها إليه، كما لقي الأستاذ صالح عشماوي وغيره من قادة الإخوان، وجلس إليهم وتحدث معهم حديثًا نشره في رسالة بعد ذلك، عنوانها: (أريد أن أتحدث إلى الإخوان المسلمين).ولقي كذلك أستاذنا العلامة الدكتور محمد يوسف موسى، وقد كتب له مقدمة لكتابه (ماذا خسر العالم...؟).كما لقي الأديب الداعية الشيخ أحمد الشرباصي، الذي سجل معه مقابلة عن سيرته نشرت في مقدمة (ماذا خسر العالم...؟).ومما ذكره في هذه المقابلة: أنه سُئل عن أغرب ما رآه في مصر؟ فكان جوابه: إني وجدت العلماء حليقي اللحى!ولا ريب أن هذه صدمة شديدة لعالم لم يرَ في حياته في وطنه عالمًا واحدًا حليقًا، وحلق اللحى عندهم من شأن المتفرنجين، والبعيدين عن الدين، أما أن يكون هذا هو الطابع العام للعلماء في بلد، فهو الشيء الغريب! ومن العجب أن بعض شيوخ الأزهر المتحمسين لإعادة الأزهر إلى مكانته القديمة يحاولون أن يفرضوا على الطلبة لبس العمامة، وهي مجرد تقليد! ولا يفكرون أن يفرضوا عليهم إطلاق اللحية، وهو سنة إسلامية بلا ريب!.رحلات الندوي في ريف مصر:ولم يكتف شيخنا بالنشاط والحركة في مدينة القاهرة على سعتها، بل امتد إلى مدن أخرى، سمعت بالشيخ، فدعته إلى زيارتها ولقاء الجمهور المسلم فيها.ومن ذلك: مدينة (المحلة الكبرى) التي كنت أخطب في أحد مساجدها، وقد دون ذلك الشيخ أبو الحسن في كتابه مذكرات سائح، فقال: (الأخ يوسف القرضاوي، والأخ محمد الدمرداش، من طلبة الأزهر ومن الإخوان المسلمين، يتوقدان حماسة وغيرة وذكاء، وهما من الشباب الذين تقر بهم العين، ويقوي الأمل في مستقبل الإسلام في هذه البلاد، وكم في الإخوان من أمثال هؤلاء الشباب، ولو لم تكن للإخوان حسنة غير بعث الحياة الدينية، وإشعال العاطفة الإسلامية في الشباب الإسلامي وتوجيههم إلى الدين لكفاها فخرا وغبطة).وقد دعاه إلى المحلة الدكتور محمد سعيد (رحمه الله) رئيس الجمعية الشرعية بمدينة المحلة، وقد عرف الشيخ أن بينه وبين الإخوان شيئًا؛ فهو يأخذ عليهم أنهم لا يلتزمون بالآداب التي يلتزمونها هم من إعفاء اللحية، وإحفاء الشارب، وإرخاء العذبة (إطالة طرف العمامة)، وإطالة الصلاة. وقال الشيخ للدكتور: إن دعوة الإخوان دعوة عامة، مهمتها أن تجمع الجماهير على الأصول الكلية للإسلام، ثم تربيهم بالتدريج على الآداب الخاصة. ولابد أن يكون في الأمة المنهجان: النهج العام للإخوان، والنهج الخاص للجمعية. واستراح الدكتور سعيد (رحمه الله) لكلام الشيخ، ودعاني معه على الغداء عنده.ولكن سرعان ما كاد هذا يذهب هباءً، عندما ذهبنا مع الشيخ إلى بلدة (نبروه) وتكلمت كلمة أغضبت الدكتور سعيد غفر الله لنا وله، ولا أدري: لماذا؟ ولكن الشيخ تدارك الموقف بهدوئه وحكمته، وبات الناس تلك الليلة في المسجد سُجَّدًا وقيامًا، بدعوة من الشيخ، واستجابة كثيرين من الحضور.كانت زيارة الشيخ لمصر هي بداية لقائي به، ومعرفتي به، ثم زادت الأيام تلك المعرفة قوة على قوة.
2822
| 13 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ25 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتَوا لا يفتُون بعلم، وإذا قضَوا لا يقضون بحق، وإذا دعَوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبدالله بن عمرو: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتَوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه). ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار، بكلمات رثاء، أبيّن فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة، أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسَوا (نجوم المجتمع)!.وأسفٌ آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباهَهم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم، ولا أمواتهم!! وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي العلامة أحمد بن حجر آل بوطامي والإمام محمد أبو زهرة: العلامة أحمد بن حجر آل بوطاميالقاضي الفقيه الداعية المعلم(حوالي 1335 ـ 1423هـ = 1915 ـ 2002م) الشيخ أحمد بن حجر أحد العلماء العاملين، والدعاة الصادقين في دعوتهم إلى الله، عاش عمره للعلم وللدعوة، وللقضاء وللتعليم وللإفتاء، وكان سلفي العقيدة، عالمًا بالشريعة، قاضيًا بالحق، هكذا عرفه كل من عاشره واتصل به. وهو أحد المؤسسين للقضاء الشرعي في قطر بعد العلامة الشيخ عبدالله بن زيد المحمود (رئيس المحاكم الشرعية وقاضي قطر الأول).. عرَفتُ العالم العامل، والقاضيَ الفاضل، الشيخَ أحمد بن حجر منذ قدِم إلى قطر، منذ نحو سبع وثلاثين سنة، وعرَفه كذلك الخاصَّة والعامَّة، من علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والعمل، والغَيرة على الإسلام، والدفاع عن عقيدته وشريعته، وعن قرآنه وسنَّةِ نبيَّه عليه الصلاة والسلام. كما عرَفتُ من مزاياه: أنه رجل طُلَعة، يحبُّ القراءة، ويحرص على الاطِّلاع، ولا يدَّعي أنه عرَف كلَّ شيء، بل يطبِّق ما قاله السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد. ولا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنَّ أنه علم فقد جهل. ولا يسمع بكتاب علميٍّ له قيمة ظهر في السوق، إلا سارع إلى اقتنائه، ولذا تجد مكتبته عامرةً بالكتب، حافلةً بالمراجع القيِّمة، في كلِّ جوانب المعرفة الإسلامية. وقد عاش العلَّامةُ الشيخُ ابنُ حجر طوال عمره في خدمة الإسلام، قاضيًا يحكم بالشرع، وخطيبا يَصْدَعُ بالحقِّ، ومصنِّفا يطارد الباطل، فقد جنّد قلمه كما جنَّد لسانه لبيانِ المعارف الشرعية الصحيحة، والردِّ على أباطيل خصوم العقيدةِ والشريعة، يفنِّد الشبهات، ويدحض المفتريات، ويتعقَّب المنحرفين، يكشف سِترهم ويفضح زِيفهم.هكذا رأيناه يردُّ على مَنْ تطاول على عقيدة السلف؛ يردُّ على القاديانية ونِحلتها الضالَّة. ويردُّ على مَن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب في أواخر حياته.ويردُّ على مَن دعا إلى التمذهب والتعصب والتقليد. ويردُّ على مَن لعن الصحابة والتابعين.. وبلغت مؤلفاته الثمانية والعشرين مؤلفًا، بعضها في تصحيح العقيدة، وبعضها في فقه الشريعة، وبعضها في الدعوة، منها: الدُّرر السنية في عقد أهل السنة المرضية (منظومة). جوهرة الفرائض (منظومة)، اللآلئ السَّنِيَّة في التوحيد والنهضة والأخلاق المَرْضِية (منظومة)، شرح العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية، تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران، الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب، الرد الشافي الوافي على من نفى أُمِيَّة سيد الأوائل والأواخر.. وغيرها. وقد قدمتُ له كتاب القول (المجتبى في تحريم الربا).. شاء الله للشيخ ابن حجر أن يقضي السنوات الأخيرة من عمره على فراش المرض، وافته المنية صباح الثلاثاء الخامس من جمادى الأولى سنة 1423 هـ الموافق 14 /6 /2002 م عن عمر ناهز ثمانية وثمانين عامًا، والألسنة تُثني عليه، وتدعو له، وتترحم عليه، والكل يقول: رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الصادقين الصالحين، والعلماء العاملين، والدعاة الربانيين، وجزاه الله عن العلم، وعن الإسلام، وعن قطر، خير ما يجزي به المؤمنين الصادقين. الإمام محمد أبو زهرةالعلامة الفقيه المفسر المؤرخ الداعية(1315 ـ 1394 هـ = 1898 — 1974م)رغم حبِّي وإجلالي للشيخ، وأنه بَلَديِّي، فهو مثلي من أبناء مركز المحلة الكبرى، محافظة الغربية، إلا أنه لم يُتَح لي أن ألقاه إلا مرَّة واحدة، في مدينة البيضاء في ليبيا سنة 1972م، في ندوة التشريع الإسلامي، التي دُعي إليها عددٌ من العلماء والفقهاء من أنحاء الوطن العربي، وكان الشيخ بحقٍّ نجمَ الندوة الساطع، بتعليقاته الدقيقة، واستدراكاته العميقة، التي كان يتدفَّق بها كالبحر، ويتألَّق فيها كالبدر، وقد تعرَّف عليَّ في هذه الندوة، وانعقدت بيني وبينه مودَّةٌ، لم تطُل، فقد اختاره الله إلى جواره بعد وقت قريب، رحمه الله تعالى، وغفر له، وتقبَّله في الصَّالحين.عرَفت الشيخ (أبو زهرة) أستاذًا للشريعة في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، مع رفيقيه العلاَّمتين: الشيخ علي الخفيف، والشيخ عبدالوهاب خلاَّف.. وعرَفناه عضوًا عاليَ الصوت في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، منذ إنشائه.وعرَفناه مؤلِّفًا موسوعيًّا في جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية، فألَّف في العقائد ومقارنة الأديان (محاضرات في النصرانية)، وألَّف في الخطابة والجدل، وألَّف في السيرة النبوية (خاتم النبيين)، وألَّف في علوم القرآن، وفي تفسير القرآن، تفسيره في تسعة مجلدات، انتهى فيه إلى سورة النمل، وألَّف في تاريخ المذاهب الإسلامية، وفي أصول الفقه، والأحوال الشخصية، والجريمة والعقوبة، وفي الزكاة والمجتمع الإنساني في ظلِّ الإسلام، وغيرها من جوانب الفقه.واشتهر بكتبه عن الأئمة الفقهاء: الأئمة الأربعة، والإمام الصادق، والإمام زيد، وابن حزم، وابن تيمية: حياتهم، وعصرهم، وآرائهم وفقهِهم. وقد أبدع فيها وأجاد، وأصبحت مراجع معتمدة للباحثين في موضوعاتها من أنحاء العالم.لم يشتهر الشيخ أبو زهرة كثيرًا في الأوساط العلمية بالفتوى، كما اشتهر الشيخ شلتوت مثلًا، ولم يقُم هو بجمع ما نُشر له من فتاوى على صفحات مجلة (لواء الإسلام)؛ لأنها في الواقع كانت في معظمها إجابات شفهية مقتضبة، تحتاج إلى تنقيح وتحرير.. وكانت الندوات هي الميدان الذي يصولُ فيه الشيخ ويجول، ويُبدي رأيه بكلِّ صراحة، ويناقش آراء الآخرين، ويعارضها بكلِّ حرية، بشخصيته القوية، وقدرته على الإقناع، وبتأثيره، وصوته الجهوري، في مجلس يضمُّ نخبة من أهل العلم، يصدرون بعد البحث والمناقشة عن رأي واحد، هو أقربُ ما يكون إلى الاجتهاد الجماعي، الذي ندعو إليه، والذي رأيناه يتجسَّد أحيانًا في المجامع الفقهية والعلمية.رأيه في الرجم، وحِواري معه:وفي ندوة التشريع الإسلامي في مدينة البيضاء بليبيا، فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد.. وقصة ذلك: أن الشيخ ـ رحمه الله ـ وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأياً فقهياً في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبدالعزيز عامر، واستشهد به قائلاً: أليس كذلك يا دكتور عبدالعزيز؟ قال: بلى. قال الشيخ: وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟هذا الرأي يتعلق بقضية (الرجم) للمُحْصَن، في حد الزنى، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة:الأول: أن الله تعالى قال في سورة النساء: "فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ" [النساء:25]. والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].. والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبدالله بن أوفى: أنه سئل عن الرجم؟ هل كان بعد سورة النور أو قبلها؟ فقال: لا أدري.. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها.. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا، ثم نسخت تلاوته، وبقي حكمه: أمر لا يقرِّه العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفة فجاءت الداجن وأكلتها: لا يقبله منطق.وما أن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه، حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه.. وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟.. قلت: جاء في الحديث الصحيح: "البكر بالبكر: جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة". قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال.. وعلى هذا نقول في الشق الثاني من الحديث: إن الحد هو الجلد، والرجم سياسة وتعزير، مثل التغريب والنفي، فنثبت ما جاءت به الروايات من الرجم في العهد النبوي، فقد رجم يهوديين، ورجم ماعزًا، ورجم الغامدية، وبعث أحد أصحابه في قضية امرأة العسيف، وقال له: "اغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". وكذلك ما روي أن عمر رجم من بعده، وأن عليًا رجم كذلك. ولكنا نفسر هذه الوقائع على أنها لون من التعزير والسياسة الشرعية.. ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبدالله الرحمة المهداة، يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهي أليق بقساوة اليهود.وكان رأي الشيخ مصطفى الزرقا مع الجمهور، ولكنه يخالف الجمهور في تعريف (المُحْصَن) فعندهم: أن المُحْصَن من حصل له الزواج، وإن فارقته زوجه بطلاق أو وفاة، وبات في واقع الحال لا زوجة له، وعند الزرقا: المُحْصَن: من له زوجة بالفعل. وهذا رأي الشيخ رشيد رضا ذكره في تفسير المنار.توقفت طويلاً عند قول الشيخ أبي زهرة عن رأيه: أنه كتمه في نفسه عشرين عاما: لماذا كتمه، ولم يعلنه في درس أو محاضرة أو كتاب أو مقالة؟ لقد فعل ذلك خشية هياج العامة عليه، وتوجيه سهام التشهير والتجريح إليه، كما حدث له في هذه الندوة. وقلتُ في نفسي: كم من آراء واجتهادات جديدة وجريئة تبقى حبيسة في صدور أصحابها، حتى تموت معهم، ولم يسمع بها أحد، ولم ينقلها أحد عنهم!!. ولذلك حين تحدثت عن معالم وضوابط الاجتهاد المعاصر، في كتابي (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) جعلت منها: أن نفسح صدورنا للمخطئ في اجتهاده، فبهذا يحيا الاجتهاد ويزدهر، والمجتهد بشر غيرُ معصوم، فمن حقه ـ بل من الواجب عليه ـ أن يجتهد ويتحرى ويستفرغ وسعه، ولا يلزمه أن يكون الصواب معه دائمًا، وما دامت صدورنا تضيق بالرأي المخالف للجمهور، فلن ينموَ الاجتهاد، ولن يؤتيَ ثمراته.. على أن ما يحسبه بعض الناس خطأ، قد يكن هو الصواب بعينه، وخصوصًا إذا تغير المكان والزمان والحال.. ويبدو أن هذه الحملة الهائجة المائجة التي واجهها الشيخ أبو زهرة، جعلته يصمت عن إبداء رأيه، فلم يسجله مكتوبًا بعد ذلك. وربما لأن الشيخ الكبير لم يعمر بعد ذلك طويلًا، فقد وافته المنية في شهر أبريل سنة 1974م، عليه رحمة الله ورضوانه.. وقد رأيت الشيخ نسب هذا الرأي في كتابه "العقوبة" إلى الخوارج، واستدل لهم بما ذكره في ندوة ليبيا، وأعتقد أن ذلك كان أسبق من الندوة.في زيارة القذافي:بعد أن انتهت الندوة، قالوا لنا: أنتم مطلوبون للقاء العقيد القذافي قائد الثورة في مدينة طرابلس، فاستعدوا للذهاب إلى بني غازي، ومن هناك، ستأخذنا طائرة خاصة إلى العاصمة طرابلس، وقد وصلنا في حوالي العاشرة مساء، ثم نُقلنا إلى مقر مجلس الثورة، لننتظر نحو نصف ساعة، حتى حضر العقيد، ومعه اثنان من القادة، أحدهما يجلس عن يمينه، وهو عبدالسلام جلود نائبه، والثاني: لا نعرفه.. وكان يصحبه بعض المدنيين، منهم الأستاذ إبراهيم الغويل المحامي، ومنهم صحفي يساري، اسمه: صادق نيهوم، كان كأنه المتحدث باسمه، وهو علماني، جريء، طويل اللسان!! وقد أثار القذافي موضوعات شتى، وتطرق الحديث إلى العلماء ودور العلماء، وعزلة العلماء عن المشاركة في توجيه المجتمع، وتحدث الإخوة المشايخ: أن العلماء لا يتأخرون عن القيام بواجبهم، إذا فتح الباب لهم، وأتيح لهم أن يبينوا للناس شرع الله. وقلت في ذلك: إن العلماء مستعدون أن يكونوا خدماً لمن يخدم الشريعة!! وهنا قال الشيخ أبو زهرة: إننا لسنا خدماً لأحد كائنا من كان.قلت: يا مولانا، إننا خدم لمن يخدم الشريعة، فخدمتنا في الحقيقة إنما هي للشريعة. قال: نحن سادة ولسنا خدماً! وهكذا كان الشيخ رحمه الله معتزًّا بنفسه، وبعلمه، ولا يفرِّط في كرامة العلم، ولا بأدنى كلمة.. وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال وبكل ما يحمد عليه، توفي الشيخ سنة 1394هـ الموافقة 1974م تاركًا تراثًا خالدًا، وذكرى عطرة ومواقف مشرفة.. رحمه الله رحمة واسعة، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
3516
| 11 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ22 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف وشئون الأزهر ورئيس جامعة الأزهر الأسبق (1325 - 1405هــ = 1907 - 1985م): أحمد حسن الباقوري، أحد علماء الأزهر الشريف، وأحد الخطباء المعدودين في العالم العربي، من الأعضاء السابقين في دعوة الإخوان المسلمين، ولد في قرية باقور بمحافظة أسيوط، وإليها ينسب.التحق- كعادة الناس وقتها - بكُتَّاب القرية، وبعد إتمامه حفظَ القرآن التحق بمعهد أسيوط الديني.حصل الباقوري على الشهادة الثانوية عام 1928، ثم التحق بالقسم العالي، وانتقل إلى القاهرة عام 1929م، وحصل منه على شهادة العالمية عام 1932، ثم حصل على شهادة التخصص في البلاغة والأدب عن رسالته (أثر القرآن في اللغة العربية).وبعد تخرجه عين مدرساً للغة العربية وعلوم البلاغة في معهد القاهرة الأزهري، ثم نقل مدرساً بكلية اللغة العربية، وبعدها نقل وكيلا لمعهد أسيوط العلمي الديني، ولم يلبث أن نقل وكيلا لمعهد القاهرة الديني الأزهري عام 1947، وفي سنة 1950عين شيخا للمعهد الديني بالمنيا.انضم إلى حركة الإخوان المسلمين سنة 1933، وهو طالب في الأزهر، وكان أحد قيادات الإخوان، ثم عضو مكتب الإرشاد، وكان أحد المرشحين بقوة لخلافة الإمام حسن البنا. قيادته لثورة الأزهر:كان الشيخ الباقوري طوال حياته من طلاب الأزهر النابهين، وكان خطيبا مفوها، وشاعرا مجيدا، وقد اختاره طلاب الأزهر قائدًا لثورتهم سنة 1940، حين ثاروا على مشيختهم المفروضة عليهم من قبل الملك، الذي أقال شيخهم الأكبر القريب منهم والمحبب إليهم: الشيخ محمد مصطفى المراغي.ثار الأزهر على الظلم الواقع عليه، فقد كان العالِم من خريجي الأزهر في أي من كلياته يُعيَّن براتب قدره ثلاثة جنيهات في معاهد الأزهر، وكان معلم المدرسة الإلزامية خريج مدرسة المعلمين الابتدائية يعيَّن بأربعة جنيهات، ولم يجد الأزهريون شيخًا يتبنَّى مطالبهم غير الشيخ المراغي، وهو من الشيوخ الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، فثاروا مطالبين بتحسين أوضاعهم، وإعادة شيخهم المراغي لقيادة سفينة الأزهر.ومما ينسب إلى الباقوري من الشعر في هذه الثورة قوله:ثورةَ الأزهر، أرخصنا الدماء فكلي الأرض وثنِّي بالسماء!وانتصرت ثورة الأزهر التي لمع فيها اسم الباقوري زعيم الثورة، حتى أطلقت الصحفية نعم الباز لقب (ثائر تحت العمامة) على الشيخ الباقوري، في دراسة لها عن الباقوري ومواقفه وحياته، فلم تجد عنوانًا يعبر عن مواقفه إلا هذا العنوان، وبعد عودة الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر دعا الشيخ أحمد حسن الباقوري، وقدم له هدية منه " تقديراً منه لجهوده في إعادته للأزهر.وأصهر الباقوري إلى أحد كبار علماء الأزهر، وهو الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، فقد تزوج ابنته، وأنجب منها ثلاثَ بنات. ثم أصبح الشيخ دراز وكيلا للأزهر بعد ذلك، وهو من عائلة شيخنا العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز. الباقوري الأديب:كان الشيخ الباقوري إلى الأدباء أقرب منه إلى العلماء؛ لذا عرف بالخطابة والشعر، أكثر مما عرف بالفقه والبحث العلمي.وكان له شعر جميل كنا نحفظه، أناشيد تثير فينا مشاعر الحب والحماس للإسلام، ومنها النشيد المعروف:يا رسول الله هل يرضيك أنَّا إخوة في الله للإسلام قمناننفض اليوم غبار النوم عنا لا نهاب الموت لا بل نتمنىأن يرانا الله في ساح الفداءوهو النشيد الذي اعترض عليه بعض الإخوة السلفيين بأنه يخالف العقيدة الصحيحة؛ لأنه يوحي بأن العمل يكون لإرضاء رسول الله، لا لإرضاء الله.ورأيي أن الشيخ لا يقصد ما ذهب إليه هؤلاء، وإنما يريد أن يقول: هل يسرُّك يا رسول الله ويفرحك ويقر عينك: أُخُوَّتنا في الله، وقيامنا لنصرة دينك، والدفاع عن دعوتك؟.. إلخ.ولا أعلم أن شعر الباقوري جُمع إلى اليوم، وقد سمعته مرة وقد سئل عن شعره، فقال في تواضع: إنه من شعر العلماء، وشعر العلماء كعلم الشعراء.وأحسب أن هذا من جميل أدبه وتواضعه، فكثيرًا ما يكون للشعراء علم راسخ، كما يكون للعلماء شعر رائع، ومن هذا شعر الإمام الشافعي الذي لا يشك دارس في قيمته الأدبية، وعلو مستواه الفني. ومن ذلك قوله:أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبراهمتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفراوإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيدا وعمرا؟ الباقوري والإخوان المسلمون:وكان الشيخ الباقوري قد انضم إلى دعوة الإخوان المسلمين من قديم، وبايع الإمام حسن البنا على العمل لنصرة الإسلام، واستعادة مجده، وتحرير أوطانه، والتمكين له عقيدة ونظاما في حياة المسلمين، وكان عضوًا في الهيئة التأسيسية، ثم بعد ذلك في مكتب الإرشاد العام.وكان أول لقاء بيني وبينه وأنا طالب في معهد طنطا الأزهري، فقد سافرت مع بعض الإخوة إلى القاهرة لنلتقي الإمام البنا في المركز العام للإخوان المسلمين، وكنا مجموعة من طلاب الأزهر، وطلبنا إلى الإمام البنا أن يجلس إلينا، ولكنه قال لنا بأدب: كان يسعدني أن أجلس معكم، وأتحدث إليكم، ولكني للأسف مرتبط بموعد آخر، ولكني سأنيب بعض الإخوان ليجلس إليكم، ونادي الشيخ أحمد الباقوري لينوب عنه في الجلوس والحديث، وجلسنا معه جلسة طيبة، وهذا يدل على مكانته من الإمام البنا، وعلى ثقة الإمام البنا به.وعندما حل النقراشي جماعة الإخوان في ديسمبر 1948م، بلغني أن الأستاذ البنا أوصى بأن يكون الباقوري مسؤولًا عن الإخوان خارج المعتقل.وبعد استشهاد الإمام البنا كان اسم الباقوري أحد الأسماء المرشحة لقيادة الجماعة.وفي الانتخابات التي جرت بعد سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي وحزب السعديين، الذين عادوا الإخوان وافتروا عليهم : رشَّح الشيخ الباقوري نفسه في دائرة الخليفة بالقلعة، كما رشَّح عدد من الإخوان أنفسهم، وقد شهدته وهو يدور على أماكن التجمعات في الدائرة ويخطبفيها، وإن لم يحالفه النجاح في النهاية، شأنه شأن كل مرشحي الإخوان: مصطفى مؤمن، وفهمي أبو غدير، وطاهر الخشاب، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ على شحاته وغيرهم.وأذكر أني لقيته في تلك الفترة- بعد خروج الإخوان من المعتقلات- في محطة القطار بمدينة طنطا، فهرعت إليه، وسلمت عليه، وعرفته بنفسي، وسألته عن حال الإخوان، فتنفس الصُّعَداء، وشكا إلى الله من سوء الحال، وقال: خير للجماعة أن تكتفي بما أنجزت، وأن تقف عند هذا الحد، وتبقي على هذا التاريخ الناصع، بدل أن تكدر صفاءه بما لا يلائم تراث الجماعة ومواقفها الشامخة في قضايا الوطن والإسلام.وحين اختارت الجماعة الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًا، كان الباقوري أول من بايعه، وكان الهضيبي يصطحب الباقوري كثيرا في رحلاته إلى محافظات مصر، ويقدمه للحديث إلى الجماهير، وقد صحبته في رحلتين كان الباقوري رفيقهفي كلتيهما: إحداهما إلى مدينة السويس، والأخرى إلى كفر الشيخ.وكان الباقوري عضوًا في مكتب الإرشاد مع الأستاذ الهضيبي، حتى قامت ثورة 23 يوليو، وحين طلب جمال عبد الناصر ورجال الثورة من الإخوان أن يرشحوا أشخاصًا للوزارة ، رشَّح الأستاذ الهضيبي لهم ثلاثة لم يكن الباقوري بينهم، واختار رجال الثورة الباقوري ليتولى وزارة الأوقاف معهم، وأبدى الباقوري للهضيبي أنه راغب في الاستجابة لهم، وأن لديه أفكارًا وتطلعات في إصلاح المساجد والأوقاف، ولم يمانع الأستاذ الهضيبي في ذلك، ولكنه طلب إليه أن يدخل في الوزارة باسمه لا باسم الجماعة. وهذا يتطلب منه أن يقدم استقالته من الجماعة، وقد قبل.ومن مكارم الأستاذ الهضيبي أنه ذهب للباقوري في مكتبه يهنئه بمنصبه، وهذا يعني أنه لم يعتبر دخوله قطعًا لصلة المودة له، وقال له الباقوري: عفوًا يا مولانا. إنها شهوة نفس. فقال له الهضيبي: اشبع بها!ومما يذكر للباقوري ما نشرته جريدة (المصري) بتاريخ 11/ 9/ 1952م، فقد سأل مندوبها الشيخ عن أسباب استقالته من الإخوان، فكان جوابه: هي أسباب أحب أن أوثر نفسي بها. وليس من بينها سبب واحد يمس احترامي لإخواني، واعتزازي بهم، فكل واحد منهم- صغيرا كان أو كبيرا- في أعمق مكان في قلبي. الباقوري الوزير:انسجم الباقوري مع الثورة، وانسجمت معه الثورة، وكان خطيبها ولسانها المتحدث باسم الدين، وهو رجل حسن المظهر، حصيف الرأي، حلو اللسان، يحسن استقبال الناس، ويحسن الحديث إليهم، ويعرف متى يمسك لسانه، ومتى يطلقه، وفيم يطلقه.ومن حسناته: أنه ضم إليه مجموعة من الدعاة المعروفين، ووكل إليهم شؤون الدعوة والمساجد، والثقافة الدينية، وعلى رأس هؤلاء: أستاذنا البهي الخولي الذي ولاه منصب مراقبة الشؤون الدينية، وشيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي تولى منصب مدير المساجد، وشيخنا الشيخ سيد سابق، الذي تولى منصب مدير الثقافة، وكل هؤلاء من كبار دعاة الإخوان، والمقدمين فيهم.كما شهد الكثيرون من الإخوان أن الباقوري ما ذهب إليه من أعضاء الجماعة أحد يطلب منه عونًا أو خدمة في قضية، إلا لبَّى طلبه وقضى حاجته، ما دام يقدر عليها.الباقوري يدعوني إلى الوقوف ضد الانجليز والصهاينة :وبعد العدوان الثلاثي على مصر، بعد أن أمم عبد الناصر قناة السويس، جاءتني برقية من وزارة الأوقاف تطلب إلي أن أحضر بسرعة إلى القاهرة لأتسلم منبر الأزهر، لرفع الروح المعنوية في الشعب في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ مصر، وكان هذا بتوجيه من شيوخنا: البهي الخولي ومحمد الغزالي وسيد سابق، الذين أشاروا على الشيخ الباقوري أن يستدعيني للأزهر. بيد أني لم أتجاوب مع هذه البرقية، وقلت في نفسي: إنهم يستنجدون بي الآن، حتى إذا انكشفت الغمة طرحونا وراءهم ظهريا! ولما لم أرد عليهم كلفوا شيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي اعتلى منبر الأزهر، وظل يخطب فيه عدة سنوات، وقد كان الشيخ الغزالي يخطب في جامع الزمالك الكبير، فخلا مكانه، فأرسلوا إلي في القرية أحد الإخوة ليبلغني بضرورة الاستجابة إلى طلب الأوقاف، وإلحاحهم في أن أحل محل الشيخ الغزالي في مسجد الزمالك، واستجبت إلى رغبة شيوخنا، وسافرت إلى القاهرة، وتسلمت مسجد الزمالك لأخطب فيه، بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيها، وعرف الكثيرون ذلك فبدأ الناس يتوافدون على المسجد من أنحاء القاهرة وضواحيها، بل من خارج القاهرة أيضا، وظللت أكثر من سنة أخطب الجمعة بمسجد الزمالك، حتى بعد أن انتهت الحرب، ولاحظ رجال المباحث العامة أن المسجد أصبح يمثل مدرسة دعوية متميزة بخطبه، وبالحلقات التي أعقدها بعد كل خطبة أجيب فيها عن أسئلة الناس، وأمسى الناس يفدون إليه من كل صوب وحدب. وأخيرا ضاق صدرهم، ونفد صبرهم، فأجبروا الأوقاف أن تمنعني من الخطابة، فقد انتهت مهمتي بعد أن أصرت أمريكا على دول العدوان الثلاثي أن تجلو عن مصر، وهذا ما كنت أتوقعه منهم.
3471
| 09 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة : العشرون إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. وفي هذه الحلقة يتحدث الشيخ القرضاوي عن الدكتور عبد الحليم محمود وعبد الله المشد ود. علي جمّاز: شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمودرجل العلم والفلسفة والتصوف(1328 - 1397هـ = 1910 - 1978م)الشيخ عبد الحليم محمود من قرية أبو أحمد التابعة لمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، ولد في 2 من جمادى الأولى سنة 1328هـ الموافق 12 من مايو 1910م، والتحق بالأزهر، وحصل على الشهادة العالمية سنة (1932م)، ثم سافر على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي في باريس، ونجح في الحصول على درجة الدكتوراه في سنة (1940م). تدريسه لي مادة الفلسفة الإسلامية:كان الشيخ من أبرز من درسني في كلية أصول الدين، فقد درسني في السنة الثالثة مادة (الفلسفة الإسلامية) وقد اختار لنا كتاب الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق)؛ ليكون موضوع دراستنا، كما درَّس لنا فصلًا من كتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا، يتعلق بالتصوف.ودرسنا في السنة الرابعة: (فصولًا في التصوف في ضوء المنقذ من الضلال) لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، كما أعطانا فكرة عن فلسفة الأندلس، في ضوء (قصة حي بن يقظان) لابن طفيل، بالإضافة إلى نظرات في الفلسفة الحديثة، التي درسنا فصولًا منها في (النظريات الأخلاقية).كان الدكتور عبد الحليم في تلك الآونة، يلبس الحلة (البذلة) الإفرنجية، كما كان حليق اللحية، ولكنه كان رجلًا متصوفًا: فكرًا، وعاطفة، وعملًا، وكان لا يهتم بالمظاهر لا في نفسه، ولا في بيته.وقد زرته في بيته بضاحية الزيتون عدة مرات، وحدي أحيانًا، ومع الأخ عبد الودود شلبي أحيانًا، فكان بيته متواضعًا في أثاثه وفراشه، لا يليق برجل تخرج في فرنسا.وكان كثيرَ الصمت، لا يتكلم إلا قليلًا، وكان معجبًا بشيخه في فرنسا، وهو (رينيه جينو) أو (عبد الواحد يحيى)، وهذا اسمه بعد أن أسلم، وكان متصوفًا كبيرًا، وكثيرًا ما حدثنا عنه، وكتب عنه رسالة نُشرت.وقد عُيِّن بعد ذلك عميدًا لكلية أصول الدين، ثم تولى أمانة مجمع البحوث الإسلامية، ثم تولى وزارة الأوقاف، وصدر قرارٌ بتعيينه شيخًا للأزهر في (22 من صفر 1393هـ الموافق 27 من مارس 1973م. وكان من أبرز شيوخ الأزهر، الذين لهم مواقف تذكر، وإن أخذ بعض الناس عليه- وأنا منهم- في تصوفه ما أخذوا، مما قد يُعَدُّ من الغلو، يغفر الله له ولنا معه، ومن ذا الذي أجمع عليه الناس؟ لقائي به في الهند:أراد العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي أن يجمع كبار علماء الأمة ودعاتها بهذه المناسبة، ليروا (ندوة العلماء)، هذه المؤسسة الفريدة بأعينهم، ويلمسوا آثارها بأيديهم، ويتحسسوا حاجاتهم بأنفسهم، ويساهموا في إقامة مشروعاتها المستقبلية. ولهذا لم يسعنا حين وصلتنا دعوة الشيخ إلَّا أن نلبي النداء، ونهرع إلى هناك، وكنا وفدًا من قطر مكونا من فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، وفضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، والفقير إليه تعالى، وقد دُعِيَ عدد من الإمارات على رأسهم فضيلة الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك، رئيس القضاء الشرعي، وعدد من علماء المملكة العربية السعودية ورجالها، ومن الكويت والبحرين ومصر وغيرها، وكان على رأس الوفد المصري الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، وفضيلة الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف.كان المتبع في مثل هذه الأحوال: أن يكون الشيخ أبو الحسن الندوي هو رئيس هذا المهرجان أو المؤتمر، ولكنه أبى إلا أن يكون الرئيس هو شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود.وكانت دولة الهند إكراما للشيخ أبي الحسن، واعترافًا بمنزلته في العالم الإسلامي، قد استضافت عددا من الضيوف، وهيأت لهم زيارة بعض المناطق السياحية، في دلهي، وفي تاج محل وغيرهما. وكان الشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ الذهبي، والشيخ الأنصاري، والشيخ عبد المعز، وأنا، ممن نزلوا ضيوفًا على الدولة، وذهبنا للسلام على رئيس الجمهورية، وكان مسلمًا، وهو الدكتور ذاكر حسين، والمعروف أن رئيس الجمهورية في الهند ليس له سلطات تذكر، وإنما السلطة في قبضة رئيس الوزراء، على غرار النظام الإنجليزي. زيارته لقطر:وفي عام 1973 زار الشيخ عبد الحليم محمود قطر، وزار المعهد الديني، وكنت ما زلت مديرا له، وألقى كلمة للطلاب والمدرسين، وزار عدة أماكن في قطر، منها كلية التربية التي كنت أدرس فيها بعض المواد، وكان عميدها الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم الذي كان عميدًا لكلية التربية بجامعة الأزهر.شجاعة الشيخ ومواقفه:من مواقفه أنه بعد عودته من فرنسا كان يرتدي البدلة، غير أنه بعد سماع خطبة للرئيس عبد الناصر يتهكَّم فيها على الأزهر وعلمائه بقوله: إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه. فغضب الشيخ، وشعر بالمهانة التي لحقت بالأزهر، فما كان منه إلا أنه خلع البدلة، ولبس الزيَّ الأزهريَّ، وطالب زملاءَه بذلك، فاستجابوا له تحديًا لعبد الناصر، ورفعًا للمهانة عن الأزهر وعلمائه.كما كان له موقفه الشجاع نحو قانون الأحوال الشخصية، الذي روَّج له بعضُ المسؤولين بتعديله؛ بحيث يقيَّد الطلاق، ويُمنَع تعدد الزوجات، فانتفض الشيخ وقال: لا قيودَ على الطلاق، إلا من ضمير المسلم، ولا قيودَ على التعدد، إلا من ضمير المسلم. ولم يهدأ حتى أُلغي القرار.وفي يوليو 1974م صدر قرارٌ جمهوري بتنظيم شؤون الأزهر، وتحديد مسؤولياته، على أن يكون الأزهر تابعًا لمسؤولية وزير شؤون الأزهر؛ ما أفقد الأزهر استقلالَه، فأسرع الشيخ بتقديم استقالته في أول أغسطس؛ احتجاجًا على القرارِ، ولم يعُد لمنصبه إلا بعد إلغاء القرار وصدور اللائحة التنفيذية التي تخوِّل للأزهر شؤونه.عبد الله المشد(1321 - 1411هـ = 1903 - 1990م)العالم الأزهري، والفقيه الأصولي المستنير، الشيخ عبد الله المشد، شغل عدة مناصب علمية ودعوية، منها: مدير الوعظ بالأزهر، وعضو بمجمع البحوث الإسلامية، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر، والمستشار الديني لبعض البنوك الوطنية.وكان المشد رجل صدق، ومن العلماء النابهين الناشطين من أبناء مديرية البحيرة، مثل الشيخ شلتوت، والدكتور البهي، والدكتور ماضي.وقد كان معنيًّا بالقضايا الإسلامية، وكان رئيسًا للبعثة التي أرسلها الأزهر إلى بلاد (الصومال) و(أريتريا) و(عدن) و(الحبشة)، لدراسة أحوال المسلمين بهذه البلاد.واستغرقت رحلة البعثة ثلاثة أشهر، ما بين يوم 26 من شعبان سنة 1370هـ الموافق أول يونيو سنة 1951م ويوم 29 من ذي القعدة الموافق أول سبتمبر سنة 1951م. وكتبت تقريرا مفصلًا، يتسم بالدقة والاعتدال والواقعية، يقع في مائة وستين صفحة كبيرة. ومع هذا فقد حوى ذلك التقرير عجبًا عجابًا عن الاضطهاد الديني في القرن العشرين، ولا غرو أن ظل رجال إريتريا الكبار، وشبابها الصغار، يترددون على الشيخ المشد، ولا سيما عندما بدأوا يفكرون في إنشاء حركات التحرير من الاحتلال الإثيوبي لبلدهم، والاستقلال عن الحبشة، وأذكر من هؤلاء الأستاذ آدم إدريس، أحد الزعماء المرموقين، الذين قاوموا جبروت وطغيان هيلاسلاسي الذي حكم إثيوبيا بين 1928 و1974.ومن المواقف التي أذكرها للشيخ المشد، عندما اعتقلت في مصر بعد عودتي من قطر في الإجازة السنوية لعام (1962م)، ولم يعرف أهلي إلى أين أُخِذْتُ، فذهبت زوجتي (أم محمد رحمها الله) إليه في مكتبه بالأزهر، ليساعدها في الوصول إليَّ، فحاول واجتهد، ولكنه عجز عن أن يصل إلى شيء.ومما أخذته على الشيخ، أمر يغتفر في بحر حسناته، ولكن أذكره للتاريخ، فقد ساءني أن أرى اسمه ضمن من كتب في الملحق الذي أصدرته مجلة (منبر الإسلام)، التي كانت تصدر عن (المجلس الأعلى للشئون الإسلامية) الذي يديره الضابط المعروف توفيق عويضة أمينه العام، والذي كانت تعلو كلمته على كلمة وزير الأوقاف إذا تعارضتا، وكان ملحقًا خاصًّا مثيرًا، عنوانه: "رأي الدين في إخوان الشياطين"! وكان ذلك في أثناء محاكمات تنظيم (1965)، وقد كتب فيه عدد من العلماء والمشايخ، كنت أربأ ببعضهم أن ينساقوا في هذا التيار، ويُستخدَموا أدوات في أيدي الظلمة الجبارين، وكان من هؤلاء الأسماء التي ساءني أن أراها في هذه القائمة: الشيخ عبد الله المشد، والأستاذ أنور الجندي، والمعروف أنه من الإخوان. ولكن يبدو أن الضغط كان شديدًا!. غفر الله لهما. فتاوى تدل على تمكن الشيخ المشد:وكان للشيخ المشد رحمه الله عديد من الفتاوى المهمة، والاجتهادات التي تدل على تمكنه الفقهي، منها جواز ذبح الهدي خارج الأراضي الحجازية، إذا لم يجد الحاج من يأكل ذبيحته هناك، ليستفيد بها فقراء المسلمين، وترتب على فتواه هذه أن أقامت المملكة العربية السعودية مصانع لتعليب الذبائح، وإرسالها إلى المسلمين الفقراء في العالم.وله أيضا فتاوى حول تحديد أوائل الشهور العربية، وحول فرق القيمة الذي اعتبره ليس من الربا المحرم، وله فتوى أجاز فيها نقل الأعضاء، وأجاز التأمين على الحياة. من مؤلفاته:- تقرير عن أحوال المسلمين في بلاد الصومال وأريتريا، 1957م.- علي مبارك: حياته ودعوته وآثاره، بالاشتراك مع محمود الشرقاوي، 1962م.- واشترك مع أمين الخولي في تأليف كتاب "الآداب الدينية الاجتماعية"، 1966م.د. علي جمّازالعالم الداعية المعلِّم(ت: 1993م - 1414هـ)تعرفي على الأخ الشيخ جماز:عرفت أخانا الشيخ علي جمّاز في قطر، وكان من المجموعة التي سبقتنا متعاقدة مع وزارة التربية– أو وزارة المعارف- لتدريس العلوم الشرعية. وكان الشيخ عبد الله بن تركي مفتش العلوم الشرعية والمسؤول الأول عنها، حريصًا على استحضار علماء الأزهر لتدريس هذه العلوم، وكان يفخر بذلك.وكان لهذه العلوم أهميتها ويترتَّب عليها نجاح ورسوب. وكان من حُسن حظ الإخوان المسلمين الذين رفضت الحكومة المصرية تعيينهم في مدارسها: أن يجدوا باب قطر ودول الخليج مفتوحًا لهم، فولجوه بقوة، مع من ولجه من أبناء الأزهر.كان الشيخ علي عالمًا وداعية، يتميَّز بحضوره وحُسن فهمه، وحسن تلاوته للقرآن الكريم، ولذا كنت أقدِّمه أحيانًا ليصلي بالناس بعض صلاة التراويح نيابةً عني، وقد كان رحمه الله يحسن عرض حقائق الإسلام في خطبه في المساجد وغيرها.وقد ظل واضح الصوت، مسموع الكلمة، طوال الفترة التي قضاها معي في المعهد، مع إخوانه الآخرين من علماء الأزهر النابهين.
6148
| 06 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : الثامنة عشرة إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. وفي هذه الحلقة يتحدث الشيخ القرضاوي الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين: الأستاذ حسن الهضيبيالمرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين(1309 - 1393هـ = 1891 - 1973م) ( 1 - 2 )مصري ولد في (عرب الصوالحة) سنة 1309هـ، قبيلته عربية عريقة في عروبتها ودينها، ودرس في كلية الحقوق، وتخرج فيها سنة 1335هـ، واشتغل بالمحاماة، ثم عُين في القضاء، ومستشار في محكمة النقض، سعادته خير قدوة لرجال القانون؛ فقد عُرف في جميع مراحل حياته باللباقة وسمو الخلق، والغيرة على الإسلام والدعوة إليه، وهو يحفظ القرآن، وذو رأي مسدَّد في كل ما يتصل باللغة والإسلام، كما أن لسعادته دراسات واسعة في القانون المقارن والتشريع الإسلامي، واطلاع واسع على كتبه وموسوعاته) هكذا عرف الإمام البنا في (مجلة الشهاب) المستشار حسن الهضيبي، وقد نُشرت صورته في (سجل التعارف الإسلامي) في العدد الأول، وكأن هذا التعريف الشامل المركز من الأستاذ البنا، كان يحمل ترشيحًا لصاحبه، ليقود سفينة الجماعة من بعد مرشدها الأول، رحمهما الله جميعًا.كان الأستاذ الهضيبي على صلة قديمة بالإخوان، وبالأستاذ حسن البنا، ولكن منصبه القضائي جعله يبتعد عن الظهور العلني في الإخوان.اختير الأستاذ الهضيبي مرشدًا عاما لجماعة الإخوان المسلمين بعد استشهاد مرشدها الأول الإمام حسن البنا، وقد حل هذا الاختيار عقدة اختيار المرشد من رجال الصف الأول البارزين: صالح عشماوي وكيل الإخوان، وعبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد وشقيق المرشد الأول، وعبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة وزوج أخت الأستاذ، والشيخ أحمد الباقوري أحد قدامى الإخوان، وغيرهم من المتطلعين إلى منصب المرشد العام، وكل يزعُم- أو يُزْعَم له- أنه أحق به من غيره، وقد تنازعوا فيما بينهم: أيهم يقود الجماعة، ولم يتفقوا على واحد منهم؛ فكان اختيار الأستاذ الهضيبي من خارج المجموعة كلها حلًّا للإشكال، فحسم اختياره النزاع، ووحد الوجهة، ووجدت السفينة ربانًا يقودها باسم الله مجراها ومرساها، وإن بقي في بعض النفوس ما بقي، مما لا يسلم منه البشر.وكان الإخوان قد اختاروا مقرا مؤقتا في حي "الظاهر" بالقاهرة، يلتقون فيه حتى يكسبوا قضيتهم، وتعود إليهم ممتلكاتهم، ومنها المركز العام بالحلمية الجديدة.وكان أول لقاء عام بالإخوان للأستاذ الهضيبي في هذا المقر المؤقت، وقد أوصى الإخوان بتقوى الله عز وجل، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وطلب منهم أن يُقِلُّوا الحديث عما أصابهم من بلاء في سبيل الدعوة؛ فهذا أول الطريق، وكأنه يستشف ما يُكنُّه ضمير التاريخ من محن كبيرة مخبَّأة للإخوان.وبعد جهود واتصالات ومظاهرة أمام مجلس النواب، وضغط على حكومة الوفد أُلغي قرار حل الإخوان، وعادوا رسميًّا ليمارسوا نشاطهم تحت سمع القانون وبصره، وتسلَّموا مركزهم العام، ليقيموا فيه (أحاديث الثلاثاء)، التي أمسى يتعاقب عليها عدد من دعاة الإخوان، ولكن أين من يملأ مكان حسن البنا؟ الهضيبي والملك فاروقوفي هذا الوقت طُلب من الأستاذ الهضيبي أن يزور الملك فاروق، وحدد موعد الزيارة، وكأن الملك أراد بذلك أن يقيم صلة، أو يعقد هدنة مع الإخوان، بعد أن اغتيل مرشدهم الأول لحسابه، وذهب الأستاذ الهضيبي للقاء الملك، وجرى بينهما حديث عن الله ثم الملك، ثم الشعب، فعقب الهضيبي قائلا: بل الله، ثم الشعب، ثم الملك.وبعد خروج الأستاذ الهضيبي من الزيارة الملكية، سأله الصحفيون عن مضمون هذه الزيارة، فقال: لقد كانت زيارة كريمة لملك كريم.واستغلها خصوم الدعوة؛ ليشوشوا على الإخوان، وعلى مرشدهم الجديد، وليجعلوا منها مقدمة لدوران الإخوان في فلك القصر، وأن الهضيبي إنما جاء ليؤدي هذا الدور، وكل هذه أوهام وأباطيل، وإنما قالها الرجل على سجيته جملة يريد بها المجاملة، لا أكثر من ذلك، وما غيَّر الإخوان من أهدافهم، ولا من مناهجهم، قِيدَ شعرة، كما يعرف ذلك كل مراقب للإخوان، مُطَّلِع على مسيرة الإخوان.وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) بعض التفاصيل عن هذه الزيارة، منها: أنهم بعثوا إلى الأستاذ الهضيبي من القصر حلة خاصة لا يقابَل الملك إلا بمثلها، يسمونها (الردنجوت)، فرفض الهضيبي أن يلبسها، وأصر على أن يلقى الملك بحلته المعتادة، وقبلوا بذلك لأول مرة.ومنها: أن الملك ظل يتحدث نحو الساعة، معتذرًا عمَّا أصاب الإخوان، وأنه من عمل حزب السعديين وحكومتهم، وأنه هو الذي أقال حكومة إبراهيم عبد الهادي، وأمر بالإفراج عن الإخوان… إلخ، والأستاذ ساكت.ومنها: أن الملك أرسل إلى الهضيبي صورة فاخرة له موقعة بخطه، وكان ينتظر أن يعلقها في مكتبه، فلم يفعل، ولكنه أخذها إلى بيته، ووضعها على الأرض في مكان لا يراه أحد. الهضيبي والنظام الخاصحينما اختير الأستاذ الهضيبي مرشدا للجماعة، وعرف بقصة النظام الخاص وتاريخه ونفوذ قادته باستقلالهم عن الجماعة، أحس بأن هذا خطر يجب أن يقاوم، فأعلن أول الأمر أن لا سرية في الإسلام.ثم يبدو أن بعض الإخوان أقنعوه أن الدعوة لا سرية فيها، ولكن بعض التنظيمات تقضي الضرورات التي تعيشها بلادنا أن تكون سرًّا، ولا سيما مع وجود الاحتلال الإنجليزي، والحكومات الموالية له، وفساد القصر، وتهديد الدولة الصهيونية على حدود مصر… إلخ، فوافق المرشد على بقائه، على أن يحدث فيه بعض التغيير، وخصوصا في القيادة.ويظهر أن النظام شعر بذلك، فبدأ يقاوم ذلك؛ وهو ما أدى إلى فصل أربعة من كبار أعضائه وقادته، وهم: رئيس النظام عبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال.وكان ذلك على إثر حادثة غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الإخوان، تمثل جريمة من الجرائم الكبرى التي لا تبرر بحال من الأحوال، وهي قتل أحد الإخوة المخلصين والمهمين الناقمين على قادة النظام، وهو المهندس (السيد فايز)، الذي كان موضع الرضا والقبول من المرشد العام، ومن كل من عرفه؛ لما تميَّز به من حسن الفهم، وحسن الخلق، والبذل والإخلاص للدعوة.وكان قتله بطريقة بشعة؛ إذ أرسلت له علبة حلوى بمناسبة المولد النبوي، وكان غائبًا عن المنزل؛ فلمَّا عاد وفتح العلبة انفجرت فيه، فأودت بحياته، وحياة شقيقه الصغير، وكانت أصابع الاتهام كلها تشير إلى النظام، وإن كان التحقيق الرسمي لم يسفر عن شيء.وكانت هذه الجريمة النكراء سبب استياء عارم، وسخط عام في صفوف الإخوان؛ فكيف يستحل الأخ دم أخيه، وإن اختلف معه في الرأي؟ وبأي ذنب قُتلت هذه النفس التي حرّم الله، والتي جعل القرآن وكُتبُ السماء من قتلها فكأنما قتل الناس جميعا؟ ومن أفتى هؤلاء بإباحة هذا الدم الحرام؟ أم أنهم جعلوا من أنفسهم المفتي والقاضي والمنفِّذ؟ومع هذا لم يكتفِ رجال النظام بما اقترفوا، بل أرادوا أن يقاوموا قرار فصل الأربعة الذي صدر من مكتب الإرشاد العام صاحب السلطة التنفيذية العليا في الجماعة، والذي من حقه أن يفصل الأعضاء بناء على اعتبارات يراها، وليس من الضروري أن يعلن الأسباب، ولا سيما إذا كان ذلك يضر بالجماعة.أراد رئيس النظام ومن عاونه من شباب النظام أن يحدثوا انقلابًا غير دستوري في الإخوان بأن يحتلوا المركز العام بالقوة، وأن يذهب فريق منهم إلى منزل المرشد العام، ويرغموه على الاستقالة، وأن يتولى فريق من كبار الإخوان المركز العام ويديروه حتى يختار الإخوان لهم مرشدًا جديدًا.وبالفعل احتلوا المركز العام، وذهب خمسون منهم إلى بيت المرشد، مقتحمين بغير استئناس ولا استئذان، كما هو أدب الإسلام، وطلبوا منه الاستقالة فرفض، وبهذا أخفقوا في هذا البند.وقد تجاوب معهم من الكبار الأستاذ: صالح عشماوي، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد أحمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، والشيخ سيد سابق، الذي قيل: إنهم اختاروه مرشدًا بدل الهضيبي!وقام الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل بدور مهم في محاولة فضّ هذا الأمر، وإقناع الشباب بالانصراف، وقد استجابوا له بالفعل، فلم يأتِ الفجرُ حتى كانوا قد رحلوا.وسرعان ما شعر الكثير منهم بجسامة ما اقترفوا، وسارع بعضهم إلى التوبة والاعتذار، ومنهم الأخوان الكريمان: علي صديق، وفتحي البوز.وفي المساء امتلأ المركز العام بالإخوان، وتحدث عدد من دعاة الإخوان: عبد الحكيم عابدين، وسيد قطب، وسعيد رمضان، وعز الدين إبراهيم، وخُتم اللقاء بكلمة المرشد العام.واعتذر د. سليمان، وأعلن ثقته بالمرشد العام، واكتفى منه بذلك، وأحيل الثلاثة الآخرون (عشماوي والغزالي وجلال) إلى (لجنة العضوية) بالهيئة التأسيسية بصفتهم أعضاء بها، لتنظر في أمرهم، وانتهى الأمر بفصلهم، وهي نهاية مؤسفة، ولكن لم يكن بد وكما قال الشاعر:إذا لم يكن إلا الأسنَّةُ مركبٌ فما حيلة المضطر إلا ركوبها! الهضيبي والضباط الأحراركان كل شيء في مصر يبشر بأن تغييرًا لا بد أن يقع، فكان التغيير هو قيام (ثورة 23 يوليو 1952م) التي سميت أول الأمر (حركة الجيش المباركة)، ثم أطلق عليها (الانقلاب)، ثم استقرت على اسم (الثورة).لقد استبشر الشعب بانقلاب هؤلاء الضباط الذين قالوا عنهم (حَمَلَة المصاحف) كما قالوا عنهم: إنهم من تلاميذ الشيخ محمد الأودن. كما قيل: إن منهم عددًا من الإخوان.وقد طُلب منا نحن الإخوان أن نحرس المنشآت الأجنبية من احتمال تحرك أي أيد مخربة، تحاول أن تصطاد في الماء العكر، والوضع حساس لا يحتمل وقوع أي حادث يكدر صفو الأمن، ويظهر وجود معارضة للانقلاب.كان رجال الجيش يعتبرون الإخوان هم سندهم الشعبي، فلا غرو أن اعتمدوا عليهم في حراسة المنشآت ومراقبة أي تحرك مريب.ولكن من الأيام الأولى بدأ لون من الحساسية يظهر عند رجال الانقلاب، حتى صدر بيان يعلن أن حركة الجيش حرة مستقلة عن الجماعات والأحزاب، وليس لأي منها سلطان عليها، وكان البيان يعني الإخوان خاصة.ويبدو أن الأستاذ الهضيبي منذ أول لقاء معهم لم يسترح لهم، كما لم يستريحوا له، وهذا الشعور بعدم الارتياح المتبادل من الطرفين كان له أثره فيما بعد.وحين كان عبد الناصر يزور بعض المناطق كان الإخوان يستقبلونه على طريقتهم بالتهليل والتكبير، وخصوصا أن الكثيرين من عوام الإخوان كانوا يحسبون أن حركة الجيش حركة إخوانية، أو على الأقل موالية ومساندة للإخوان، وقد سمعت بأذني في مدينة الحوامدية، حين كبر الإخوان وعبد الناصر يتكلم ما قاله وهو غاضب ثائر: إلى متى تظلون كالببغاوات، تهتفون وتصرخون ولا تدرون ما تقولون؟ساءت العلاقة بين الإخوان والثورة، واقتيد الإخوان إلى السجون، ومما عرفناه ونحن في السجن الحربي: أن الأستاذ الهضيبي بعث برسالة إلى الرئيس محمد نجيب، تتضمن بعض النصائح، ويطالبه فيها بإعادة الحريات والحياة النيابية إلى الشعب، ومما أذكره مما جاء في هذه الرسالة قوله: إنكم عبتم على الأحزاب والزعماء قبل الثورة: أنهم لم يقولوا للملك وبطانته: لا، حيث يجب أن تقال. وأنتم بموقفكم من الإخوان تمنعونهم أن يقولوا لكم: لا، حيث يجب أن تقال.ثم وقعت أحداث فبراير عام 1954 التي بدأت داخل الجيش وسلاح الفرسان بقيادة خالد محيي الدين، بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب.. خرجت المظاهرات تطالب نجيبا بالبقاء. وكان من المعروف أنها من تدبير الإخوان المسلمين.. وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات، واضطر عبد الناصر إلى إعادة نجيب.وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات من جامعة القاهرة والأزهر، ومن أبناء الشعب، فأصيب عدد من المواطنين، منهم الطالب ثروت يونس العطافي الطالب بكلية الهندسة، واستشهد أحد طلاب الإخوان، وهو الطالب توفيق عجينة، وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلى قصر عابدين.. وخرج إليهم محمد نجيب محاولا دفعهم للانصراف.. ولكنهم لم يتحركوا.. ولمح بينهم الأستاذ عبد القادر عودة، فدعاه إلى الشرفة لإلقاء خطاب لفض المتظاهرين- وصعد بالفعل، ووقف بجوار محمد نجيب الذي أعلن أنه سينشئ الجمعية التأسيسية وسيعيد الحياة النيابية.. وانصرفت المظاهرات. وجاء في خطاب نجيب ما يلي:إننا قررنا أن تكون الجمهورية جمهورية برلمانية على أساس، هو أن نبدأ فورًا بتأليف جمعية تأسيسية تمثل كافة هيئات الشعب المختلفة، لتؤدي وظيفة البرلمان مؤقتًا، وتراجع نصوص الدستور بعد أن يتم وضعها. وبعد ذلك تعود الحياة النيابية إلى البلاد في مدة أقصاها نهاية فترة الانتقال. وهذا أمر متفق عليه.. ونحن عند وعدنا الذي قطعناه على أنفسنا من أننا لم نقم إلا لإعادة الدستور على أساس سليم في نهاية فترة الانتقال). واختتم نجيب كلمته قائلا: (نحمد الله سبحانه تعالى مرة أخرى على أننا اجتزنا هذا الامتحان القاسي بنجاح.. وأؤكد لكم مرة أخرى أني لا أطمع في حكم أو سلطة أو جاه، وإنما أطمع فقط في أن أؤدي واجبي، وأن تزهق روحي في سبيل بلادي وتحريرها، وفي سبيل اتحاد أبنائها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)وكانت تلك الكلمة سببًا في انصراف المتظاهرين.وفي نفس الوقت ثارت ثائرة عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين، فقد همس معاونوه أن الذي أوحى لنجيب بهذا الكلام هو عبد القادر عودة، أحد أقطاب الإخوان، الذي كان يقف إلى جوار نجيب في شرفة قصر عابدين.ومرت ثلاثة أيام، وفي يوم 2 مارس قامت سلطات البوليس الحربي باعتقال 118 شخصًا بينهم 45 من الإخوان، و20 من الاشتراكيين، و5 من الوفديين، و4 شيوعيين، بادعاء أنهم كانوا يدبرون لإحداث فتنة في البلاد، مستغلين فرحة الشعب بعودة نجيب.. وكان في مقدمة المقبوض عليهم: حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وصالح أبو رقيق وأحمد حسين زعيم الاشتراكيين. ثم بعدها بقليل أفرج عن المعتقلين، وخرج الأستاذ الهضيبي، وكان له مؤتمر حاشد ليلة خروجه في المركز العام للجماعة، أوصى الأستاذ في كلمته في المؤتمر الإخوان: ألا يكثروا الحديث عما أصابهم من المحن في سبيل الله، فإنهم لا يدرون ما ينتظرهم مما يخبئه الغد. وكأنما كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق. مجلس الثورةفي يوم 25 مارس هذا الذي تقرر فيه الإفراج عن آخر دفعة من المعتقلين هو نفس اليوم الذي اجتمع فيه مجلس الثورة اجتماعا استمر خمس ساعات بحث خلالها الموقف الداخلي. وبعد انتهاء الاجتماع خرج الصاغ كمال الدين حسين إلى الصحفيين وأذاع عليهم القرار التاريخي وهذا نصه:قرر مجلس الثورة بجلسته اليوم25/3/1954:أولا: يسمح بقيام أحزاب.ثانيا: المجلس لا يؤلف حزبا.ثالثا: لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات.رابعا: تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون أن يعين أي فرد وتكون لها السيادة الكاملة والسلطة الكاملة، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، وتكون الانتخابات حرة.خامسا: حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة.سادسا: تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.وبعد أن نشرت الصحف هذه القرارات، نشرت ما يأتي:(تم الإفراج أمس عن الأستاذ حسن الهضيبي من السجن الحربي، كما أفرج عن باقي أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين. وقد تم اتصال أمس بين المسؤولين وبين السيد حسن الهضيبي المرشد العام قبل الإفراج عنه بشأن عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى نشاطها السابق).وقد تم الاتفاق معهم على ثلاث نقط:أولا: أن تعود الجماعة إلى سابق نشاطها وكيانها بدون أي حد من حرياتها، وإعادة أموالها المصادرة وشعبها ومركزها العام.ثانيا: الإفراج فورًا عن جميع الإخوان مدنيين أو عسكريين مع إعادة من فصل منهم إلى الخدمة العسكرية.ثالثا: أن يصدر مجلس الثورة بيانا يوضح فيه حقيقة الأسباب التي اعتبرها داعية إلى حل الإخوان. ويكون هذا البيان بمثابة الختام في هذه المسألة المؤسفة.وقد صرح السيد حسن الهضيبي للمسؤولين بأن الإخوان سيكونون بعد عودتهم عونا للحكومة على طرد الإنجليز من منطقة قناة السويس، ورد اعتداءاتهم الوحشية. وفي منتصف ليلة أمس توجه البكباشي جمال عبد الناصر إلى منزل الأستاذ الهضيبي حيث اجتمع به في منزله.وبدأت جماعة الإخوان المسلمين تستأنف نشاطها من يوم 26 مارس.. واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود.. وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر تنفيذ خطته.. وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل بها في الساعة الواحدة ظهرا ما عدا الترام، بعد أن استطاع عبد الناصر أن يستميل إليه الصاوي أحمد الصاوي رئيس اتحاد نقابات عمال النقل، بعد أن دفع له أربعة آلاف جنيه، ليعلن إضرابا شاملا لمطالب خاصة، ثم بدأت الإذاعة تذيع إضراب العمال بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد، ورغبتهم في الإبقاء على مجلس الثورة.وبدأت المظاهرات تشتد.. وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي، وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية.. وتهتف بسقوط المثقفين! وذهبت إلى مجلس الدولة، فاعتدت على رئيسه القانوني الكبير د.عبد الرزاق السنهوري! أنا والهضيبيأنا لم أختلط بالأستاذ الهضيبي كثيرًا، فقد كنت طالبًا في كلية أصول الدين وفي تخصص التدريس، أيام ولايته، ولكني لقيته عدة مرات من قريب، ووجدته رجلًا سهلًا سمحًا، قريبًا، على غير ما يُظَنُّ به.أول ما لقيته كان في مدينة المحلة الكبرى، وقد أقام الإخوان له حفلًا كبيرًا، كنت من المتحدثين فيه، وكنت شابًّا متحمِّسًا، فكانت كلمتي معبرة عني، وعن شخصيتي في ذلك الوقت.وعندما تحدث هو بعد خطباء الحفل قال: أنا لا أحسن الخطب الحماسية مثل الشيخ القرضاوي، ولكني أنصحكم بكذا وكذا أو بكذا. فكانت كلماته أشبه بتعليمات محددة.ودعاه رجل المحلة الأول — رجل البر والخير — عبد الحي باشا خليل في بيته، فذهبنا معه، وكان موضع التجلة والاحترام من هؤلاء الأعيان.وكذلك ذهبنا معه في اليوم التالي لزيارة مصنع المحلة، فكان الجميع يحترمونه ويقدرونه.وزارنا في المحلة مرة أخرى، ومعه سيد قطب، وعبد الحكيم عابدين، فتعرفت به أكثر.وذهبت معه مرتين قبل الثورة إلى مدينين من مدن مصر: مرة في مدينة كفر الشيخ، ومرة في مدينة السويس. وكان معه في كلتا الزيارتين: الشيخ أحمد حسن الباقوري، فقد كان قريبا منه. وكان الإخوة في قسم نشر الدعوة يريدون أن أحضر مع المرشد والباقوري لأكملهما، فكلاهما يحدث الخاصة، ولا يخاطب الجماهير. وكأن الأستاذ المرشد استراح إلى ذلك، فكان يرحب بوجودي.وفي عودتنا من رحلة السويس، كنتُ رفيقَهما في السيارة التي حملتهما، وهنا اقتربت أكثر من الأستاذ الهضيبي، واستمعت إلى بعض نكاته، ومنها نكات يعدها بعض الناس خارجة! ويبدو أن الأستاذ الهضيبي — من خلال هاتين المرتين — كوَّن عنِّي فكرة حسنة.ففي أوائل الثورة في شهر أغسطس: أُبْلِغْتُ بأن الأستاذ المرشد يريدني أن أذهب لزيارة الإخوة في سورية والأردن، أنا والأخ محمد علي سليم من إخوان الشرقية. وبعد عودتي كتبت له تقريرا عن الرحلة، ولما لقيته في مناسبة بعدها، قال لي: لقد قرأت تقريرك عن رحلتك إلى بلاد الشام، واهتممت به، وخصوصا ما كتبته عن (حزب التحرير).وعندما أنشأ عبد الناصر (هيئة التحرير) لتكون سنده الشعبي، بدلًا من الإخوان، وبدأت تحدث تحديات وصدامات في بعض البلدان، أرسلني الأستاذ المرشد لأجوب مدن الصعيد كلها من الفيوم إلى أسوان، لألقى الإخوان، وأحثهم على أن يتمسكوا بدعوتهم، ولا يذوبوا في أي جماعة أخرى، ولا يصطدموا بأحد يريد أن يجرهم إلى الصدام بوسيلة وأخرى.وفعلا قمت بهذه الرحلة، وكانت من أخصب الرحلات، وأكثرها بركة.وعندما اعتقلنا في المرة الأولى في عهد الثورة في يناير 1954م، وأخذنا إلى العامرية، ثم نقلونا — أنا وخمسة من الإخوان — إلى السجن الحربي: أنزلونا في سجن رقم 4، وكان فيه الأستاذ الهضيبي وكبار الإخوان، وكانوا يغلقون الزنازين في أول الأمر علينا، ثم فتحوها لنا. فكنا نصلي جماعة. وهنا أمرني الأستاذ أن أؤم الإخوان، وقد أطلت في بعض الصلوات الجهرية، فنصحني أن لا أطيل، مراعاة للكبير والمريض وذي الحاجة.ثم نُقِل الأستاذ وكبار الإخوان إلى عنبر الإدارة، وكان هذا آخر عهدي به، حتى إني لم أحضر اللقاء الكبير الذي أقيم في المركز العام يوم خروج الإخوان من السجن الحربي، بعد أن اصطلحوا مع عبد الناصر، فقد كنتُ المعتقلَ الوحيد الذي تأخر الإفراج عنه يومًا واحدًا، كما حكيت في الجزء الثاني من هذه المذكرات.حتى إني حين اعتقلت في المرة الثانية بعد حادث المنشية: بقيت فترة في حجز مباحث المحلة الكبرى، التي تولَّت التحقيق معي، فلم أصل إلى السجن الحربي، إلا يوم خروج الأستاذ الهضيبي منه بعد أن صدر الحكم عليه وعلى ستة معه بالإعدام!ولما حدث الخلاف الذي حدث بين الأستاذ الهضيبي وجماعة من الإخوان القدامى، على رأسهم الأستاذ البهي الخولي، والمشايخ: الغزالي وعبد المعز عبد الستار وسيد سابق ومحمد جودة وآخرون. وأني كنت أنا وأخي العسال والدمرداش وآخرون أقرب إلى صف المشايخ. فلما وقعت الواقعة، انضممنا إلى ركب الجماعة، وحوكمنا مع من حوكموا، وعُذِّبْنا مع من عذبوا، ونرجو أن يكون ذلك في ذات الله تعالى، وأن لا نحرم أجره عند الله.لا يختلف اثنان من الإخوان — حتى من المعارضين — في أن الأستاذ الهضيبي مسلم عظيم، وأنه من الذين أخلصوا دينهم لله، فليس من المتاجرين بالدين ولا بالدعوة، ولا يريد من وراء عمله للإسلام جزاء ولا شكورًا، وأنه رجل نظيف لا يماري أحدا في نظافته، وأنه لم يسعَ إلى قيادة الإخوان، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وأنه لم يستفد لنفسه ولا لأسرته من وراء الدعوة شيئًا ماديًّا قط، إلا ما أصابه من لأواء في سبيل الله، وأنه رجل صلب لا يداهن في دينه، ولا يجامل أحدًا في أمر الدين، وهو يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم، وأنه أوذي في الله — مع كبر سنه — فما وهن ولا ضعف ولا استكان، ولا طأطأ رأسه لمخلوق، وأنه كان يعامل عبد الناصر ورجال الثورة بعزة واستعلاء، معاملة الند للند، والسيد للسيد، اعتزازًا منه بأنه يمثل دعوة الإسلام.ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي جعلت بعض الإخوان يقولون: إن موقف الأستاذ الهضيبي من رجال الثورة عامة، ومن عبد الناصر خاصة، ومعاملتهم باستعلاء وربما بازدراء! هي التي ولَّدت هذه الجفوة بين الطرفين، التي انتهت إلى خصومة، ثم انتهت إلى صراع بين الطرفين. ويقولون: لو كان حسن البنا في موقف حسن الهضيبي لكان له موقف آخر، ولاستطاع برفقه وتلطفه ولين طبعه: أن يجذبهم إلى ساحته، وأن يأخذهم بالتي هي أحسن، وأن يهتدي بقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].ولكنه نفر منهم، ونفروا منه، وأغلظ عليهم، وأغلظوا له، وساء ظنه بهم، فساءت ظنونهم بالجماعة.هكذا رأيت بعض الإخوان يفكرون، وسمعتهم يتكلمون، فهل هذا المنطق مسلَّم؟ وأن موقف الأستاذ الهضيبي هو السبب الأول فيما جرى؟! ومن يدري ماذا كان سيفعل حسن البنا لو كان حيًّا، فهذا علمه عند الله، ولا يملك أحد أن يقوّل غيره في ذلك ما لم يقل.على أن الذي يبدو لي من تسلسل الأحداث، ومما أظهره عبد الناصر من أفكار وتوجهات: أن الرجل لم يكن يريد لأحد — لا الإخوان ولا غيرهم — أن يشاركه في الحكم، ولو بالمشورة والتسديد. وقد أعلن في الأيام الأولى للثورة: أنها مستقلة ولا وصاية لأحد عليها.. وقال بصراحة للإخوان: إنه يريد أن يضغط على زر فتتحرك مصر من الإسكندرية إلى أسوان، ويضغط على زر آخر، فتتوقف مصر من الإسكندرية إلى أسوان!كان في إهاب عبد الناصر (دكتاتور) يريد أن يستبد بالأمر، ولا يكون لأحد معه رأي ولا قول، إلا ما كان يسير في ركبه، ويدور في فلكه. ومثل هذا الطاغية المتجبر في الأرض: لا يمكن أن ينسجم مع أي رجل ينصح له، أو يقول له كلمة حق، أو يأمره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، سواء أكان حسن البنا أم حسن الهضيبي. الأستاذ الهضيبي والحفاظ على الخط الفكري للجماعةذاق الإخوان في سجون عبد الناصر الويلات، وألهبت ظهورهم السياط، وظهرت ظاهرة جديدة ليست من أدبيات الإخوان ولا فكرهم ألا وهي (الغلو في التكفير)، والتفاف طائفة — جلهم من الشباب الحديث السن الحديث العهد بالدعوة — حول هذا الفكر المتطرف، إلى حد جعلهم يرفضون الصلاة مع إخوانهم في العقيدة والفكرة، وشركائهم في الاضطهاد والمحنة، وأساتذتهم في الدعوة والحركة.ولا يصعب على الدارس أن يلمس سبب هذا التطرف، فهو يكمن في المعاملة الوحشية التي عومل بها السجناء، والمعتقلون، والتي لا تتفق مع دين ولا خلق ولا قانون ولا إنسانية.لقد اقتيد هؤلاء الشباب البرآء من بيوتهم إلى ساحات التعذيب، وصب عليهم من ألوان القهر والإذلال والتنكيل ما لا يكاد يتحمله بشر، لقد تفننوا في إيذاء الأبدان، وإهانة الأنفس، والاستخفاف بالعقول، وتحطيم الشخصية، والاستهانة بالآدمية، إلى حد يعجز القلم عن تصويره، ويتوقف العقل في تصوره.ولم هذا كله؟ إنهم — في نظر أنفسهم على الأقل — لم يقترفوا ذنبا؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله! لم يقترفوا في حق أحد جرمًا، ولم يفكروا في شر، ولم يجتمعوا على معصية وفجور. كل ما فعلوه أنهم آمنوا بالإسلام نظام حياة، التزموا به فكرًا وسلوكًا، واعتبروا الدعوة إليه وإلى تطبيق شرعه واجبًا يأثمون بتركه، والتقصير فيه، فلماذا يشردون ويعذبون، وينكل بهم أشد التنكيل؟وزاد الطين هنا بلة جملة أمور:أن الفسقة والفجار والملاحدة واللادينيين طلقاء أحرار، لا يحاسبهم أحد، ولا يعاقبهم أحد، بل وثبوا على أجهزة الإعلام والتوجيه وغيرها يوجهونها كما يشاءون إلى الكفر والفسوق والعصيان.وأن الذين يعذبونهم وينكلون بهم لا دين لهم ولا تقوى، بل كان منهم من يسخرون من تدينهم، ومنهم من ظهر على لسانه من الكلمات ما يصل به إلى الكفر البواح، حتى قال واحد منهم: هاتوا ربكم وأنا أحطه في زنزانة! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.وأن بعض الكتب الإسلامية الحديثة التي كتبت في هذه الظروف نفسها: كانت تحمل بذور هذا التفكير، وتدفع إليه دفعا، بما تتسم به من قوة التعبير، وحرارة التأثير.وهكذا احتضنت هذه الفئة هذا الفكر المطبوع بطابع الغلو والعنف، والذي ينظر إلى الناس — أفرادا ومجتمعات — من وراء منظار أسود قاتم.وكان السؤال الأول الذي طرح نفسه: ما حكم هؤلاء الناس الذين يعذبوننا بقسوة وجرأة؟ أو على الأصح: ما حكم من وراءهم من الحكام الذين يأمرونهم بتعذيبنا إلى حد الموت، لا لشيء إلا لأننا ندعوهم إلى الحكم بما أنزل الله؟وكان الجواب عندهم جاهزا: أخذوه من ظاهر بعض النصوص: من آيات القرآن مثل آية المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كالأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد: فإن الذين لم يوافقوهم على هذا الفهم للنصوص التي استدلوا بها، وقالوا: إنها مؤوَّلة عند أهل السنة والجماعة لاصطدامها بأدلة وقواعد أخرى أقوى منها، وأظهر في الدلالة — هؤلاء الذين لم يوافقوهم اتهموهم أيضا بالكفر وقالوا: من لم يكفر هؤلاء الحكام ومن والاهم فهو كافر؛ لأن الشك في كفر الكفار يُعدّ كفرا، كمن شك في كفر المشركين واليهود والنصارى والمجوس وأمثالهم.ومن هنا بدأ نطاق التكفير يتسع، لا ليشمل من وَالى الحكام أو رضى بحكمهم فقط، بل من سكت عن تكفيرهم، وهذا يعم جمهور الناس.وقد اصطدم فكر هذه الفئة القليلة بفكر الجمهرة العظمى للمعتقلين أو المسجونين من الإخوان المسلمين، وبخاصة القدامى منهم، الذين تتلمذوا على حسن البنا مؤسس الحركة، وواضع دعائمها الفكرية والتنظيمية الأولى، وقد كان منهجه يتميز بالاعتدال والرفق، وعلى هذا ربى أنصاره وأعوانه.وكان مما أخذه على بعض الجماعات الدينية في مصر سوء رأي بعضها في بعض، إلى حد قد يصل إلى التكفير في بعض الأحيان. لهذا نص في الأصول العشرين من رسالة التعاليم — وهي الأصول التي يجب أن يفهم الإسلام في حدودها — على هذا الأصل بهذه العبارات الواضحة: (لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما برأي أو معصية، إلا إذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر).وقد بلغت القضية مرشد الاخوان المسلمين الثاني، الرجل الصابر الفقيه الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله، وهو في سجنه، فأنكر هذا الاتجاه، وأعلن مجافاته لخط الجماعة وفكرتها، وبين في وضوح أن مذهب الإخوان في هذه القضية وغيرها هو مذهب أهل السنة والجماعة، كما قال كلمته الحكيمة المعبرة: نحن دعاة لا قضاة.وهذه الكلمة الوجيزة التي أصبحت بعد ذلك عنوانا لكتاب كامل في هذا الموضوع، إنما هي تعبير عن منهج إيجابي عملي، يجب أن يتضح للعاملين للإسلام الغيورين عليه: أنهم دعاة لا قضاة.وفرق كبير بين القاضي والداعي: القاضي يجب أن يبحث عن حقيقة الناس حتى يحكم لهم أو عليهم، ولا بد له من أن يصفهم ويعرف مواقفهم ليقضي لهم بالبراءة أو العقوبة، ثم أن موقف القضاء يجعلنا ننظر للناس على أنهم متهمون، والأصل أنهم برآء.أما الداعي فهو يدعو الجميع، ويبلغ الجميع، ويعلّم الجميع، إنه يصدع بكلمة الإسلام يدعو إليها كل الناس، من كان ضالا فليهتد، ومن كان عاصيا فليتب، ومن كان جاهلا فليتعلم، وحتى من كان كافرا فليسلم.والداعي لا يعمل على عقوبة المخطيء، بل يعمل على هدايته، ولا يتعقب المرتد ليقتله، بل يتتبعه ليعلّمه وليرده إلى حظيرة الإسلام.وكان لموقف الإخوان ومرشدهم أثره في تقليص دائرة المنتمين إلى التطرف أو التكفير، وانفضاض الكثيرين من حولهم، وإن بقي عدد منهم ممن لم ترسخ أقدامهم في الدعوة، ولم تتأصل جذورهم فيها، بل يعدون جددًا عليها، فمعظمهم من الجيل الذي يسمونه (جيل الثورة).
3699
| 04 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : الخامسة عشرإن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم... وفي حلقة اليوم يتحدث عن الأديب الكبير، والداعية المفكر "سيد قطب". الأديب الكبير، والداعية المفكر، والمجاهد الصُّلْب، صاحب القلم السيَّال، والأسلوب الرفيع: سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي، (1324 — 1386هـ = 1906 — 1966م). إذا سألتني: من هو سيد قطب؟ أقول: حقًّا سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا، في تاريخنا الحديث والمعاصر، هو مسلم عظيم، إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية، وهو أديب عظيم، إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهو داعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّر عظيم، له أثره في العلم والفكر، إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكر وأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم، إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيل الله. وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها، وأعتقد أنَّه كان مخلصًا في دعوته، أصاب فيها أم أخطأ فهو مخلص، وأعتقد أنه من الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 — 163]. انضمام سيد للإخوان مما لفت نظر الشهيد سيد قطب للانضمام لجماعة الإخوان المسلمين ما حدث من أحداث في أمريكا، شهدها بعينه، ونبهته على شيء لم ينتبه له من قبل، وذلك حق، فقد احتفلت أمريكا ورقصت طربًا لموت حسن البنّا، وكتبت الجرائد والمجلات عن موت عدو الغرب الأوَّل في الشرق الأوسط!! والحادثة الثانية لقاؤه مع رجل المخابرات البريطاني (جون هيوورث دن) في بيته حيث حذَّر (دن) سيِّدًا من الإخوان المسلمين، ومن مغَبَّة إمساكهم بزمام الأمور في مصر، وقدَّم له معلومات دقيقة عن التنظيم، وأهاب به أن يقف وأمثاله من المثقفين المصريين في وجه الإخوان المسلمين!! عندها أدرك سيِّد صِدْقَ دعوة الإخوان، وكيد أعداء الأمة بهم، وفي بيت هذا الإنجليزي قرر سيّد قطب رحمه الله — في قرارة نفسه — الانضمام للإخوان المسلمين، فأصبح واحدًا منهم، بل غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة (قسم نشر الدعوة) في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية، كما كان سكرتير تحرير المجلة معه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد فتحي عثمان. لقاءاتي مع سيد قطب بعد أن انضم الأستاذ سيد قطب إلى جماعة الإخوان غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة (قسم نشر الدعوة) في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية. وفي هذه الفترة طلبني الأستاذ سيد قطب لألقاه، فذهبت إليه في المجلة، وقال لي: إنه كُلِّف رئاسة قسم نشر الدعوة، وهو يريد أن ينهض بالقسم على أسس منهجية سليمة، ويرجو من دعاة الإخوان أن يعاونوه على ذلك، فهو لا يستطيع أن يحقق ما يريد، إلا بتعاون الجميع معه، وخصوصًا شباب الدعاة المرجوِّين أمثالك. قلت له: أنا معك في كل ما تصبو إليه إن شاء الله، ونحن جنودك في تحقيق آمالك الكبيرة المرجوَّة في نشر الدعوة بطريقة علمية. قال: تعلم أن أحاديث الثلاثاء، أصبحت متروكة للمصادفات، في كل ثلاثاء يقدَّم أحد الإخوان الدعاة، ليلقي ما يخطر بباله بدون إعداد ولا تحضير، وإنما هو حديث مرتجل عفو الخاطر، ومثل هذا لا يليق بجماعة كبيرة عريقة مثل الإخوان. لهذا رأيت أن ننظم هذا الأمر، بحيث نكلف عددًا من دعاة الإخوان، كل واحد يأخذ شهرًا، يلقي فيه أربعة أحاديث في موضوع محدد يتفق معه عليه، ويحضر له المادة المطلوبة، ويلقيه على الإخوان، فيستفيدون علمًا وثقافة، لا مجرد عواطف ومشاعر، قلت له: نِعْمَ الرأي هذا. قال: وعلى هذا الأساس أعرض عليك واحدًا من موضوعين، تختار أحدهما لتعده وتلقيه في الوقت المناسب، الموضوع الأول: مواقف من السيرة النبوية، والثاني: من أخلاق القرآن، فهل ترى هذين مناسبين؟ قلت: كلاهما ملائم، ولكني أختار الثاني، فربما عندي فيه ما يقال مما يفيد إن شاء الله. قال: على بركة الله، فليكن ذلك في شهر نوفمبر تقريبًا، أي في أثناء السنة الدراسية إن شاء الله. ولكن الأمور تغيَّرت بسرعة مذهلة، وحدث ما حدث، حتى إن شهر نوفمبر الموعود حينما جاء، كان قد ضمه وضمني وضم الإخوان معنا السجن الحربي، والعبد يفكر، والله يقدر، ولله في خلقه شئون. كانت هذه المرة الثانية التي ألقى فيها الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجلس إليه منفردا به. أما المرة الأولى، فكنت أنا الذي طلبت لقاءه، فقد كنتُ مشغولًا بإصلاح الأزهر، لعلمي بأن الأزهر مؤسسة علمية دينية كبرى، ذات تأثير في مصر وفي العالم الإسلامي كله، بل في المسلمين خارج العالم الإسلامي حيثما كانوا، وأنه بإضاعة الأزهر يضيع خيرٌ كثير على الأمة، وبإصلاحه يصلح كثير من شأن الأمة، وقديمًا قالوا: يا أيها العلماء، يا ملح البلد ما يُصلح المِلْحَ إذا الملحُ فسد؟ ذهبت إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وعرضت عليه ما عندي من أفكار لإصلاح الأزهر، والرقي بمناهجه، والنهوض بعلمائه ورجاله، وشرحت له ذلك في جلسة مطوَّلة، في دار الإخوان بالحلمية، وقد أثنى على جهدي وتوجهي الإصلاحي، وشجَّعني تشجيعًا سرَّني وشرح صدري، وأضاف إليّ بعض النصائح والتوجيهات المهمة من ثمرات قراءته، ومن تجاربه في الحياة، وأذكر مما قاله لي، وأنا أحدثه عن الفلسفة الإسلامية: إنها في الحقيقة ليست فلسفة إسلامية، إنها في الواقع ظلال للفلسفة اليونانية، مترجمة إلى العربية، مضافًا إليها بعض إضافات لم تغير جوهرها، إننا في حاجة إلى فلسفة تعبر عن حقائق الإسلام الكبرى، وعن فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان، بصورة تبيِّن مزايا النظرة الإسلامية عن سائر النظرات والفلسفات الأخرى، سواء كانت نظرة الديانات السماوية الأخرى التي حُرِّفَت، أم الديانات الوثنية الأرضية، أم الفلسفات البشرية الوضعية. ولم يُقَدَّر لي بعد هاتين الجلستين مع الشهيد، أن أسعد به مرة أخرى، فقد كنت في القاهرة صيف سنة 1964 حين أفرج عنه من سجنه بشفاعة الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وأردت أن أسلم عليه بعد خروجه من السجن، وذهبت مع أحد الإخوة الأزهريين العراقيين الذين كانوا يدرسون للدكتوراه في مصر، وهو الأخ الشيخ حسيب السامرائي، الذي تفضل بأخذنا في سيارته أنا والأخ الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وذهبنا إلى بيته في حلوان، ولكنا للأسف لم نجده، ولم تتح لنا زيارته مرة أخرى، إذ في السنة القادمة كانت محنة 1965، والتي جرى فيها ما جرى، والحمد لله على كل حال. تنظيم 65 أعلنت أجهزة عبد الناصر أنها اكتشفت (تنظيمًا سريًّا) خطيرًا جدًّا، يقوده (سيد قطب) ومعه مجموعة من الإخوان. هذا التنظيم المحدود العدد، المحدود الإمكانية — الذي يقوم في الأساس على التوعية والتثقيف والإعداد الفكري والنفسي — قد هوَّلت أجهزة عبد الناصر من أمره، وجعلت (من الحَبَّة قُبَّة)، و(من القِطِّ جملًا)، كما يقول المثل. وأعتقد أن هذه الأجهزة هوَّلت الأمر لعبد الناصر نفسه، وعرضت عليه الأمر عرضًا يضخِّم الواقع أضعاف ما هو عليه، فكأنما يراه بمجهر مكبِّر (ميكرسكوب). وذلك لتستخرج منه القرار المشئوم بإشعال تنور الأذى والعذاب. فقد حاولوا أن يضفوا المبالغات على هذا التنظيم المحدود، فقالوا: إنه كان يخطط (لنسف القناطر الخيرية)! وهل يفكر في ذلك عاقل؟ وماذا يستفيد من ذلك إلا الهلاك والخراب؟ وإذا كان يريد أن يحكم البلاد، فكيف يخرِّبها قبل أن يستولي عليها؟ وقالوا: إنهم يريدون اغتيال (أم كلثوم).. وهل يفكر في ذلك من له ذرَّة من عقل؟ وماذا ارتكبت أم كلثوم من جرائم تستحق عليها القتل؟ وهل يقتل عاقل إنسانة يحبها جماهير الشعب المصري — بل العربي كله — ويُعَرِّض نفسه لسخط عام دون حاجة لذلك؟! وساعد الحكومة في ذلك ما تملك من أجهزة الإعلام — ومن المعروف أن الصحف كلها في مصر قد (أُمِّمَت) وأصبحت ملك الدولة — المقروءة والمسموعة والمرئية، فهي الناطقة باسمها، والمدافعة عنها، والمهاجمة لخصومها، ما تستطيع به أن تغير الرأي العام إلى صفها. ولا سيما أن الخصم لا يملك أية وسيلة إعلامية يستطيع بها أن يدافع عن نفسه، ولو بأدنى دفاع. وقد بدأت هذه الجولة بالقبض على الأستاذ محمد قطب يوم 30 يوليو سنة 1965، ثم القبض على الأستاذ سيد قطب في 9 أغسطس التالي، وانطلقت بعد ذلك جحافل عبد الناصر تلقي القبض على آلاف الإخوان، وافتخر عبد الناصر فيما بعد بأنه قبض على ثلاثين ألفًا في نصف ساعة! أمرين مهمين وأود أن أوضح هنا أمرين أحدهما: أن جماعة الإخوان التي يرأسها الأستاذ الهضيبي وقتها، لم تؤسِّس هذا التنظيم، وليست هي المسئولة عنه، وإنما يُسأل عنه العدد المحدود الذين دعوا إليه ونظَّموه. ومن الظلم أن تحمَّل جماعة كبيرة كالإخوان وزر فئة محدودة منها، لم تلتزم بخطها، ولم تأخذ إذنًا من مرشدها العام. كما أن جماعة الإخوان غير موجودة قانونًا، ومحلولة رسميًّا، فلا يجوز أن يُنسَب إليها أي عمل، والأفراد ينبغي أن يحملوا جزاءَ ما عملوا بصفتهم الفردية. والثاني: أن هذه الأشياء التي ذكروها في اتهام هذا التنظيم — إن افترضنا صحتها — لم يُنفَّذ منها شيء على أرض الواقع، وقد قيل: إن بعضهم كتبها على ورقة، باعتبارها أشياء يفكر فيها، أو مقترحات قد يعرضها على غيره، أو نحو ذلك. والإنسان إنما يُسأل — شرعًا وقانونًا — عما يعمله بالفعل، أو يشرع في عمله، ويأخذ في ذلك خطوات للتنفيذ. أما أحاديث النفس وخواطرها، وما يدور بتفكيرها، فلا يحاسب عليها الدين، ولا يحاسب عليها القانون. وفي الحديث الصحيح: "إن الله عفا عن أمتي ما حدثت بها أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم" علام حوكم سيد قطب؟ الحقيقة أن سيد قطب وتنظيمه لم يحاكما من أجل (الأعمال الخطيرة) التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل (الأفكار الخطيرة) التي اعتنقها، أو دعا الناس إليها. ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة لقالوا: إننا حاكمنا الرجل — بل حكمنا عليه بالإعدام — من أجل أفكاره، لا من أجل أعماله. والعجيب أن الذي كان يحاكم أفكار سيد قطب ضابط محدود الثقافة، قليل البضاعة من العلم والفكر، وإن كان لواء في الجيش. فإن كان لا بد من محاكمة فكر سيد قطب، فلتكوَّن له لجنة من كبار العلماء والمفكرين، تناقشه فيما ذهب إليه. لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب (معالم في الطريق)؛ فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده، وإن كان أصله مأخوذًا من تفسيره (في ظلال القرآن) في طبعته الثانية، وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى. كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى التي نشرتها (مكتبة وهبة)، ولكن بعد أن حُكم بإعدام سيد قطب، وبعد أن كتبت له الشهادة أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف. وصدق ما قاله عليه رحمة الله: (ستظل كلماتنا عرائس من الشمع، لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها؛ دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة!). فهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب، بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها! الحكم بالإعدام حوكم سيد قطب أمام (محكمة عسكرية)، تتكون من ضباط كبار، وإن من العجب — حقًّا — أن يحاكِمَ رجل عسكري — مهما تكن خبرته ومعرفته — رجلًا في حجم سيد قطب الأديب الشاعر الناقد العالم الداعية المفكِّر!! وفي نهاية المحاكمة التي راقبها الكثيرون في كل مكان، فوجئ الناس بالحكم على ثلاثة من المتهمين بالإعدام: سيد قطب، ومحمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلى آخرين بأحكام متفاوتة. إن دمَ سيد قطب ورفيقيه سيظل لعنة على من سفكوه بغير حق، وسيظل يطاردهم، حتى يثأر له القدر من الطغاة الظالمين، ويستجيب لدعاء المظلومين الذي يرفعه الله فوق الغمام، ويفتح له أبوب السماء، ويقول الرب: "وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين". مشاركتي في مظاهرة عمان للتنديد بإعدام سيد قطب: بعد تنفيذ حكم الإعدام، الذي صدر من المحكمة العسكرية في مصر، وضرب جمال عبد الناصر عُرْض الحائط بكل النداءات والتوسلات التي وصلت إليه من بلاد العرب والمسلمين. سيد قطب والتكفير الحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية، تكوَّن هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم (أسقطوا حاكمية الله تعالى) ورضوا بغيره حكمًا، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، ولقد ناقشت المفكر الشهيد في بعض كتبي بعض أفكاره الأساسية، وإن لامني بعض الإخوة على ذلك، ولكني في الواقع، كتبت ما كتبتُ، وناقشتُ ما ناقشت، من باب النصيحة في الدين، والإعذار إلى الله، وبيان ما أعتقد أنه الحق، وإلا كنت ممن كتم العلم، أو جامل في الحق، أو داهن في الدين، أو آثر رضا الأشخاص على رضا الله تبارك وتعالى. ونحن نؤمن بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وأن ليس في العلم كبير، وأن خطأ العالم لا ينقص من قدره، إذا توفَّرت النية الصالحة، والاجتهاد من أهله، وأن المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرًا واحدًا، كما في الحديث الشريف، سواء أكان خطؤه في المسائل العلمية أم العملية، الأصولية أم الفروعية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة (التكفير) والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من (الظلال) ومما أفرغه في كتابه (معالم في الطريق) أن المجتمعات كلها قد أصبحت (جاهلية). وهو لا يقصد بـ(الجاهلية) جاهلية العمل والسلوك فقط، بل (جاهلية العقيدة)، إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترضَ بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى.
5199
| 01 يوليو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : الحادية عشرة إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه). ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!. وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. وفي هذه الحلقة يتحدث الشيخ القرضاوي عن المعلم الرائد التربوي محمد إبراهيم كاظم محمد إبراهيم كاظم أول مدير لجامعة قطر (حوالي 1346 - 1412هـ = 1928- 1992م) المعلم الرائد التربوي محمد إبراهيم كاظم، من مواليد القاهرة 26/12/1928م، حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة كنساس، وبدأ عمله محاضرًا في كلية المعلمين في القاهرة سنة 1957م، ومن ثَمَّ عمل محاضرًا في طرق تدريس العلوم بجامعة عين شمس، وقد شغل العديد من المناصب، منها: الملحق الثقافي لمصر في الفلبين، وعمل أستاذًا مشاركًا للتربية بجامعة بغداد، وهو مؤسس كلية التربية بجامعة الأزهر، وعميدها الأول، هو عميد كليتي التربية ثم جامعة قطر ورئيسها الأول، وفي عام 1986م انتقل الدكتور محمد للعمل في اليونسكو، فعمل مديرًا إقليميًّا لمكتب اليونسكو للتربية في العالم العربي، ثم منسقًا إقليميًّا للمنطقة العربية، ثم ممثلًا شخصيًّا لمدير عام اليونسكو في العالم العربي. ونظرًا لكونه باحثا متميزا، ترأس العديد من مجالس البحث العلمي في الجامعات، وحصل على العديد من الجوائز التقديرية، وله أكثر من 100 بحث أكاديمي أو دراسة متنوعة في مجالات التعليم والتربية، والأصول الاجتماعية، والتكنولوجيا واستخداماتها، والسياسات العلمية والأكاديمية والتنظيمية. تعرفي على الدكتور كاظم بعد انتهاء مناقشتي لرسالة الدكتوراه عن (الزكاة) من جامعة الأزهر، كان عليَّ أن أسعى لاستخراج ورقة من جامعة الأزهر بحصولي على الدكتوراه، فإن الشهادة الأصلية لا تستخرج إلا بعد مدة، وهذا جعلني أتردد على مدير الجامعة، وكان في حينها الأستاذ الدكتور بدوي عبد اللطيف، أستاذ التاريخ، الذي كان قد سمع عني، فاستقبلني بحفاوة، ورحَّب بي، وتحدثنا في أمور الجامعة، وآمال الناس فيها، وحدثته عن السنة التأهيلية وأهميتها في تكوين من يُنسَب إلى الأزهر، وما يجب أن يكون عليه، فقال لي: ليتك تكتب لي هذا الكلام، أو خلاصته في بضع صفحات، لأستفيد به، ففعلتُ ذلك، وذهبت إليه بعد يومين أو ثلاثة، فوجدتُ عنده أستاذًا قدَّم لي نفسه، وقال: أنا سآتي عندكم إلى قطر في العام القادم. قلت له: من حضرتك؟ قال: أنا الدكتور محمد إبراهيم كاظم، عميد تربية الأزهر، وقد اخترت عميدًا لكليتكم الناشئة. قلت له: أهلًا بك في قطر، وقد سمعتُ عنك قبل أن أراك. وسرعان ما أَنِسَ كلانا بالآخر، كأنما تعارفنا من قديم، وقال لي: إذا لم يكن لديك مانع، فتعالَ نترافق في بعض المشاوير معًا. وركبت معه سيارته، وذهب بي إلى مكتبه في كلية التربية بجامعة الأزهر في مدينة نصر، وأخذ منه بعض الأوراق، ثم ذهبت معه لزيارة فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى، وكان الشيخ يعرفني، فرحَّب بي كثيرًا. بعد ذلك استأذنت من الدكتور كاظم في الانصراف، على أن نلتقي كلما سنحت الفرصة، لأحدثه عن قطر وأوضاعها، ليستكمل فكرته النظرية عنها. وكان الذي رشح الدكتور كاظم لعمادة كلية التربية في قطر، أو قل: للكليتين، كلية البنين وكلية البنات، وكان الذي رشَّحه لذلك هو الدكتور كمال ناجي مدير المعارف في قطر، بناء على تزكية من الدكتور عبد العزيز كامل، الذي يعرفه معرفة جيدة. وعملت مع دكتور كاظم في كلية التربية، فقد نصحني كثيرون أن أنتقل للعمل في الكلية الناشئة، ففي ذلك فرصة لتحسين وضعي المادي والأدبي، وبخاصة أن الكلية سيكون فيها قسم للدراسات الإسلامية، وكلمت الشيخ خليفة في الأمر، فأصدر قراره فورا بتعييني في الكلية رئيسًا لقسم الدراسات الإسلامية بدرجة أستاذ مساعد (أستاذ مشارك في مصطلح بعض الجامعات)، هذا مع بقائي مديرًا للمعهد الديني- الذي كنت مديره منذ مجيئي إلى قطر- إلى جوار عملي الجديد، وكان رقم وظيفتي في الكلية هو (6) بعد التعاقد مع الدكتور كاظم وأربعة آخرين معه. وبعد قدوم الدكتور كاظم إلى قطر عميدًا لكليتي التربية، وزوجته الدكتورة صفاء الأعسر أستاذة علم النفس، وكنت قريبا منه، وكان قريبا مني، ويحاول دائما أن يتعرف مني على الأوضاع في قطر، وكان يحب التحدث مع الطلاب والطالبات، ويتقرب من الجميع. وكان الطلاب في أول الأمر قليلين. ثم بعد أربع سنوات، أصدر الشيخ خليفة بن حمد أمير البلاد قانون جامعة قطر التي بدأت بأربع كليات وهي: كلية التربية، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، كلية العلوم، كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وكان الدكتور كاظم هو المؤسس الأول لهذه الجامعة. وقد توليت عمادة كلية الشريعة. تنظيمه رحله لي إلى دول الشرق الأقصى: ومما أذكره للدكتور كاظم أنه في أثناء إدارته لجامعة قطر، أراد أن ينظم لي رحلة إلى بلاد الشرق الأقصى، ألتقي فيها برجالات الإسلام، وبالجمعيات الدينية، والحركات الإسلامية، والجامعات المعتبرة، في كل من: ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة والفلبين وهونج كونج وكوريا واليابان. وقد كتبت الجامعة إلى هذه البلدان كلها، وإلى أهم الشخصيات التي سألقاها، محددة بتواريخها، فكانت رحلة منظمة غاية في التنظيم. وكان لسكرتيرة د. كاظم السيدة (إيفون) دور أساسي في حسن ترتيبها، بالبرقيات المتتابعة، وبالاتصال الهاتفي عند اللزوم، ولم تكن الفاكسات قد ظهرت بعد، حتى انتظمت الرحلة من بدايتها إلى نهايتها بحمد الله. وكانت رحلة موفقة، فقد ذهبت إلى ماليزيا، ألقيت فيها عدة محاضرات، وزرنا فيها بعض الولايات، والتقيت لأول مرة أخانا أنور إبراهيم. وذهبنا بعدها إلى إندونيسيا، ونزلنا في مطار جاكرتا، ووجدنا من ينتظرنا في المطار، وكان هذا من ثمرات حسن تنظيم الرحلة: أننا نجد في كل مطار من ينتظرنا ومن حجز لنا في الفندق، ويسر لنا أمورنا، وهذا من فضل الله، ومن بركات الترتيب والإعداد الجيد. وكان أهم من لقيناه: الدكتور محمد ناصر رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، في إندونيسيا، وقد أعد لي برنامجا حافلا لزيارة الجامعات والمدارس الإسلامية، ومراكز النشاط الإسلامي المختلفة، (فزرنا جامعة ابن خلدون)، وزرنا المدرسة الشافعية، والمدرسة الطاهرية، وزرنا مجلس العلماء. وغادرنا إندونيسيا إلى سنغافورة، ثم الفلبين، ثم اليابان، ثم كوريا الجنوبية، ثم كانت هونج كونج المحطة الأخيرة. سعيه في أن أحصل على درجة الأستاذية: بعد سنتين في الكلية أحسست بفارق الدرجات في الكادر الجامعي، فدرجة المدرس غير درجة الأستاذ المساعد، وهي غير درجة الأستاذ، لا في الناحية المادية فقط، ولكن في القيمة الأدبية. وكلمت الدكتور كاظما في ذلك، وقلت له: إن الجامعات السعودية تعطي الدرجات بالأهلية والشهرة العلمية، وليس بالشهادات ولا بالأقدمية، لما للشخص من تميز وعطاء علمي، وإذا كانوا في الجامعة محتاجين إلى أبحاث للترقية، فعندي أبحاث جاهزة، وأكثر من المطلوب. وتجاوب معي الدكتور كاظم، وقال: نزور معا الشيخ قاسم بن حمد وزير التربية، ونكلِّمه في هذا الأمر، فكانت استجابة الرجل أسرع مما توقعنا، وقال له: يا دكتور، الشيخ يوسف عندنا شيخ الأساتذة! وما هي إلا أيام حتى صدر القرار من الشيخ خليفة بن حمد أمير البلاد بتعييني في درجة أستاذ. ثم اتسعت الجامعة الناشئة إلى عدة كليات، وأصبح دكتور كاظم مديرها، وأصبحت عميد كلية الشريعة. حسن اختياره للرجال: كان الدكتور كاظم عميد الكلية- أو قل: عميد الكليتين- يحسن اختيار الرجال، فاختار عددًا من الأساتذة الأقوياء الأمناء في التخصصات العلمية والأدبية، مثل الدكتور محمد فتحي سعود في الأحياء، والدكتور كمال البتانوني في النبات، والدكتور حسين أبو ليلة في الفيزياء، والدكتور عمر عبد الرحمن في الكيمياء، والدكتور ماهر حسن فهمي، والدكتور عبد العزيز مطر في اللغة العربية، وغير هؤلاء ممن قامت على كواهلهم جامعة قطر. موقف طريف: من الطرائف التي أذكرها للدكتور إبراهيم كاظم أيام عمادته لكلية التربية: أنه كان يقول في اجتماعاته مع الأساتذة: إن الامتحان لا يخصص له وقت معين، إنما يكون في المحاضرة الأخيرة؛ يقصد في وقت المحاضرة الأخيرة. لكن زميلي في قسم الدراسات الإسلامية الدكتور أحمد سُكَّر فهم أن الامتحان في آخر محاضرة فقط؛ يعني أن الطلبة لا يمتحنون ولا يسألون في كل ما أخذوه مدة الفصل الدراسي، ولكن في المحاضرة الأخيرة، وأبلغ الطلبة ذلك، ووضع الأسئلة على هذا الأساس، وأخذ جميع الطلبة درجة "أ" أي امتياز!! مؤتمر (الحضارة العربية بين الأصالة والتجديد): ومن الطرائف التي أذكرها أيضا له: أنه قد دعت الجامعة اللبنانية في بيروت إلى مؤتمر كبير، يدور حول موضوع أساسي ومهم، هو: (الحضارة العربية بين الأصالة والتجديد)، وقد فوجئ الدكتور كاظم عميد الكلية بأني أعددت بحثا للمؤتمر، وكأنه أحرج بأنه لم يرشحني، فقلت له: لا عليك، فإني أستطيع أن أذهب على حسابي. قال: بل تذهب على حساب الجامعة، ويذهب د. ماهر على حساب الدولة. وسافرت أنا والدكتور ماهر، وحضرنا المؤتمر الذي استمر عدة أيام، ثم عدنا إلى الدوحة، وإن كنت لم أحصل من الجامعة على ثمن التذكرة، كما وعد د. كاظم، ولكن ما كسبته من المؤتمر كان أغلى وأعظم من ذلك. د. كاظم ومعرفته بالرجال وبالمجتمع : كان الدكتور كاظم حسن الصلة بالناس، ويعرف أقدار الرجال، العالم يعرف علمه، والمالي يعرف ماله، والرئيس يعرف رئاسته، ويعطي لكل واحد منهم ما يستحقه. وقد حاول أن يعرف معادن الناس في قطر ما أمكنه، وأن يعامل الجميع بما يستحقون، ومنهم الشباب القطري الناهض، الذي تخرج في الجامعات الأمريكية والأوربية، وأحيانا العربية، وفتح لهم الأبواب، ووضع أمامهم الآمال، ولم يقف ضد طموح طامح. هذا مع حرصه على أن يقدم الرجل الذين تعرفهم، ويعرف مقدرتهم العلمية والعملية، مثل الدكتور جابر عبد الحميد، الذي اختاره وكيلا للجامعة، ومثل د. خيري كاظم أستاذ التربية المخضرم والمعروف للدارسين، الذي كلفه بعمادة كلية التربية. ومعرفة بالإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود، ودعوته لزيارة كلية التربية، ومحاضرة الأساتذة والطلاب والطالبات في الجامعة، ومعرفته بالكثيرين من الأساتذة والمفكرين المتخصصين في جميع العلوم العربية والغربية، ودعوة كثير من هؤلاء إلى قطر للإسهام في موسم محاضراتها. وقد ظل يعمل د. كاظم في هذا الجو المعبأ بالنسائم والعطور، وتغريدات الطيور، حتى رأى بثاقب فكره، وبعد نظره: أن يودع هو جامعة قطر، قبل أن تودعه هي، وأن يسافر منها، وهي تحضنه وتعانقه، وتمتدحه في كافة كلياتها، فقرر أن يستجيب لما كان معروضًا عليه من الأمم المتحدة، ومن مجالسها العليا. وقد قررت الجامعة بكل كلياتها وإداراتها إقامة احتفالات مناسبة بتكريم الدكتور كاظم، وتقديم الهدايا الملائمة له، وعمل ولائم كاظمية بهذه المناسبات الرائعة. وودعناه والحمد لله، خير ما يودع الصديق صديقه. ونحن نقول ما قال الشاعر : ولست أقول: صديقي الوداع ولكن أقول: إلى الملتقى مؤلفاته: وضع د. كاظم أكثر من 100 دراسة متنوعة في مجالات التعليم والتربية والأصول الاجتماعية والتكنولوجيا واستخداماتها والسياسات العلمية والأكاديمية والتنظيمية، من هذه الدراسات والمؤلفات: (العقوبات المدرسية: بحث ميداني). و(تطورات في قيم الطلبة). و(اتجاهات في التعليم الشعبي). و(مرشد تمرين المدرس). و(اعتبارات في سياسات قبول طلاب الجامعات في دول الخليج العربي في ضوء سياسات التنمية) بالاشتراك مع نبيل أحمد صبيح. و(دراسات في التربية الإسلامية وأصولها: النظرية والفلسفية). و(اعتبارات ومعالم برنامج لمسيرة التعليم في مصر) دراسة. العلامة الشيخ صلاح أبو إسماعيل الداعية الكبير، والبرلماني الشهير، والمفسر الأثير (1345 - 1410هـ = 1927 – 1990م) في شهر مايو سنة 1990م فُجِعْنا بنبأ وفاة أخينا وصديقنا الكريم، الداعية الكبير، والبرلماني المصري الشهير، الشيخ صلاح أبو إسماعيل، الذي سعدنا به منذ زمن قريب في قطر، وودَّعناه ذاهبًا إلى (أبو ظبي) لتسجيل حلقات مطلوبة منه، في تفسير القرآن الكريم، على ما أذكره. وقد أطال الشيخ المقام في أبو ظبي، كلما عزم على الرحيل، ألَحُّوا عليه ليتأخَّر لمزيد من التسجيل، والشيخ يُراعي خاطرهم، ويستجيب لهم، مع أنه كان مرهقًا، وفي حاجة إلى الاستجمام والراحة، ولا سيما في مثل سنه وحالته الصحية. وقديمًا قالوا: من الحب ما قتل! ومن الحب ما يمرض ويؤذي! أو كما قال أبو الطيب: ومن العداوة ما ينالك نفعُه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم! وأخيرًا سُمح للشيخ أن يسافر ويعود إلى وطنه، وكان عادة يسافر وحده بلا رفيق، وفعلًا حزم أمتعته، وذهب إلى مطار أبو ظبي مرهقًا شديد الإرهاق. وفي مطار أبو ظبي، وهو ينتظر إقلاع الطائرة، مسترخيًا في صورة نائم، وافاه الأجل، ونفدت آخر قطرة في سراج العمر، وفوجئ الناس بالشيخ، وقد فاضت روحه إلى بارئها، راضية مرضية إن شاء الله، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]. كان الشيخ صلاح داعية مرموقًا، له شخصيته المتميِّزَة، وله أسلوبه الخاص، وله جمهوره المحبُّ له، وكانت له عقلية علمية منفتحة على التراث وعلى العصر، ولسان فصيح، وحديث عَذْب، ونفسية مشغولة بهموم الناس، شغلها بنصرة الدين، وقلب شجاع، لا يخاف في الله لومة لائم، ووجه هادئ باسم، تحس أن وراءه نفسًا زكية، وسريرة طاهرة، إلى روح فَكِهة، تتذوق النكتة المصرية، وتسهم فيها. قارئ مفسِّر داعية: كان حافظًا متقنًا للقرآن الكريم، يُحسن تلاوته وترتيله بصوت جميل، كثيرًا ما كان يُدعى في مآتم منطقته ليقرأ القرآن، ولكنه لم يكن يتقاضى عليه أجرًا، ثم تميَّز عن القراء الآخرين بأنه يقرأ الربع ثم يفسِّره للناس، وكان له فيه تذوُّق، وحُسْن فهم. فهو قارئ وداعية. نجاحه الباهر في الانتخابات: وهذا هو الذي عرّف الناس به، وعرَّفه بهم، فلما رشَّح نفسه لمجلس الشعب، كان أهل منطقته جنودًا له، يفدونه بأنفسهم وما ملكت أيديهم، حتى إنهم كانوا يستميتون في حراسة صناديق الانتخاب، ويستقتلون في الدفاع عنها، حتى لا تُسرق وتبدَّل بصناديق أخرى. وهذا هو ما جعل الشيخ ينجح في مرات كثيرة رغم أنف الحكومة، ورغم التزوير المكشوف في أكثر الدوائر. حيلة لطيفة لحفظ الصناديق من التبديل: وقد هداه ذكاؤه إلى حيلة لطيفة لحفظ الصناديق من التبديل، وهو أن يعطي كل مسؤول عن صندق (قرش صاغ) يضعه في الصندوق، ويقول: هو مندوب عني، ثم بعد ذلك لا يقبل صندوقًا إلا إذا وجد فيه القرش! وإلا كان معناه أنه غُيِّر. شعاره في الانتخابات: كان شعاره في الانتخابات: أعطني صوتك لنصلح الدنيا بالدين. وكان هتاف الناس له: يحيا العلم ويحيا الدين.. وعاش الشيخ أبو إسماعين. والعامة في مصر ينطقون لام إسماعيل نونًا. معرفتي بالشيخ صلاح أبو إسماعيل: عرفت الشيخ صلاح أبو إسماعيل أول ما عرفته، عندما كنَّا طلابًا في الكليات، كنتُ في كلية أصول الدين، وكان هو في كلية اللغة العربية، وكان كلانا من طلاب الإخوان المسلمين. كنت مسؤولًا عن طلاب الإخوان في كليات الأزهر، ومعهد القاهرة، وكان هو مسؤولًا عن طلاب كلية اللغة العربية، وكنا نلتقي في اجتماعاتنا الدورية، وفي المركز العام، وفي رحلات إلى جبل المقطم، وفي مخيمات تربوية يقيمها الإخوان بين حين وآخر. ثم تخرجنا، وجاءت مِحَن الإخوان، وفرّقت بيننا الأيام، وأُعِرْتُ إلى قطر، وبقيت فيها، واستقر هو في مصر. ثم جمعنا العمل الدعوي العام في أقطار شتى، ومناسبات عدة، في ندوات ومؤتمرات ولقاءات: في مصر، وفي قطر، وفي الجزائر، وفي السودان، وفي المملكة العربية، وفي الإمارات، والكويت.. وغيرها من بلاد الإسلام، وخارج بلاد الإسلام. وكان الشيخ صلاح رجلًا محبَّبًا إلى كل من يعرفه، لذكاء عقله، وسعة علمه، ودماثة خلقه، ولطف معاشرته، وسماحة نفسه، وإشراقة وجهه، وابتسامة ثغره، وتوقُّد حماسته، وتواصل نشاطه، وصبره على العمل والتنقل والحركة، رغم ضخامة جسمه، وثقل وزنه، لكنه كان قوي العزيمة، عالي الهمة، عميق الإيمان، عظيم الأمل في انتصار الإسلام، شديد اليقين بنجاح دعوته، إذا وجدت الداعية المؤهَّل باليقين والأخلاق والعلم والحضور وحسن الطريقة. الصوت الجهير في مجلس الشعب: كان صوته جهيرًا في مجلس الشعب المصري، الذي مثَّل دائرته فيه لعدة دورات. وكان مطالبًا بتحكيم الشريعة، داعيًا إلى الحريات، ولا سيما الحرية السياسية، منتقدًا للأوضاع العوجاء بصراحة وقوة، مستفيدًا من حصانته البرلمانية. وقد ظل يسعى ويجتهد في المجلس، حتى أصدر جملة من القوانين الموافقة للشريعة الإسلامية، ولكنها ظلت حبيسة الأدراج، لم تخرج إلى النور، لأنه لم توجد (الإرادة السياسية) التي تتبناها وتحولها إلى واقع مشهود. شهادته الصريحة في محكمة أمن الدولة: ولقد دعته محكمة أمن الدولة، التي كانت تحاكم (تنظيم الجهاد)، ليدلي بشهادته باعتباره شاهدَ نفيٍ، وبوصفه أحد علماء الأزهر، الذين اشتهروا بالدعوة إلى الإسلام في مصر وغيرها، وقد أدلى الشيخ في المحكمة بشهادته الخطيرة الصريحة التي هزت الدنيا، وزلزلت أركان الحكم في مصر زلزالًا! اتهم فيها بالكفر والفسق والظلم، وفقا لما جاء به القرآن في سورة المائدة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [ المائدة:44] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. وقد نشرها في كتاب بعنوان (الشهادة). دعوة جمع غفير من الدعاة إلى قريته: في إجازة من إجازات الصيف، دعا الشيخ صلاح عددًا من شيوخ العلم والدعوة (أذكر منهم شيوخنا: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والفقير إليه تعالى، وجمًّا غفيرًا من الدعاة لم أعد أذكرهم) إلى قريته بهرمس، مركز إمبابة، في محافظة الجيزة، لنطلع على المؤسَّسات التي أنشأها من تعليمية وصحية واجتماعية، وأقام لنا وليمة كبرى في بيته، جمع فيها ما لذَّ وطاب، إكرامًا لإخوانه. وقد مازحته يومها فقلت له: يا شيخ صلاح، الصوفية يقولون: العادة تثبت بمرة واحدة! فقال: وأنا موافق، وليتكم في كل صَيْفِيَّة تكرمونني بهذه الزيارة، فأنا والله الفائز. وأحسب أننا زرناه مرة أخرى، ولكن كان العدد محدودًا، وليس كالمرة الأولى. المسيرة المليونية في السودان تأييدا لتطبيق الشريعة: دعا الرئيس السوداني جعفر نميري، إلى مسيرة مليونية تأييدا لقراره بتطبيق الشريعة الإسلامية، وشارك فيها بقوة: الإسلاميون، وكل فئات الشعب، وحضر عدد كبير من العلماء من بلاد عربية وإسلامية شتى، منهم: شيخنا الشيخ محمد الغزالي، وأخونا الداعية الكبير الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وكثيرون من علماء العالم الإسلامي لم أعد أذكرهم. قد أقيم للمدعوين سرادق في مكان متميز في الخرطوم، بحيث يشرفون من موقعهم على المسيرة وهي تمر أمامهم، ممثلة لفئات المجتمع المختلفة، ومهنه المتنوعة، من الجمعيات الخيرية، ومن الطرق الصوفية، ومن النقابات المهنية، ومن التجمعات القبلية، ومن الجماعات السياسية، ومن غير ذلك من الفئات والجهات، التي شملت الشعب كله، وكلها تهتف من أعماقها للشريعة الإسلامية، وللدعوة الإسلامية، وعلى وجوه الناس الفرحة والثقة، وهذا استفتاء صادق للشعب، وقد كان الجو حارًّا، والمسافة طويلة من بداية المسيرة في الخرطوم إلى منتهاها في أم درمان، ولكن الناس كانوا أقوى من الحر، وأقوى من طول المسافة. وفي الحقيقة كان يومًا حافلًا، ويومًا رائعًا، ويومًا من أيام الله، وكان كثير من المدعوين– وأنا منهم – تغرورق عينه بالدموع، كلما رأى هذه المناظر الشعبية التلقائية، المؤيدة لشرع الله، وأحكام الله. وكان أخونا الشيخ صلاح أبو إسماعيل يقول في حرقة وحرارة: متى أرى مثل هذه المسيرة في القاهرة؟ أسأل الله ألا يميتنا حتى يقر أعيننا برؤية مثل هذه المسيرة. ولكنه انتقل إلى رحمة الله قبل أن يرى هذه المسيرة.
2425
| 27 يونيو 2015
الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : السادسة إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. فى هذه الحلقة يتطرق فضيلة الشيخ د. القرضاوى بكتابه " فى وداع الاعلام" الشيخ محمود محمد شلتوت، الفقيه المجدد الذائع الصيت. ويقول فضيلته كنت أزوره في بيته في حي (الظاهر) قبل أن ينتقل إلى مصر الجديدة. وأستفيد من فقهه ونظراته التجديدية، وكنا تعودنا أن نزوره جماعة: أنا والأخ أحمد العسال، والأخ أحمد حمد، وكنا ثلاثتنا متلازمين في هذه الزيارات للمشايخ الكبار، وقد قال لنا الشيخ شلتوت مرة: أرجو أن تظلوا مترابطين، وأن تظل أخوتكم دائمة، ولا تفرق الأيام بينكم، كما حدث لإخوة قبلكم. وكنا نستغرب هذا الكلام الذي ليس له أية مقدمات، ثم أثبتت الأيام صدقه.وكان مما نحرص عليه ثلاثتنا محاضرات (دار الحكمة) في تفسير القرآن الكريم، ذلك المورد العذب الذي ازدحم عليها القُصَّاد في تلك الفترة، وكان الذي يقوم بهذه المحاضرات أربعة من رجال العلم المشاهير في ذلك الوقت. أولهم: الفقيه المفسِّر الشهير الشيخ محمود شلتوت، الذي ذاع صيته، وانتشرت دعوته إلى التجديد، وغدت له شعبية واسعة بين الناس بأحاديثه الصباحية في إذاعة القاهرة، هو والشيخ محمد المدني، حتى إن السيدة أم كلثوم سئلت مرة عن أحب الأصوات التي تحب أن تسمعها، فقالت: صوت الشيخ محمود شلتوت.والمفسِّر الثاني كان الفقيه المعروف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، وصاحب كتاب (أصول الفقه) وغيره من الكتب الشرعية.والثالث كان الأستاذ عبد الوهاب حمودة أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب. ونسيت الرابع.وكان للشيخ شلتوت أحاديثه الصباحية في إذاعة القاهرة في التفسير، وكان يحضِّر درسه التفسيري تحضيرًا جيدًا، وكان له نظرات ووقفات تأملية في كتاب الله، أودعها بعد ذلك في مقالاته التي نشرها في مجلة (رسالة الإسلام)، التي كانت تصدر عن (دار التقريب) بين المذاهب في القاهرة، ثم خرجت بعد ذلك في كتاب في التفسير حول الأجزاء العشرة الأولى.وكنت أنا وأخي أحمد العسَّال، كُلِّفنا بنقلها من المجلة لتأخذ صورة الكتاب، حتى إن الشيخ شلتوت رحمه الله — وقد كان وقتها شيخًا للأزهر — أذن لي بأن أملأ الفجوات التي أراها بقلمي وأسلوبي الخاص، ثقة منه بي.لهذا فكرنا جديًّا أن ننتقل من الأوقاف إلى الأزهر، فهو مكاننا الطبيعي، ولا سيما أن شيخنا العلامة محمود شلتوت هو الآن شيخ الأزهر، وإمامه الأكبر، وبيننا وبينه من قديم مودة مكينة، وصلة متينة، ونعتقد أننا إذا ذهبنا إليه وكلمناه في نقلنا إلى الأزهر، فلن يتأخر عن تلبية طلبنا.* بيت العائلة وهذا ما حدث بالفعل، فقد زرنا الشيخ في بيته، وحدثناه عن وضعنا في الأوقاف، ورغبتنا في الانتقال إلى بيتنا — بيت العائلة — بالأزهر، فرحب الشيخ بنا كل الترحيب، وقال: الأزهر داركم وموئلكم، وأنتم أبناؤه البررة، والأب يرحب بعودة أبنائه إليه، وإن اغتربوا فترة عنه. وطلب الشيخ الأكبر من صهره ومدير مكتبه الأستاذ أحمد نصار أن يكلم الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية، لينقلنا إلى إدارته، فرحب بذلك وأيده. بل طلب الإسراع بإنجاز الإجراءات اللازمة التي كثيرا ما تطول بين الوزارات والمؤسسات المختلفة.وانتقلنا إلى الأزهر لنعمل في مراقبة البحوث والثقافة، التابعة للإدارة العامة للثقافة الإسلامية، تحت إشراف مديرها العام الأستاذ الدكتور محمد البهي أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية.فكر الدكتور البهي فيما يسند إليّ أنا وزميلي العسال من عمل، ثم قال: لدينا عمل كبير لا ينجزه غيركما، وهو أن ننشر تراث الشيخ شلتوت على الناس في كتب كبيرة، ولا بد أن نجمع هذا التراث من مظانه المختلفة في الصحف والمجلات، وفيما لدى الشيخ الأكبر من مقالات أو مسودات. وأنتما أهل لتجميع ذلك وتنسيقه وطباعته وتصحيحه، ومطبعة الأزهر رهن إشارتكما.وكان الشيخ شلتوت رغم شهرته وذيوع صيته لا يكاد يوجد له كتب يقرؤها الناس، غير كتاب شارك فيه العلامة محمد علي السايس، وهو كتاب "المقارنة بين المذاهب الفقهية" المقررة على السنة الرابعة من كلية الشريعة جامعة الأزهر.وله كتاب آخر كان في أصله محاضرات ألقاها على طلبة الدراسات العليا بكلية الحقوق، عنوانه: "فقه الكتاب والسنة: القصاص". وله رسالة صغيرة عن "القرآن والقتال"، وأخرى عن: "القرآن والمرأة" وثالثة عن "منهج القرآن في بناء المجتمع".وما عدا ذلك له فتاوى وبحوث في جوانب شتى، نشرها في بعض المجلات، أو بعض الصحف اليومية، أو بثتها الإذاعة المصرية، من ذلك ما كان في مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها الأستاذ الزيات، وما كان في مجلة (الأزهر)، وما كان في مجلة (رسالة الإسلام) التي تصدر عن (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) بالقاهرة.* التراث وتجميعه وكانت الخطوة الأولى هي التنقيب عن هذا التراث في مظانه المختلفة، وتجميعه من كل من عنده شيء منه.وبعد أن تجمع لدينا كم كبير من تراث الشيخ، ترجح لنا أن نضعه في أربعة كتب كبيرة:الأول: يتضمن الجانب الفقهي والأصولي أو التشريعي من كتابات الشيخ، والذي كان قد كتب فيه رسالة صغيرة الحجم، سماها: (الإسلام عقيدة وشريعة)، وفيه أفرغنا كتاب (فقه القرآن والسنة)، وبعض ما كتبه الشيخ حول هذا الجانب من العقيدة والشريعة.والثاني: يتضمن (فتاوى الشيخ) التي أصدرها ونشرها في مناسبات مختلفة، وهي فتاوى تتسم بالتجديد والجرأة، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة معًا. وقد أودعنا فيه كل ما عثرنا عليه من فتاوى الشيخ.والثالث: يتضمن المقالات الدعوية والتوجيهية في شتى جوانب الدين والحياة، وهو الذي اختار له الدكتور البهي عنوان (من توجيهات الإسلام).والرابع: يتضمن مقالات (التفسير) للقرآن، التي نشرت في مجلة (رسالة الإسلام)، وكان جمعها أسهل من غيرها؛ لأنها مكتوبة منشورة مرتبة، فلا تحتاج أكثر من التجميع.العمل على إخراج تراث الشيخ وثقته بي:كنت أرى أن من القربات إلى الله أن نعمل على إخراج علم الشيخ شلتوت إلى النور، لتنتفع به الأمة، وأن أي جهد نبذله فهو — إن شاء الله — في ميزاننا، وإن ضاع عند الناس، فلن يضيع عند الله.وعند جمع تراث الشيخ شلتوت، مع أخي أحمد العسال، كنا نراجع الشيخ في بعض الفقرات التي تكون لنا عليها ملاحظة، فيقرنا عليها، وأحيانًا يوكلني بإتمام ما أراه ناقصًا.وأذكر أنَّا عرضنا عليه أن بعض الآيات في سورة الأنفال، لم تأخذ حقها من الشرح رغم أهميتها، فقال لي: سُدّ هذه الفجوة بما تراه. ذلك تفويض مطلق. وكان الأخ العسَّال كلما مر على هذه الفقرة ونحوها يقول: هذه قرضاوية. فأقول له: قد أصبحت بإقرار الشيخ شلتوتية!والحقيقة أن ثقة الشيخ بي كانت غير محدودة، فكثيرًا ما أحال إليَّ بعض الأشياء المعضلة لألخصها له، مثل رأي ابن القيم في (فناء النار) وقد لخصته له من كتابيه: (شفاء العليل في القدر والحكمة والتعليل) و(حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).* ادب العلماء وأحيانًا يحيل عليَّ بعض الاستفتاءات لأرد عليها بقلمي. مثل فتوى إفطار الجنود في الصوم عند قتال العدو، وقد كتبتها وسلمتها للشيخ ونشرت باسمه.زيارة المودودي للشيخ شلتوت في بيته:وأذكر أنه عندما زار المودودي مصر، طلب مني الدكتور البهي، أن أصحبه ليزور إدارات الأزهر المختلفة، وصحبته إلى مكتب الشيخ شلتوت في مكتبه، ورحَّب به كثيرًا، وأشاد بفضله ومنزلته في تجديد الفكر الإسلامي، وكان الشيخ شلتوت قد علَّق في إحدى مقالاته على رسالة (نظرية الإسلام السياسية) للأستاذ المودودي، وقد أودعناها كتابه (من توجيهات الإسلام). ودعاه الشيخ شلتوت إلى زيارته في بيته، ومن الجميل أن الشيخ شلتوت عند زيارته له طلب منه أن يفسر له سورة الفاتحة، وحاول المودودي أن يعتذر فأصر الشيخ، وفسرها الضيف تفسيرًا مختصرًا جميلًا. وهذا من أدب العلماء الكبار بعضهم مع بعض.رأي الشيخ شلتوت في أول كتاب لي (الحلال والحرام):أول نسخة أهديتها من كتابي الأول (الحلال والحرام) أهديتها إلى شيخنا الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت الذي تصفح الكتاب طويلًا، ومدحه بكلمات شجعتني، وسررت بها. مع أني خالفته في بعض المسائل. وحينما أهديت نسخة منه للشيخ عبد الرحيم فودة، وقال لي: أود أن أهنئك يا شيخ يوسف على أمرين: الأول: على منهجك الرائع، وأسلوبك السلس، وترجيحاتك الموفقة في كتابك "الحلال والحرام". والثاني: مخالفتك بصراحة لرأي شيخك وشيخ الأزهر الشيخ شلتوت في مسألة فوائد البنوك الربوية ونحوها. وهذه شجاعة قلما تتوافر إلا لمثلك. قلت: منهج الشيخ شلتوت هو التحرر من الجمود والتقليد، وأظنه لن يطالبنا بالتحرر من تقليد أبي حنيفة ومالك لتقليده هو. إني أعتقد أني وإن خالفت الشيخ شلتوت في بعض آرائه، فإني على منهج شلتوت في اتباع الدليل الراجح حيث لاح للباحث، والنظر إلى القول لا إلى قائله، فإن الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.التقريب بين المذاهب الإسلاميةكان الشيخ من أعضاء (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية)، وألقى حديثا دينيًّا في صبيحة افتتاح إذاعة القاهرة، دعا فيه إلى توحيد كلمة المسلمين ولم شملهم، والقضاء على الخلافات بين المذاهب، بإدخال دراسة المذاهب في الأزهر.وينسب إلى العلامة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر فتوى بجواز التعبد بالمذهب الجعفري. على أساس أنه — في الجانب الفقهي — قريب من مذاهب أهل السنة، إلا في أشياء قليلة، لا تخرجه عن جواز التعبد به في الجملة: في الصلاة والصيام، والزكاة والحج، والمعاملات. وهذه الفتوى لم أرها في نص مكتوب.أنا عايشت الشيخ شلتوت عدة سنوات، وكنت من أقرب الناس إليه، وأخرجت كتب الشيخ شلتوت الأربعة الأساسية.. كتاب (الإسلام عقيدة وشريعة)، وكتاب (فتاوى الشيخ شلتوت)، والأجزاء العشرة الأولى في كتاب التفسير، وكتاب (من توجيهات الإسلام)، وكانت ضائعة في الصحف والمجلات والإذاعة، فجمعتها أنا وزميلي الأخ أحمد العسال، فتراث الشيخ شلتوت أنا أعلم الناس به، وما رأيت هذه الفتوى في حياتي قط، ولم أسمع عنها، ولا سمعته تكلم بها.*الوسطية عند الشيخ شلتوتوالشيخ شلتوت ممّن ركّز على الوسطية وتجلياتها في عصرنا: فقال في تفسير (الصراط المستقيم) في تفسير سورة الفاتحة: (إن من يتتبّع حالة العالم في عصوره المتتابعة قبل الإسلام، فإنه سيجد أن العالم كان يتردّد بين طرفين من إفراط وتفريط، وكان ذلك شأنه في كل شيء: في العقائد، في الأخلاق، في صلة الإنسان بالحياة، في علاقة الفرد بالمجتمع، في علاقة الأمم بعضها ببعض، في طريقة التشريع، إلى غير ذلك من سائر الشئون. وقد جاء الإسلام فأدرك أن العالم لا يصلح بواحدة من هاتين الخطتين، وأنهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية، منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي بالوقوف عند الحدّ الوسط في كل شيء لضمان البقاء والصلاح، وعدم التعرض للانحلال والفساد، وأدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطًا لا إفراط فيها ولا تفريط، ووقعت أحكامها ومبادئها، مهما تنوّعت وتشعبت في هذه الدائرة، التي رسمها كتاب الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]). وفصل الشيخ هذه الوسطية تفصيلا فريدا فبين رحمه الله أن الإسلام وسط في عقيدته بين الذين ينكرون الإله، ويزعمون أن هذه الحياة الدنيا ليست إلا وليدة المصادفات والتفاعلات المادية، وبين الذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أندادًا، وأنه وسط في أخلاقه بين الذين يتحلّلون من كل الفضائل والذين يشتطّون في تصوّر الفضيلة والتزام طرف التشديد فيها، فقررت الأخلاق الإسلامية أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولا تهور، لا بخل ولا تبذير، لا استنكبار ولا استخذاء، لا جزع ولا استكانة. وهو في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية البحتة، التي لا تعرف شيئًا وراء ما يقع عليه الحسّ من طعام وشراب، ولذَّات وشهوات، وغلبة وبطش، وجمع للأموال، وتكاثر وتفاخر، والروحية البحتة التي تزهد في الحياة وتُعرض عنها إعراضًا تامًّا، فلا زواج، ولا سعي، ولا عمل، ولكن تبتّل مطلق وإهمال للأسباب!إلى آخر ما ذكر وفصل رحمه الله.* ثروة طائلة ترك الشيخ الإمام محمود شلتوت ثروة طائلة من الأبحاث والدراسات القيمة، ومن أهم مؤلفاته:فقه القرآن والسُّنة، القرآن والقتال، مقارنة المذاهب، الإسلام عقيدة وشريعة، المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية، وهي الرسالة التي ألقاها الإمام في مؤتمر القانون الدولي المقارن في لاهاي، وقد نال بها عضوية جماعة كبار العلماء، الفتاوى، وهي تعبر عن رأي الإمام في كثير من المشكلات العصرية والاجتماعية، تفسير القرآن الكريم (الأجزاء العشرة الأولى)، ويمتاز هذا التفسير بجعله السورة وحدة متكاملة مترابطة متسلسلة، كما يمتاز هذا التفسير بالتزامه تفسير القرآن بالقرآن، وتنقية تفسيره من الإسرائيليات وأمثالها من الأساطير، وقد راعى فيه القصد والاقتصار على المعاني القرآنية دون استطراد.وفاتهعرجت روحه إلى بارئها في مساء ليلة الجمعة (ليلة الإسراء والمعراج)، وأدَّى المصلون عليه صلاة الجنازة في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1383هـ الموافق 13 من ديسمبر سنة 1963م
3319
| 22 يونيو 2015
وجّه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، الدعوة عبر بوابة الشرق، إلى الشعراء بضرورة إستغلال الشعر في بعث الأمة العربية من سباتها والانتفاع به في تعبئة الشعوب العربية ضد أعدائها، فلطالما وقف الشعراء في مقدمة الصفوف حاملين راية الجهاد في كل معركة، لتحفيز الهمم في نفوس الأمم. جاء هذا على هامش الحفل الذي نظمته مساء اليوم الإثنين، المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا" لإطلاق جائزة "شاعر الرسول" تحت شعار "تجملَ الشعرُ في خيرِ البشر"، في حضور سعادة الدكتور غيث الكواري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، والدكتور خالد بن إبراهيم السليطي المدير العام للمؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، والشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي والشيخ الدكتور علي القره داغي وعدد من المسؤولين والشخصيات العامة والعلماء. وعن أهمية الجائزة أضاف القرضاوي: هذه الجائزة العظيمة من شأنها أن تخلد وتقدم شخصية الرسول إلى العالم بأسره في عمل شعري فني عرف به العرب طوال التاريخ، وكان في مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل الشاعر حسان بن ثابت الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم "اهجُ قريشًاً، فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل". أي أن شعره رضي الله عنه أشد على كفار قريش من الرمي بالسهام في المعركة. وتعد جائزة "شاعر الرسول" الأكبر من نوعها على مستوى الوطن العربي، وتهدف إلى اختيار المتسابق الذي سوف يتألق ويتجمل ويصدح بأجمل القصائد وأعذب الكلمات والأبيات، في مديح الرسول وسيرته النبوية العطرة، وتبلغ قيمة جوائز المسابقة 675 ألف دولار، موزعة على المراكز الخمسة الأولى
427
| 15 يونيو 2015
طالب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، اليمنيين بجميع مكوناتهم، "بالالتفاف حول شرعية الدولة، التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي"، وحذرهم من "الاستقواء بالخارج". جاء هذا في بيان أصدره الاتحاد، مزيلا بتوقيع رئيسه يوسف القرضاوي، وأمينه العام علي القرة داغي، مساء اليوم الثلاثاء، وثمن فيه دور مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية في الشأن اليمني. وقال الاتحاد في بيانه إنه "ينظر بعين التفاؤل لما تقوم به دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية من محاولات لرأب الصدع، ولم الشمل، للحفاظ على وحدة اليمن، وهيبة دولته، بقيادة رئيسها الشرعي". وتابع: "وذلك من خلال دعوتها لعقد اجتماعات الحوار في العاصمة الرياض، ومن خلال اتصالاته المكثفة بجميع مكونات الشعب اليمني، وحشد طاقات المملكة داخلياً وخليجياً، ودولياً لإنجاح الحوار، وتفعيل مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل لتحقيق العدل والحكم الرشيد، والوحدة، ومصالح اليمن الكبرى". وطالب الاتحاد اليمنيين بجميع مكوناتهم "بالالتفاف حول شرعية الدولة، التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي، التي اتفق عليها الجميع، خشية أن تزداد الأمور تأزما، ويترتب على ذلك ما لا يحمد عقباه". ودعا الاتحاد، مجلس التعاون الخليجي "بوضع إستراتيجية تقوم على الآليات والخطوات العملية، والإرادة السياسية الحازمة الفاعلة، والتضحيات الحقيقية لتثبيت الأمن والاستقرار".
211
| 17 مارس 2015
المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة التاسعة والعشرون أدب المسلم مع أُولِي القُربَى مِن أدب المسلم الأساسي، الذي جاء به القرآن، وأكَّدتُه السُّنة، وأصَّله علماءُ الإسلام: صِلةُ الرَّحِم، أو إيتاء ذي القُربى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]. وقال تعالى في آية الحقوق العشرة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36]. وهو أمرٌ اتفقتْ عليه كلُّ الرسالات السماوية التي بعَثَ الله بها النبيين مُبشِّرين ومنذرِين، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. ونلاحظ أنه قال في ميثاق بني إسرائيل: {وَذِي الْقُرْبَى} وفي آية الحقوق العشرة: {وَبِذِي الْقُرْبَى} بزيادة حرف الباء، وهي زيادة تدل على التأكيد، وهو ما نشعر به من قوَّة النصوص وكثرتها، وما فيها من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وجنة ونار. تأكيد القرآن لحقِّ القرابة: وأولُ ما نلحظ هنا تأكيدَ القرآن لحق القرابة: في كثرة النصوص القطعيَّة التي جاءتْ توصي بحقِّ الأقارب، أو الأقربين أو ذوي القُربى، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]. فجعل أوَّل مَن له حق النفقة في المال — وهو ما عبَّر عنه بالخير — هم الوالدان والأقربون. والمراد بالأقربين أو ذوي القربى هنا: القرب في النسب، لا في المكان والسكن. وكذلك جعل لهم الحقَّ في الوصية، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. وقوله سبحانه: {تَرَكَ خَيْرًا}، أي: مالًا فيه وفرةٌ، بحيث يمثِّل {خَيْرًا}، فالمال القليلُ لا يُعتبر في نظر الناس خيرًا، وإنما تعتبر الوصية في المال الكبير، وهنا تجب الوصيةُ للوالدين والأقربين الذين لا نصيب لهم في ميراث الميت، كأن تكون أمُّه كتابيَّةً، أو يكون له قريب كتابيٌّ، فهذه الوصية واجبة بالمعروف، حقًّا على المتقين. وفي ظاهر هذه الآية ما يدلِّل لِما اجتهدَ فيه فقهاءُ مصر المُحدَثون، ومَن وافقهم في البلاد العربية في أنْ يوصي الأجدادُ للأحفاد الذين مات أولادُهم — بنونَ أو بنات — في حياةِ آبائهم، فحجبَهم أعمامُهم عن الميراث؛ لأنَّهم أقربُ منهم إلى الأب، ولكنَّ هؤلاء يستحقون الوصية مِن أجدادهم بنصيب، حدَّده العلماء أن يكون مثل نصيب آبائِهم أو أمَّهاتِهم في حدود الثُّلث، الذي لا تتجاوزه الوصيةُ، كما قال الرسول الكريم: "الثلث، والثلث كثير". وقال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. وبهذا لا يجتمع لهؤلاء الأحفاد، الذين مات آباؤهم في حياة أجدادهم: اليتم والحرمان. ويقول تعالى في قِسْمة التَّرِكات التي خلَّفها الموتى لمَن وراءهم: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8]. وفي هذه الآية تأكيدٌ لحقِّ الأحفاد الذين ذكرْناهم في وصية الأجداد؛ لأنهم من أقرب أولي القربى. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة:177]. فجعل إيتاءَ ذوي القربى حقَّهم أو حقوقَهم في المال، وهي غير الزكاة المذكورة في الآية الكريمة نفسها: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. على أن على المسلمين أن يُعطوا أولي القربى حقَّهم، ولكن لا يجوز لهم أن يُعطوهم ما يجور على حق غيرهم، ولا ينبغي للمسلم أن يكون مع قريبه في العدل والظلم، والبر والفجور، بل يكون معه في العدل والخير، والحق والبر، لا يتعداها إلى ضدها، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة:106]. فالحقُّ والعدلُ فوق القَرَابة، وفوق كل عصبيَّة. وقال تعالى في وصف الفاسقين، الذين يستحقون أن يضلَّهم الله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]. وصَفَهم القرآن بثلاث رذائل من أسوأ الصفات: إحداها: نقض العهد، وهو ما ذكره الله تعالى بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 — 61]. والعهد الآخر، ما أخذه على بني إسرائيل: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وينفِّذوا الأوامر الإلهية، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]. والرذيلة الثانية: قطْع ما أمر الله به أن يوصل، مثل قطْعهم الأرحام، والتخلص من موالاة المؤمنين. والرذيلة الثالثة: الإفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، وقد جعل عمارة الأرض وإصلاحَها من مقاصده تعالى في خلْقه، كما قال على لسان صالح الذي قال لقومه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]. أي: طَلَبَ إليكم أن تعمروها، ولا تخرِّبوها، أو تسمحوا أن يتسرب إليها الخراب. وهو ما ذكره القرآن في سورة الرعد، حين قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الآية:25]. وممَّا ذكره القرآنُ حول صِلة الرحِم وتقطيعها: ما جاء في سورة محمد، في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [الآيتان:22 — 23]. ما ذكره القرآن في صلة الإخْوة بعضهم ببعض: ومن أهم الأرحام وأقواها: ما بين الإخْوةِ بعضهم وبعض، فلا يجوز لأخٍ أن يظلم أخاه، أو يسْتعليَ عليه بقوةٍ أو مالٍ أو غير ذلك. وقد قصَّ علينا القرآنُ قصة ابنَيْ آدم من صلبه، حين اعتدى القويُّ الخبيث على الطيب المخلص، وهو ما نقرأه واضحًا في سورة المائدة، حيثُ يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [الآيات:27 — 31]. ولم يُعجب الخبيثَ الفاجر كلامُ أخيه الطيبِ الجميلُ المؤثِّر: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وطغى الشرُّ عليه حتى ارْتَكَبَ أولَ جريمة قَتْل في تاريخ البشر؛ ولذلك عليه كفْلٌ ممَّا يرتكبه البشرُ إلى يوم القيامة، وما أكثرَها وأشدَّها مِن تبعات. وذكر لنا القرآنُ مِن قصص الإخْوة بعضهم مع بعض ما ذكر في قصة يوسف وإخوته من أبناء يعقوب، وقد أشار يعقوب عليه السلام، إلى ما يمكن أن يفعل الإخْوة بأخيهم، حين قصَّ يوسف على أبيه ما رآه مِن رؤيا في منامه: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]. فماذا كان موقف الأب يعقوب؟ {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]. وقد رأيتُ ما قصَّتْه سورةُ يوسف علينا، وما فعله به إخْوته، وكيف أوهموا أباهم حتى سمح لهم بأخذه معهم، وكيف ألقَوْه في الجُبِّ، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، وكيف قال لهم أبوهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. إلى أن انتهى بهم المطاف إلى أن وقفوا أمام يوسف وهو عزيز مصر، يسألونه الصدقة عليهم، والرفْق بهم، فإنَّ الله يجزي المتصدقين: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:89 — 90]. إلى آخر ما سجَّلته القصة. وفيها التقت الأسرة كلها: الأبوان والإخوة في ظل يوسف عزيز مصر، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]. أخت موسى وموسى عليه السلام: ونذكر فيما بين الإخْوة بعضِهم مع بعض ما فعلتْه أختُ موسى بأخيها حين ألقتْهُ أمُّه في التابوت، ثمَّ ألقتْه في اليمِّ، فألقاه اليمُّ بالساحل، فأخذه عدوٌّ لله وعدوٌّ لموسى، وهو فرعون، وهنا قالت أمُّ موسى لأخته: {قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]. واستطاعت أن تصِل إلى قَصْر فرعون، وتقول لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:12 — 13]. موسى وأخوه هارون عليهما السلام: وعاش موسى في قصْر فرعون الذي سيزول مُلكُه على يد موسى، ثمَّ ذهب إلى مدْيَنَ وتزوَّج منها، وعاد بعد عشْر سنوات بأهله، وناداه ربُّه بالوادي المقدس طُوَى، وأرسله إلى فرعون إنَّه طغَى، فسأل ربَّه أن يجعل له وزيرًا مِن أهله، هارون أخاه، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 — 32]. وأجابه الله إلى كل ما سأل، وسار الأَخَوَانِ، معًا على السَّراء والضرَّاء، حتى انتصرا على فرعون، ثمَّ لقِيَا مِن بني إسرائيل ما لَقِيَا، حتى ذهب موسى للقاء ربِّه أربعين يومًا، وفي هذه المُدَّة عَبَدَ بنو إسرائيل العِجْلَ الذي صنعه لهم السامري، وجاء موسى ورأى هذه الفتنة الهائلة التي سَقَطَ فيها قومُه، وغضِبَ موسى غضبًا شديدًا، وأَخَذَ موسى برأس أخيه يجرُّه إليه: {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]. احتكام الأخوين إلى داود عليه السلام: وفي قصة داود احْتَكَمَ إليه أَخوانِ حينَ لجأ إلى عبادة الله في المحراب واعتزل الناس، وهو ما حكتْهُ لنا سورةُ (ص): {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [الآيات:21 — 26]. فهذان الأخوانِ احتكما إلى داود عليه السلام ليحكُمَ بينهما فيما حكاه أوَّلُهُما، فسارع داودُ إلى أنْ حَكَمَ على الشخص المدَّعَى عليه، دون أن يستمع إلى قوله، بل حكم عليه بمجرد أن قال الأول: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23 — 24]. كان المفروض على داود عليه السلام أن يسأل الآخر عن موقفه: لم فعل ذلك، فلعل عنده سببًا، أو لديه عذرًا. وقد قال الشاعر: تأنَّ ولا تعجلْ بلومِك صاحبًا لعل له عذرًا وأنت تلوم وهذا استعجالٌ في الحُكْم، وقضاءٌ على طَرَفٍ لم يُدْلِ بحجته ووجهة نظره في القضية، والأصول القضائية المتعارف عليها بين الناس من قديم، تقتضي من القاضي الذي يتحرَّى العدْل، ويحكم بالقسْط، ولا ينحاز لأحدِ الخصمين: أن يسمع إلى كُلٍّ منهما. سواءٌ كان هذان الشخصان بشَرَيْن من أبناء آدم، كما هو ظاهر القضية، أمْ كانا مَلَكَين جاءا يمثِّلان أمام داود هذه القصة ليتنبَّه إلى ما هو واجب عليه باعتباره قاضيًا يحكم بشريعة السماء.
34925
| 26 يوليو 2014
أكد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العلامة، الدكتور يوسف القرضاوي، أنه لا يجوز ترك المقاومة الفلسطينية وحدها في مواجهة العدو الإسرائيلي، وأشار إلى أن الإسلام يفرض على الدول العربية والمسلمة مد المقاومة في غزة بالغذاء والدواء والسلاح. وقال القرضاوي على صفحته على موقع تويتر اليوم الأربعاء: "الإسلام فرض وحدة الأمة مهما تعددت أوطان المسلمين وتباعدت، ولا يجوز أن تترك المقاومة وحدها. الإسلام يفرض على الدول العربية والمسلمة الأخرى أن تمد المقاومة في غزة بالغذاء والدواء والسلاح. دور العلماء هو قيادة الأمة، ويجب أن يقوموا بمسؤوليتهم تجاه المقاومة الفلسطينية". هذا واستنكر القرضاوي موقف الأنظمة العربية من العدوان على غزة ووصفه بـ "المخزي والفاضح على مر الزمان"، كما استنكر وصف حركة "حماس" بالإرهاب واعتبر ذلك مصيبة وتغييبا للوعي. وأشاد القرضاوي في حديث لبرنامج "سياسة في دين" على قناة "الجزيرة مباشر مصر" بصمود المقاومة الفلسطينية في مواجهة العداون الإسرائيلي الغادر الذي فرض نفسه بالقوّة، وأكد أن للمسلمين حقّ المقاومة المستمرة حتّى تحرير الأرض. وأضاف: "إن إسرائيل بدأت بالاعتداء على غزة، إلا أن المقاومة تنتصر وتصنع البطولات رغم قلة العدد وضعف الإمكانيات، وقضيتنا الفلسطينية هي قضية وجود". وعن الموقف الرسمي العربي قال القرضاوي: "إن مواقف الدول العربية في التعامل مع العداون الإسرائيلي ضعيفة ومتخاذلة، وأن الأنظمة العربية لم تقف هذا الموقف المخزي والفاضح على مر الزمان"، على حد تعبيره.
325
| 23 يوليو 2014
الدوحة - بوابة الشرق المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الحادية والعشرون أدب المسلم مع القرآن الكريم لحَمَلة القرآن وحَفَظته آدابٌ ينبغي أن يراعوها، وعليهم واجبات يجب أن ينفِّذوها، حتى يكونوا من (أهل القرآن) حقًّا، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله أهلين من الناس". قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته". آداب معلِّم القرآن ومتعلمه تجريد النية لله وحده: 1 — وأول ما ينبغي لمن ينتسب إلى القرآن — عالمًا أو متعلِّمًا — أن يبتغي في توجُّهه رضوان الله تعالى، وألَّا يقصد حامل القرآن به توصُّلًا إلى غرض من أغراض الدنيا، من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو نحو ذلك. ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه، سواء كان الرفق مالًا، أو خدمة، وإن قل، ولو كان على صورة الهدية او الجائزة التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلَّم علمًا يبتغي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليُصيب به غرضًا من الدنيا؛ لم يجد عَرْفَ الجنةِ يومَ القيامة". 2 — وليحذر كل الحذر من قصده التكثُّر بكثرة المشتغلين عليه والمختلفين إليه، وليحذر من كراهته قراءة أصحابه على غيره ممن يُنتفع به، وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المُعَلِّمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته، وفساد طويته، بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله تعالى الكريم، فإنه لو أراد الله بتعليمه لما كره ذلك، بل قال لنفسه: أنا أردتُ الطاعة بتعليمه، وقد حصَلَت، وقد قصد بقراءته على غيري زيادةَ علم، فلا عتب عليه. 3 — ينبغي للمعلم أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها، والخصال الحميدة، والشِّيَم المَرْضِية، التي أرشده الله إليها؛ من الزهادة في الدنيا، والتقلل منها، وعدم المبالاة بها وبأهلها، والسخاء والجود، ومكارم الأخلاق. وينبغي له أن يرفق بمن يقرأ عليه، وأن يرحب به، ويُحسن إليه، بحسب حاله، وينبغي أن يبذل لهم النصيحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة؛ لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم". ومن النصيحة لله تعالى ولكتابه إكرامُ قارئه وطالبه، وإرشاده إلى مصلحته، والرفق به، ومساعدته على طلبه بما أمكن، وتأليف قلب الطالب، وأن يكون سمحًا بتعليمه في رفق، متلطِّفًا به، ومحرِّضًا له على التعلُّم، وينبغي أن يذكره فضيلة ذلك ليكون سببًا في نشاطه وزيادة في رغبته، ويزهِّده في الدنيا، ويصرفه عن الركون إليها والاغترار بها. وينبغي أن يُشفق على الطالب، ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح ولده ومصالح نفسه، ويُجرِي المتعلِّمَ مجرى ولدِه في الشفقة عليه، والصبر على جفائه، وسوء أدبه، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان، فإن الإنسان مُعَرَّض للنقائص؛ لا سيما إن كان صغيرَ السن، وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره له ما يكره لنفسه من النقص مطلقًا. ينبغي أن يؤدِّب المتعلِّمَ على التدريج بالآداب السَّنِيَّة، والشِّيَم المَرْضِيَّة، ورياضة نفسه بالدقائق الخفيَّة، ويعوِّدُه الصيانة في جميع أموره الباطنة والجَلِيَّة، ويحرضه بأقواله وأفعاله المتكررات على الإخلاص والصدق، وحسن النيات، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، ويعرفه أن لذلك تتفتح عليه أنوار المعارف، وينشرح صدره، وتتفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف، ويبارك له في علمه وحاله، ويوفَّق في أفعاله وأقواله. 5 — تعاهد القرآن من هذه الآداب: تعاهُد القرآن، حتى لا يتفلَّتَ من ذاكرته، وذلك بدوام تلاوته استظهارًا من الصدر، أو قراءة من المصحف، أو بالاستماع إليه من قارئ مجيد له، من طريق الإذاعة، أو المصاحف المرتلة لكبار القُرَّاء. ومن فضل الله تعالى أن وُجِد في عدد من البلاد الإسلامية إذاعة للقرآن الكريم، تُعنى بتلاوة القرآن وتجويده وتفسيره. عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت". رواه الشيخان، وزاد مسلم في روايته: "وإذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار ذَكَرَه، وإذا لم يقُم نسيه". ومعنى (المعقَّلة): المربوطة بالعِقال، وهو الحبل يمسكها مخافة أن تتفلت، وجمعه: عُقُل. عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئسما لأحدهم يقول: نسيتُ آية كَيْت وكَيْت، بل هو نُسِّيَ. استذكروا القرآن، فلهو أشد تفصِّيًا من صدور الرجال من النَّعَم بعُقُلها". ومعنى قوله (نُسِّي): أن الله هو الذي نسَّاه، عقوبة له على شيء وقع منه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلُّتًا من الإبل في عُقُلها". رواه الشيخان، ورواية البخاري: "أشد تفصِّيًا". فينبغي لصاحب القرآن أن يجعل المصحف جليسَه في الوحدة وأنيسه في الوحشة، حتى لا يتفصَّى من ذاكرته. قال القاسم بن عبد الرحمن: قلتُ لبعض النُّسَّاك: ماهنا أحد تستأنس به؟ فمدَّ يده إلى المصحف، ووضعه على حجره، وقال: هذا أنيسي. وقد تكلَّم السيوطي في حكم نسيان القرآن، فقال: نسيانه كبيرة. صرح به النووي في (الروضة) وغيرها، لحديث أبي داود: "عُرضَتْ عليَّ ذنوب أمتي، فلم أرَ ذنبًا أعظمَ من سورة من القرآن أو آية، أُوتيها رجل ثم نَسِيَها". وروي أيضًا حديث: "من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله يوم القيامة أجذم". كذلك حديثا ابن مسعود وأبي موسى السابقان. فأما حديث أبي داود الأول، فقد رواه الترمذي وقال: غريب (أي ضعيف).. وذاكرت به محمد بن إسماعيل — يعني البخاري — فلم يعرفه واستغربه. وأما الحديث الثاني فقد قال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد، ولا يحتج بحديث، وهو منقطع أيضا. وإذا كانت الأحاديث التي استند عليها من قال بأن نسيان القرآن كبيرة قد ثبت ضعفها، فلم يبق إلا أن نسيانه في موضع الذم، لتركه تعاهد القرآن، ولكنه لا يفيد التحريم، ناهيك أن يكون كبيرة. بل الذي يتجه أنه أمر مكروه كراهية شديدة، ولا يليق بالمسلم الذي يملك هذا الكنز النفيس أن يفرط فيه، حتى يضيع منه. وإن الذي جعلني أقول هذا: هو خشيتي أن يتقاعس الناس عن حفظ القرآن، إذا كان معرَّضًا لأن ينساه فتكتب عليه كبيرة من الكبائر، مع أنه لو لم يحفظه أصلًا، لم يكن عليه أي شائبة من إثم. 6 — التخلق بأخلاق القرآن وينبغي على صاحب القرآن أو حامله وحافظه: أن يتخلق بأخلاق القرآن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم. فقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت — وما أبلغ ما قالت! —: إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. فعلى صاحب القرآن: أن يكون مرآة يرى الناس فيها عقائد القرآن وقِيَمه وآدابه وأخلاقه، وأن يتلو القرآن فتصدِّقه آياتُه، ولا يتلوه فتلعنه آياته. عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه. لا ينبغي لصاحب القرآن أن يَحِدَّ مع مَن حَدَّ، ولا يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بلَيْلِه إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مُفطِرون، وبحُزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينًا ليِّنًا، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا، ولا مماريًا، ولا صياحًا ولا صخَّابًا ولا حديدًا (من الحِدَّة والغضب). وكأن ابن مسعود رضي الله عنه يتحدث عن نفسه، فقد كان من أئمة حملة القرآن، وكان كما وصف حامل القرآن. وقال ابن مسعود أيضًا منكِرًا على قوم: أنزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا دراسته عملًا! إن أحدهم ليقرأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يُسقط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به! وقال الزاهد العابد المعروف الفضيل بن عياض: ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له إلى أحد حاجة، ولا إلى الخلفاء، فمن دونهم، فينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه. وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة، فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها. وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه الملائكة حتى يفرغ منها. فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: إذا أحلَّ حلالها، وحرَّم حرامها، صلَّتْ عليه، وإلا لعنته. وقال بعض العلماء: إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه، وهو لا يعلم، يقول: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وهو ظالم نفسه! ألا لعنة الله على الكاذبين، وهو منهم! وقال الحسن: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جَمَلًا، فأنتم تركبونه، وتقطعون به مراحل، وإنَّ من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار! وقال ميسرة: الغريب هو القرآن في جوف الفاجر! وإنما كان غريبًا؛ لأنه في واد، وأخلاق حامله وأعماله في واد آخر! وقال أبو سليمان الداراني: الزبانية أسرع إلى حملة القرآن، الذين يعصون الله عز وجل؛ منهم إلى عبدة الأوثان، حين عصوا الله سبحانه بعد القرآن! وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلَّط (أي أساء في عمله) ثم عاد فقرأ، قيل له: ما لك ولكلامي وأنت معرِضٌ عني؟! وقال ابن الرماح: ندمتُ على استظهاري القرآن؛ لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يُسألون عمَّا يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة!. ولا غرو أن كان قُرَّاء القرآن من الصحابة أول الناس في صفوف الصلاة في المسجد، وأول الناس في صفوف الجهاد في الميدان، وأول الناس فعلًا للخير في المجتمع. في بعض معارك الفتح الإسلامي كان المنادي ينادي: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السِّحْر اليوم! كما في معركة اليمامة الشهيرة والحاسمة في حروب الردة، وقتال مسيلمة الكذاب وجماعته. وقال حذيفة في ذلك اليوم المشهود: يا أهل القرآن، زيِّنوا القرآن بالفعال. وقال سالم مولى أبي حذيفة يوم اليمامة — وقد قال له المهاجرون، وهو حامل لوائهم: إنا نخاف أن نؤتى من قبلك —: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي! وفي معركة اليمامة — في حروب الردة — مع مسيلمة الكذاب، قُتِل عدد كبير من القرَّاء؛ لأنهم كانوا في المقدمة دومًا، حتى قيل: إنهم نحو سبعمائة. وهذا ما دعا إلى جمع القرآن وتدوينه خشية ذهاب القُرَّاء في معارك الجهاد. وكانت طريقة حفظهم للقرآن تُعينهم على العمل به، فلم يكن همهم مجرد حفظ الألفاظ، بل فهم المعاني والالتزام بها أمرًا ونهيًا. ذكر الإمام أبو عمرو الداني في كتابه (البيان) بإسناده عن عثمان وابن مسعود وأبيٍّ رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقرئهم العشر (آي من الآيات) فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى، حتى يتعلموا ما فيها من العمل. قالوا: فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا. وروى عبد الرزاق في مصنَّفه عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: كنَّا إذا تعلَّمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلَّم العشر التي بعدها، حتى نعرف حلالها وحرامها، وأمرها ونهيها. وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن عبد الله عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلَّمها. وما ذلك إلا لأنه يتعلمها ليعمل بما حوته من أحكام، فيأتمر بأوامرها، وينتهي عن نواهيها، ويقف عند حدود الله فيها. ولهذا قال ابن مسعود: إنا يصعب علينا حفظ القرآن، ويسهل علينا العمل به، وإن مَن بعدنا يسهل عليهم حفظ ألفاظ القرآن، ويصعُب عليهم العمل به. وعن ابن عمر قال: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة، لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخـــر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به!
3424
| 18 يوليو 2014
مساحة إعلانية
أعلنت إدارة العلاقات العامة والاتصال بوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي عن إهداء وردة رمزية، تعبيراً عن الوفاء والامتنان لجميع المعلمين والمعلمات في المدارس...
11360
| 03 أكتوبر 2025
أعلنت الخطوط الجوية القطرية عن عرض جديد للمسافرين إلى عدد كبير من الوجهات العربية والأجنبية، يشمل توفير حتى 40% على الدرجة الأولى ودرجة...
7942
| 03 أكتوبر 2025
أعلنت السفارة الهندية في قطر عن ولادة طفلة هندية في مطار حمد الدولي، أثناء توقف والدتها ترانزيت في الدوحة. وقالت السفارة في منشور...
4944
| 04 أكتوبر 2025
أصدر حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، اليوم، القانون رقم 22 لسنة 2025 بشأن الأشخاص ذوي الإعاقة....
4188
| 05 أكتوبر 2025
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل
بدأت اليوم الجمعة أولى أيام نجم الصرفة الذي تتراجع فيه درجة الحرارة وتنخفض الرطوبة وتتحسن حالة الطقس تدريجياً. وأوضحت أرصاد قطر عبر حسابها...
3364
| 03 أكتوبر 2025
أكدت وزارة الداخلية أن الإدارة العامة للأمن الصناعي تقدم العون والمساعدة لأصحاب الصقور المفقودة بتمكينهم من الدخول إلى المناطق الصناعية بمرافقة دورية أمنية...
3114
| 03 أكتوبر 2025
أصدر حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، اليوم، القرار الأميري رقم 31 لسنة 2025 بإنشاء الوكالة القطرية...
2732
| 05 أكتوبر 2025