رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

دين ودنيا alsharq
د. القرضاوى يتحدث عن رحلة الشيخ عبد المعز إلى قطر

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة : السابعة عشرإن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم... وفي حلقة اليوم نكمل الحديث عن الشيخ عبد المعز عبد الستارالشيخ عبد المعز عبد الستارلسان الدعوة والحركة والأمة(ت: 1432هـ = 2011م) ( 2-2 )رحلة الشيخ عبد المعز إلى قطرثم جاء الشيخ عبد المعز إلى قطر عامَ جِئت، ليعمل في التوجيه والتأليف والإشراف على مناهج العلوم الشرعية، مع العالم القطري الشهير: عبد الله بن تركي، الذي كان هو المفتش الوحيد للعلوم الشرعية، وانتهى عمله الوظيفي رئيسًا لتوجيه العلوم الشرعية، ولقي من تقدير الدولة وشيوخها ووجهائها وأمرائها وشعبها كل التقدير والإكرام.وكانت كلمات الشيخ في خطبه ومواعظه، كأنها حبات عقد من الدر أو اللؤلؤ، تصدر من فمه كأنها زخات مطر نازل من السماء، وأحيانًا كأنها شعل تلتهب، تثير العزائم، وتحفز الهمم، وتطهر القلوب، وتحيي الأرواح إذا أصابها الجمود.كان وجود الشيخ معنا في قطر كأنما هو ظلة نستظلُّ بها، وواحة نلجأ إليها عند وعثاء السفر، لنستريح فيها، يؤوي إليه من كان ذا حاجة، ويسأله من كان له طلب، وحتى حين وهن عظمه واشتعل رأسه شيبًا، كان لا يبخل عن إجابة من يطلبه، أو إغاثة من يستغيثه.الإخوة الهنود ولجؤوهم إلى الشيخ:وكم لجأ إليه إخواننا الهنود في ولاية (كيرلا) الهندية، التي يعيش فيها آلاف من المسلمين في دولة قطر، وكانت لهم مشروعات علمية وتربوية وإغاثية، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وكم استُقْبِلنا من أبناء كيرلا، وناصرناهم، وكان الشيخ مِن أهم مَن ناصرهم، وعاونه الشيوخ والحكام وبعض رجال المال الذين لم يستعبدهم المال، وإنما جعلوه لله تعالى، ولدينه ولخلقه، وتحقيق عبادته.وكم كان بيت الشيخ دائمًا يلتقي بهؤلاء الضيوف، كلما جاءوا سارع الشيخ إلى استضافتهم، ودعانا ودعا عددًا من إخواننا لمشاركتهم. وكان الثريد واللحم والخضراوات هي المائدة المفضلة لدى الشيخ وزوَّاره.اجتماعنا كل عيد في منزل الشيخ:وكنا في العيد كثيرًا ما نصلي في المصلى الذي بجوار بيته، ثم نخرج من صلاة العيد ووجهتنا منزل الشيخ، وقد أعدوا لنا: وجبة الإفطار في العيد: التمر والجبن والبيض والحلاوة والفول المدمس، وكل ما لذ وطاب، حتى إذا أكل منا من أكل، وشرب منا من شرب، ذهبنا لندرك السلام على أمير البلاد في قطر.وكان وجودنا في قطر معا منذ سنة 1381هـ الموافق 1961م، حيث جئنا من القاهرة في طائرة واحدة، إلى وزارة معارف قطر، الشيخ عبد المعز جاء ليعمل مساعدًا للشيخ عبد الله بن تركي المفتش الوحيد للعلوم الشرعية في قطر، وأنا جئْت لأُعيَّن مديرًا للمعهد الديني الثانوي الذي ابتدأ منذ سنة بصفين كانا فيه قديمًا، ويحتاج إلى صف جديد، وكنت أشكو من عدم وجود طلاب يرغبون في المعهد الديني.تعاون بيني وبين الشيخ طوال مدة الإقامة في قطر:كان العمل في قطر فرصة للتعارف والتعاون أكثر بيني وبين الشيخ عبد المعز، وبيننا وبين الإخوة مدرسي العلوم الشرعية، وكلهم من الأزهر، وكان الشيخ ابن تركي يفخر أنه أوَّل من أدخل الأزهريين إلى قطر.وكانت علاقتنا جيدة برجال العلم الشرعي في قطر، مثل الشيخ ابن تركي، والشيخ عبد الله الأنصاري، والقاضي الشرعي الوحيد في البلد، وهو العلامة الشيخ عبد الله بن زيد ال محمود، وبعض المشايخ الذين لم تكن لهم مناصب، وبعضهم أصلًا من الإمارات المجاورة، مثل الشيخ مبارك بن سيف الناخي والشيخ ابن غُبَاش.وبعد فترة وجيزة، انضم قاضٍ جديد مع ابن محمود، وهو الشيخ أحمد بن حجر البنعلي، وقوي اتصالنا به، وما زال القضاء يتوسع ويتوسع حتى أصبح له عدة محاكم، وعدد من القضاة، وصار هناك القضاء الابتدائي والاستئناف والتمييز، وأصبح ابن محمود هو الرئيس لهؤلاء القضاة جميعًا.العلاقة بالشيخ قاسم بن حمد وزير المعارف:وكذلك تطور التعليم ووزارة المعارف، التي كان وزيرها معالي الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، شقيق ولي العهد وقتها، وهي أكبر الوزارات وأعلاها وأقدرها في البلاد، وقد وطَّدنا علاقتنا بشيوخ البلاد الحاكمين، وكنا نتحرك معًا: الشيخ عبد المعز، وأنا معه، ومعي أخي وزميلي أحمد العسال، وبعض المشايخ أحيانًا، مثل الشيخ عبد الرحمن المراغي، والشيخ عليوة مصطفى، والشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ علي جمَّاز.العلاقة بالشيخ أحمد بن علي حاكم قطر:وقد سبقنا إلى الدوحة الشيخ عبد البديع صقر، الذي كان أول مدير للمعارف، ثم حدث تغيير، بعد أن أصبح سمو الشيخ أحمد بن علي بن عبد الله آل ثاني حاكم البلاد، حين تنازل أبوه عن الإمارة، وأصبح الشيخ عبد البديع من جلساء الأمير والمقرَّبِين إليه، وأصبح مديرًا لمكتبات الحاكم، وكان أمينُها أخانا الشيخ محمد مصطفى الأعظمي، عالم الحديث الهندي المعروف.ودعانا الحاكم إلى العشاء معه مرة، فرحَّبْنا، وحضرنا نحن والمشايخ المعروفون، وتحدثنا حديثًا حول الربا والفوائد والبنوك، وتحدث سمو الشيخ الحاكم عن الربا، وعن تشدد بعض العلماء فيه، واضطررت أن أرد عليه، وأبين له أن تحريم الربا أمر قطعي، وأن الفوائد هي الربا، وأن الله تعالى لا يحرم على الناس إلا ما يضرهم، وأن الواجب على المسلمين: أن يحرموا ما حرم الله ورسله، وانتقدت الأوضاع السائدة، وقد ظنَّ الجميع أني أغضبت الحاكم وجماعته، وانتقدوني في ذلك، ولكنه بعد ذلك أبدى لهم سروره وإعجابه بما قلت، وانبساطه مني، والحمد لله.ودعانا الشيخ قاسم بن حمد وزير المعارف إلى عشاء عنده في الزُّبارة، ولبينا الدعوة وتوثقت الصلات.وكان لنا كل سنة لقاء بالطلاب والطالبات في حفظ القرآن، وللطلاب في المدارس في أجزاء معينة، وفي القرآن كله، من أبناء قطر، من قَطَريِّين وغير قطريين، وكان هؤلاء كلهم من الباكستانيين والهنود والبنغاليين والأفغانيين وأمثال هؤلاء، وما زالوا يزيدون كل سنة عما قبلها.الشيخ خطيب المؤتمر السنوي لحُفَّاظ القرآن:وكان الشيخ عبد المعز هو الذي يُلقي كلمة الاحتفال السنوي بالناجحين، وتوزيع المكافآت عليهم، وكانت كلمته كالعهد به، تحيا بها القلوب، وتستنير بها العقول، وتطمئن بها الضمائر.تأليف كتب لوزارة المعارف في العلوم الشرعية:وقد شكونا إلى إدارة المعارف وتفتيش العلوم الشرعية ما يشتكيه الطلاب من صعوبة الكتب المقررة عليهم، وهي كتب في غاية التعقيد، كما في كتب الفقه، الذي كان يدرس من كتاب (أخصر المختصرات) في الفقه الحنبلي، وهو في الواقع أعقد المعقَّدات!وقلنا: لا بد من كتب جديدة، وأمر الوزير مديرَ المعارف الأستاذ كمال ناجي: أن يبدأ بالمطلوب، فشكَّل لجنة برئاسة الشيخ عبد المعز، وفي عضويتها أنا وإخواني: أحمد العسال، وعليوة مصطفى، وعبد الرحمن الجبالي.ثم قُدِّر للشيخ أن يسافر إلى القاهرة، وأن نبقى نحن الأربعة نكمل الموضوع، وكلفتُ أنا بإدارة اللجنة، وخصوصًا أن الشيخ لم يحضر السنة المُقبلة، وقدمنا الكتب، فحازت القبول، واستمر عليها الطلب عدة سنوات.ولما عاد الشيخ عبد المعز، استمرت اللجنة ووُسِّعت مطالبها، وخَطَّطت لتنفيذ كتب المدارس الابتدائية في سنواتها الست، والإعدادية في سنواتها الثلاث، والثانوية في سنواتها الثلاث.وألَّفنا كتبًا خاصة للمعهد الديني، شاركت في بعضها أنا والشيخ عليوة والشيخ علي الجماز في كتب التوحيد للمرحلة الثانوية، وصنفنا كتابَيْن أنا والأخ الأستاذ سليمان السِّتَّاوي للمعهد، هما كتاب (المجتمع الإسلامي) وكتاب (الإلزام الخلقي).هذا مع مجموعة الكتب التي امتلأت بها كل مدارس وزارة معارف قطر، التي سبقت مدارس الجيران في الخليج، بما وضعت من مبادئ، وما عزَّزت من وصايا، وما أصدرت من توجيهات وتعليمات، وكانت هناك الكتب التي انفرد الشيخ بالكتابة فيها مثل كتاب (الثالث الثانوي) في (السياسة والحكم الإسلامي)، ومثل كتاب (القدر) وما يدور حوله من بحوث في العقيدة.حضور مهرجان ندوة العلماء بالهند:وممَّا اشتركنا فيه مع شيخنا عبد المعز الرحلة إلى الهند، لحضور مهرجان ندوة العلماء السنوي سنة 1975م، وإن لم يبلغ المائة سنة ولكن قرب، وأراد العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي الهندي أن يُحيِي مؤسسته الكبيرة بزيارة العلماء العرب والمسلمين من أنحاء العالم. وخصوصًا علماء العرب، مثل الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك، رئيس قضاة الإمارات، وشيخ سورية عبد الفتاح أبو غدة.وكان من المدعوين الشيخ عبد المعز، وأنا، وكان شيخنا الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر مدعوًّا لهذا الاحتفال، وكذلك الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف المصرية، وعدد كبير من علماء مصر والمغرب الكبير والسودان وسورية والعراق، ومن كل بلاد العرب والمسلمين، مدعوِّين على مائدة الإمام أبي الحسن الندوي.وقد بقينا أيامًا في ضيافة النَّدْوِيِّين، وأتيح لبعضنا أن تكون له جولات لزيارة بعض المناطق السياحية في الهند، مثل دلهي وبومباي، وذهبنا إلى (تاج محل)، هذا الأثر الإسلامي الذي خلَّد الجمال الإسلامي، فهو تحفة هندسية معمارية فنية لا نظير لها، وهو يُعَدُّ من عجائب الدنيا السبع، وقد أعده شاه جهان الإمبراطور المغولي المسلم، ليكون قبرًا لزوجته ممتاز محل التي يحبها.ومن المهم أن نعلم أن كل المعالم السياحية التي تتباهي بها الهند وتفخر: هي معالم إسلامية، فلم نكد نجد شيئًا له قيمة يمكن أن يزار غير ما خلَّفه المسلمون.رحلة مع الشيخ إلى تركيا:وكان من الرحلات التي اشتركنا فيها مع شيخنا عبد المعز: رحلتنا إلى تركيا، فقد كنتُ في لبنان، وكان الشيخ عبد المعز في الدوحة، ومرَّ بسمو الشيخ خليفة بن حمد ولي العهد وقتَها، وقال له: إنه يريد أن يسافر إلى تركيا، فطلب إليه أن يكون سفره على حساب قطر، وأن يأخذني معه، لنسافر إلى كل الأماكن التي نحبُّ زيارتها في تركيا، ومرَّ الشيخ عليَّ في لبنان، بعد أن عُدت من سورية، بعد أن زرتها أنا وصهري الأستاذ سامي عبد الجواد، وأعددنا العدة للسفر، وكانت الرحلة غاية من الجمال والروعة، والشيخ عبد المعز رجل حلو المعشر، عذب الحديث، جوادٌ كريم، لا يضيق به صاحبه، بل يستمع بما عنده من حكايات وقَصَص بعضه موروث، وبعضه من الحياة، فهو محدِّث مؤنِس ومُعاشِر محبَّب.سافرنا معا إلى إستانبول، ولي خبرة بها وبمساجدها الكبرى، ومتاحفها، ومواقعها المهمة، ليست عند الشيخ رحمه الله، فكنت كثيرًا ما أنبِّه الشيخ ومن معه إلى المواضع التي ينبغي أن يزوروها، وربما لا أكون معهم فيها؛ لأني زرتها أكثر من مرة.وبعد أن زرنا أكثر ما يمكن أن يزار في إستانبول، وزرنا الجزر الكبرى، عن طريق الباخرة، ثم صمَّمنا أن نزور يومًا (بورصة)، وهي التي وقعت بها معركة عمورية، التي قال فيها أبو تمام:السيف أصدق إنباء من الكتبِ في حدِّه الحد بين الجِدِّ واللعبِبيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والرِّيَبذهبنا إلى مدينة بورصة، وصمَّمنا على أن نبيت في أحد فنادقها، ونذهب في الصباح لنركب (التليفريك) ونصعد الجبل من (التليفريك) حتى ننتهي إلى القمة التي يتجمع فيها الناس، ونشتري اللحم، ويوقد الفحم، ونشوي اللحوم، ونشقُّ البِطِّيخ، وتكون أكلة من الأكلات الشهية في ذلك الجو البارد، الذي تسطع فيه الشمس، وقد تغيب أحيانًا، ويقضي الناس نهارًا طيبًا، وكثيرًا ما يركبون فيها (تليفريكًا) مصغَّرًا، حول هذه المنطقة التي يفرش فيها الناس خيامهم وأغطيتهم، ويعودوا في آخر النهار إلى عرباتهم أو إلى فنادقهم.وأذكر أننا بتنا هذه الليلة في بورصة، ثم بدأنا في الصباح نركب الباص إلى مدينة (يالُوَا) على بحر مَرْمَرة، لنعود كما جئنا إلى إستانبول.وكان الجو غائمًا بعض الشيء، فكان الجو يمطر مطرًا خفيفًا، وأحيانًا تطلع الشمس، وأحيانًا يشتد المطر، والطريق ينزل من أعلى إلى أسفل، وحواليه مهوًى جانبي سحيق، وزاد المطر واشتدَّ، وبدأ الباص يتحرك حركة تُخيف الرُّكَّاب، وامتدت الأصوات، وارتفعت إلى السماء داعية: يا رب، يا رب، يا رب. وكاد الباص يترنَّح بمن فيه، وبدأت تقع منه بعض الأشياء التي كان يحملها الركاب من البطيخ والشمَّام والخوخ أو الدُّرَّاق أو (الشَّفْتَلِي) كما يطلق عليه، وبدأت تتساقط من السيارة، ولا يكاد أحد يهتمُّ بها، المهم هو حياة الناس، وبقاء الإنسان.وبينما الدعوات تتصاعد، والأنفاس تتلاحق، والمخاوف تتزايد، والقلوب تخفق، والأكف ترفع إلى السماء، أن يكشف الله الضرَّ، ويزيل البأس، وينقذ الباص، وينزل السكينة، وإذا الباص يتجه إلى جهة الشِّمال ويقف، ولو حدث العكس واتجه إلى اليمين، لكانت الكارثة، ولسقط الباص في المهوى العميق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.ما أقرب الموت، وما أسرعه!! وما أضعف الإنسان، وما أضيعه!! يدَّعِي القوة وهو أضعف ما يكون، ويدَّعي القدرة وهو أعجز ما يكون، ويدَّعي الغِنَى وهو أفقر ما يكون، ويدَّعي العلم، وهو أجهل ما يكون.يا الله، لحظة واحدة كانت ستتغير أشياء كثيرة، خصوصًا نحن السائحين الغرباء، الذين تركنا جوازات سفرنا وليست معنا، فلا يوجد ما يدل علينا، وليس معنا أحد يعرف من نحن، ولا من أي البلاد جئنا، ولا إلى أي البلاد نذهب.يا ربنا لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، وأفاق الشيخ من هذه الصدمة الكبيرة مشرق الوجه، ناصع الجبين، قوي اليقين، حامدًا لله رب العالمين.كلمات الشيخ في المناسبات:ظللنا سنين في أرض قطر، سماحة الشيخ عبد المعز وأنا نعمل معًا، كل منا فيما هو مشغول به، ومستغرق فيه، وفي الأعياد نزور إخواننا الأزهريين في أماكنهم، ونأكل معهم الترمس والحلبة والكعك والبسكويت، ونزور الأمراء، وكبار الشيوخ، ونزور شيوخ العلم والقضاء، كالشيخ ابن محمود، والشيوخ الأنصاري، وابن حجر، وعبد القادر العماري، وعبد العزيز الخليفي، ووجهاء البلد الدرويش وعبد الغني والمانع والمناعي والخليفي والمِرِّي والهواجر والكوارة، وغيرهم.وكنت أتمنى أن يكون للشيخ عبد المعز في كل حين جمعة يخطب فيها الناس، يسمعهم من مواعظه ما يحلو قلوبهم، وكنت في المعهد الديني أحب أن يزورنا في المعهد ويلقي إلينا بعض خُطبه، وفي رمضان حين كنتُ ألقي دروس العشاء في مسجد الشيوخ، كنت أدعو الشيخ أن يزورنا كل سنة مرة أو مرتين؛ ليُتحف الناس بتجلياته الربانية.قلم الشيخ:كنت أحس إحساسًا قويًّا، مستند إلى الأدلة والبراهين: أن الشيخ عبد المعز لديه القدرة على الكتابة، ولديه الثروة اللغوية من قراءاته الكثيرة، المبدوءة بالقرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والحكم المنثورة من قرون الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وممَّا يحفظه من شعر الشعراء، وقراءة الكُتَّاب والأدب السابقين واللاحقين والمعاصرين.وكنت حين أسمع خطبه الحماسية، أراها قطعًا أدبية جديرة أن يُعنى بها وتُدرس. وكم كنت أتمنى أن يفرِّغ الشيخ عبد المعز نفسه ساعات للكتابة كل يوم، ليكتب ما ينبغي أن يكتب، وما يُطلب منه أن يُكتب، وما تلهم به الأحداث والأيام أن يكتب.وقد جرَّبنا ذلك منه في بعض الأحيان، حين طلبت منه أن يكتب شيئًا بمناسبة شهر رمضان، فكتب كتابًا في التربية، بيَّن فيه صلاحية الإسلام لتربية الأفراد والأمم والمجتمعات. وأحيانًا طُلب منه أن يكتب بعض مواضيع فُرضت عليه حين طلب منا أن نكتب للوزارة، وأحيانًا كتب هو أشياء، يتطلب الموقف أن يدلي برأيه، مثل كتاباته عن اليهود والصهاينة، وما يريدون لبيت المقدس.لقد بدأ الشيخ يبحث عن ذلك من زمن بعيد، وكتب فيه أخيرًا كتابات قيمة؛ أهمها: كتابان نشرهما الشيخ فيما نشره: أولهما: (اقترب الوعد الحق يا إسرائيل). وثانيهما: (الشعب المختار في الميزان)، وقد ناقش الشيخ في الكتابين قضايا مهمة، استطاع فيهما أن يُلقم اليهود والصهاينة الحجر، وأن يسكتهم، وأن يمد المجادلين لهم بأدلة قوية من كتبهم نفسها، ومن مصادرهم ذاتها.وقد حضرت مع الشيخ بعض مؤتمرات الأزهر التي دعا إليها شيخه في ذلك الوقت الشيخ طنطاوي، وحين عَرض الشيخ عبد المعز هذه الصفحات وهذه الأدلة، لم يجد المشايخ بُدًّا من أن يصفقوا للشيخ ويثنوا عليه.كثيرا ما كنت أحب أن أمرَّ بالشيخ عبد المعز في بيته، زائرًا أو سائلًا، لأطمئن على صحته، وعلى ما عنده من طمأنينة أو رؤى. وكثيرًا ما كنت أجد عنده السكينة التي حُرمها كثيرٌ من الناس، وكثيرا ما كان يقول: وراء الساعات الحالكة الشديدة الظلام في آخر الليل: نور الفجر الذي يوشك أن يشرق، وينشر الأضواء في الآفاق.وكثيرًا ما كان يخصُّني بالدعاء أن يحفظني الله تعالى ويكلؤني برعايته، ويمدني بروح من عنده، ويقول لي بكل ثقة: إنك تقوم بدلًا عني وعن كثير من أمثالي ومن هو أسبق مني من علماء المسلمين ودعاتهم، وهم لا يستطيعون أن يقدموا لدينهم شيئًا، يقوِّم من عوج المسلمين، ويصلح من فسادهم، ويقويهم من ضعف، ويعزهم من ذل، ويجمعهم من تفرق، والله إني لأدعو الله تبارك وتعالى لك في الأسحار، وفي الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء، أن يشدَّ أزرك، ويحمي ظهرك، وييسر أمرك. ويكثر من هذا الدعاء الذي أسأل الله تعالى أن يجعلني أهلًا له، وأن يستجيبه للشيخ، وأن يزيدني إقبالًا على الخيرات التي ينشدها، وعلى الآمال التي يريد تحقيقها، وأن تبلغ الأمة أمانيها التي ترجوها، حتى يقوم عمودها، ويضيء نورها، ويستقيم أمرها.كنت في مقدمة المشيعين للشيخ في جنازته، وقد أكرمني الله تعالى بالصلاة على جثمانه، حيث دُفن بمقبرة أبو هامور بالدوحة، وشارك في تشييعه لفيف من الدعاة والعلماء، وأبناء الفقيد، وتلاميذه، ومحبوه من أبناء قطر وسكانها، يبكون عليه، ويدعون له.ولم يُقَدَّر لي أن أخطب الجمعة في جامع عمر بن الخطاب، الذي أخطب فيه، لمرض ألمَّ بي بعد موت الشيخ، ومنعني من الخطابة لعدة أسابيع، وكان من المقرر أن نقيم مهرجانًا خطابيًّا وشعريًّا لبيان منزلة ومكانة الفقيد وجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين، طوال ثلاثة أرباع قرن.رحم الله الشيخ عبد المعز، وجزاه خيرًا على ما قدم لدينه وأمته من علم وعمل، وخدمات دعوية وفكرية وخيرية، أسأل الله تعالى أن يتقبلها منه، ويجعلها خالصة لوجهه، وأن يغفر له ولإخوانه ما قد كان منهم، إن كان منهم اجتهاد لم يصب موضعه، وندعوه تعالى أن يرزقهم به أجرًا واحدًا، ولا يحرمهم من المثوبة أبدًا.{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

4007

| 03 يوليو 2015

دين ودنيا alsharq
القرضاوي : محمد عبد الله دراز كان شيخ العلماء ورائد الفلاسفة

الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : الثالثةإن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم... وفي حلقة اليوم نتحدث عن الشيخ محمد عبد الله دراز شيخ العلماء ورائد الفلاسفة ورجل الفكر والدعوة، كان من العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين علوم الشريعة وثقافة العصر، الشيخ دراز لم يبخل علينا بمادة ولا نصيحة وتعلمنا منه طريقة التعليمكان أحد العلماء الراسخين في علوم العقيدة والفلسفةمحمد عبد الله دراز(1312 – 1377هـ = 1894-1958م) لقد فقد العالم العربي، والعالم الإسلامي، والعالم الإنساني العالم، في عشية يوم الاثنين 16 من شهر جمادى الثانية سنة 1377هـ، الموافق 6 من يناير سنة 1958م، العلامة الذي كان في عصره - بحقٍّ - الحبر البحر، الفهَّامة القرآني، والعالم النوراني، والمعلم الربَّاني، محمد عبد الله دراز.كان الشيخ دراز رحمه الله من العلماء الموسوعيين، الذين جمعوا بين علوم الشريعة، وثقافة العصر، وأجاد الفرنسية إجادته لعلوم العربية، فهو ابن الأزهر، وابن السوربون، فإن شئت نسبته إلى جامع (الأزهر)، فهو ابنه البار، وتكوينه الأزهري قوي متين، وإن شئت نسبته إلى جامعة (السوربون)، فهو من خريجيها الذين تعتزُّ بهم، وتفخر بانتمائهم إليها، وهو أحد رجال الفلسفة والأخلاق المعدودين في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن دراسته في السوربون لم تُخرجه عن أزهريَّته العريقة، حتى إنه من القليلين الذين بقوا على زيِّهم الأزهري- الجُبَّة والعمامة- بعد عودتهم من بعثتهم إلى الخارج.معرفتي بالشيخ رحمه الله:عرَفتُ الشيخ وأنا طالب بكلية أصول الدين، حين قرأنا بعض فصوله وكتبه المتميزة العميقة، مثل (النبأ العظيم) و(الربا) وغيرهما، وزرناه- أنا وبعض إخواني- طالبين معونته لكتيبة الأزهر التي نعدُّها لتذهب إلى القناة؛ لمقاومة الاحتلال البريطاني، فشجَّعنا وشدَّ أزرنا، ولم يبخل علينا بمادة ولا نصيحة.وفي تخصُّص التدريس، كان يدرِّس لنا علم الأخلاق، فكان آية في شرحه، وآية في عمقه، وآية في أسلوبه، وحسن بيانه، وكنا ننتظر محاضرته في لهف وشوق، كشوق الظمآن إلى الماء العذب البارد؛ لا لنتعلَّم منه العلم فقط، ولكن لنتعلَّم أيضًا طريقة التعليم.وبعد خروجنا من السجن الحربي سنة 1956م، زرتُه أنا والأَخَوَان: أحمد العسال، وأحمد حمد، أكثر من مرَّة في بيته في شارع أبو بكر الصديق في مصر الجديدة، والحقُّ أنه هشَّ لنا، ورحَّب بنا، وفتح لنا صدره، كما فتح لنا بيته.طلب زيارة دورية:وكنا نرى أن وجود مثل هذا الشيخ العلاَّمة، الذي يتميَّز بالموسوعية وبالمنهجية، وبالتحقيق والتعميق والتدقيق، وبحسن تناول المسائل الصعبة والعويصة بطريقة تجعلها سهلة سلسة، وباستخدام البيان الأدبي في أسلوبه الذي يجمع بين إقناع العقول، وإمتاع العواطف، ويضمُّ إلى رصانة الأصالة رونق المعاصرة، كنا نرى وجوده نعمة من الله للأمة، وفرصة يجب أن يستفيد منها طلَّاب العلم، وعشَّاق الفكر الأصيل المجدِّد، فطلبنا إليه- نحن الثلاثة- أن يتيح لنا فرصة زيارته دوريًّا: كلَّ أسبوع، أو كلَّ أسبوعين، لنتتلمذ عليه، ونتلقَّى عنه العلم والعمل، ونقتبس منهجه، ونُشْرَب رُوحه.ولقي هذا الاقتراح منه رضًا وترحيبًا، وكان يُعِدُّ العُدَّة للسفر إلى لاهور لحضور مؤتمر الأديان، الذي سيذهب إليه ممثِّلًا للأزهر، فوعدنا أن نرجئ ترتيب هذا اللقاء وتحديد مواعيده ومنهجه وموضوعاته إلى ما بعد عودته من المؤتمر.. وشاء الله تعالى ألا يعود الشيخ من المؤتمر، وأن يوافيه الأجل المحتوم هناك، وأن يعود الشيخ جثمانا محمولًا، ليُصلَّى عليه في الجامع الأزهر، ويُدفن في مصر.زهد الشيخ دراز رحمه الله:كان شيخنا دراز من العلماء الربَّانيين، الموصولين بالله تبارك وتعالى، وإن لم يُعرف عنه الانتساب إلى التصوُّف، مثل الشيخ عبد الحليم محمود. وما ذهبنا إليه في بيته إلا وجدناه يتلو القرآن استظهارًا، لقوَّة حفظه له، يتعبَّد بتلاوته، فقد كان وقته معمورًا بذكر الله، أو بفعل الخير، أو بخدمة العلم.وما حدَّثناه وجلسنا إليه، إلا وجدناه مشغولًا بأمر الإسلام وهموم المسلمين.وقد عرض عليه رجال الثورة بواسطة مندوبين منهم: منصب مشيخة الأزهر، وحسبوا أن الرجل سيسارع بالقَبول والتلبية، ولكنهم فوجئوا به يشترط شروطًا لقَبول المنصب، ومنها: أن تطلق يده في إصلاح الأزهر. فخرجوا من عنده، ولم يعودوا إليه. إنهم لا يريدون مَن يشترط عليهم شرطًا، بل مَن يقبل بلا قيد ولا شرط، ويقدِّم إليهم الحمد والشكر.ولم يكن هذا شأن الشيخ، الذي يرى في المنصب تكليفًا لا تشريفًا، وفرصة للإصلاح والبناء، لا للظهور والأضواء.آثاره:كان أحد العلماء الراسخين في علوم العقيدة والفلسفة، وقد ترك لنا جملة آثار مهمَّة، تدلُّ على شخصيَّته الفلسفية، وهما: كتاب (الدين)، الذي ألقاه محاضرات على طلبة كلية الآداب، بوصفه بحوثًا ممهِّدة لتاريخ الأديان. والتي دعاه إليه صديقه وعارف فضله الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي، أستاذ التربية في كلية الآداب.ورسالته التي نال بها درجة الدكتوراة من السوربون، والتي ترجمها أخونا الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين بعنوان: (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، وهي أدلُّ على شخصية الشيخ الفكرية.والأثر الثالث: رسالته الموجزة والمركَّزة، التي سمَّاها (كلمات في مبادئ علم الأخلاق)، والتي سعدنا بتدريسه إياها لنا في تخصُّص التدريس.وهناك بحوث ومقالات أخرى تؤكِّد هذا الاتجاه الكلامي والفلسفي في شخصية الشيخ العلميَّة، حتى نجد ذلك بوضوح في شرحه لبعض الأحاديث النبوية، وفي تفسيره لبعض الآيات القرآنية.وكان الشيخ أيضًا أحد العلماء الراسخين في التفسير وعلوم القرآن، وقد ترك لنا من دلائل ذلك: كتابه الرائع (النبأ العظيم)، وهو كتاب متفرِّد، ويحتوى نظرات جديدة ومتميِّزة في الإعجاز البياني أو الأدبي للقرآن، لم ينسجه على منوال أحد قبله في مضمونه وأسلوبه.كما ترك كتابه (مدخل لدراسة القرآن الكريم)، وقد كتبه بالفرنسية، ثم تُرجم إلى العربية.وترك الشيخ كذلك (تفسير الفاتحة)، و(مقدمة التلاوة) لعدد من سور القرآن الكريم، وكلُّها تدلُّ على عمق نظرات الشيخ إلى كتاب الله، وتذوُّقه لمعانيه، وغوصه في أسراره.وكان الشيخ كذلك من الراسخين في علوم السنة، ولا سيما في فقه الحديث، وشرحه، كما تبيَّن ذلك من كتابه القيم (المختار من كنوز السنة)، الذي شرح في جملة من الأحاديث النبوية.وقد قام بتخريج أحاديث (الموافقات)، الذي حقَّقه والده تخريجًا موجزًا يدلُّ على مدى اهتمامه بالحديث منذ شبابه.وكان الشيخ رحمه الله في كلِّ ما يكتبه متميِّزا في منهجيَّته، متميِّزا في عمقه، متميِّزا في أسلوبه.وقد شرع في بعض البحوث، ولكن لم يمهله القدر حتى يكملها، مثل كتابه (الميزان بين السنة والبدعة)، أراد به أن يحدِّث كتاب (الاعتصام) للشاطبي، وأن يعرضه بلسان العصر، وكما أن الشاطبي مؤلِّف الأصل- وهو (الاعتصام)- لم يكمله، فكذلك مؤلف (الميزان).وكان الشيخ عضوًا في جماعة كبار العلماء، كما كان موضع ثقة مشيخة الأزهر في عهوده المختلفة، وكان يكلَّف بتمثيل الأزهر في المؤتمرات العالمية.مثَّل الأزهر في (مؤتمر الحقوق الدولية) المنعقد في باريس سنة 1951م، وفيه كتب بحثه عن (الربا).وكذلك مثَّل الأزهر في (مؤتمر العلاقات الدولية)، وكتب رسالته (الإسلام والعلاقات الدولية).وآخر ما مثَّل فيه الأزهر (مؤتمر الأديان)، الذي أُقيم بمدينة لاهور باكستان، وفيه وافاه أجل الله، الذي إذا جاء لا يؤخَّر.* قُوَّتُه في الحق:حكى لنا شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله عن موقف له في المجلس الأعلى للإذاعة، وقد كان عضوًا فيه: أنهم أرادوا أن يجعلوا وقت قراءة القرآن في الافتتاح والختام، وبعض الفترات محسوبًا على نصيب الدين فقط، فقال لهم: إن سماع القرآن ليس دينًا فقط. إنه استمتاع أيضًا بالفن والجمال المودع في القرآن، والمؤدَّى بأحسن الأصوات.وفاته:وافته المنية رحمه الله في مؤتمر الأديان في لاهور سنة 1958م، وقد استقبلنا الشيخ لنصلِّي عليه مع ألوف المصلِّين من أبناء الأزهر، ونبكيه مع الباكين من أبناء الأمة، وندعو أن يتقبَّله الله في الأئمة الصادقين، وأن يعوِّض الأمة فيه خيرًا.

5651

| 19 يونيو 2015

محليات alsharq
بوابة الشرق تنشر كتاب د. يوسف القرضاوي " في وداع الإعلام"

إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه). ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!. وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم... وفي حلقة اليوم نبدأ حديثنا عن "الإمام حسن البنا" الإمام حسن البنامؤسس جماعة الإخوان المسلمين(1324 — 1368هـ = 1906 — 1949م)كان حسن البنا رحمة الله عليه رجلًا متعدد المواهب والقدرات، فهو عالم وداعية، ومصلح ومجدِّد، وقائد وزعيم، وهو كذلك مُرَبٍّ من الطراز الأول، كان مربِّيا بحكم الموهبة، وبحكم الدراسة، وبحكم الممارسة، فقد كان الإمام الشهيد حسن البنا يعمل في التدريس عدة سنوات من حياة الدعوة، حتى أجبرته ظروف الدعوة، وتطور الحركة على التفرغ التام لها. القرضاوي: البنا كان رجلاً متعدد المواهب والقدرات ومُرَبٍّ من الطراز الأول.. تعلق فؤادي بحسن البنا، تعلُّق المريد بالشيخ، والتلميذ بالأستاذوكانت لديه كل الأدوات التي لا يفتقر إليها المربِّي الناجح، من البصيرة النَّيِّرة، والقلب الكبير، والعقل المنفتح، واللسان الفصيح، والوجه البشوش، والفِراسة النادرة، إلى جوار العلم الواسع، والخبرة الفنية والاجتماعية.. فلا غرو أن نراه يؤثر بسرعة في كل من صَحِبه وعايشه، بل في كل من لقيه لقاء عابراً، فتراه يذكر له كلمة معبِّرة، أو موقِفاً مؤثِّراً، أو حكاية لها دلالة. أو نحو ذلك، مما يعرفه الكثيرون عنه.وقد صدق قول الشيخ رحمه الله: علامة الرجل الصالح أن يترك في كل مكان يحل فيه أثراً صالحاً. وهكذا كان.كان الإمام حسن البنا في القاهرة، وكنت في طنطا، فلم يكن لقائي إياه ممكنًا إلا أن أذهب إلى القاهرة، أو يأتي هو إلى طنطا. وكم تمنيت أن أستمع إليه ـ ولو مرة واحدة ـ في حديث الثلاثاء، الذي يلقيه في المركز العام للإخوان، في معظم أيام السنة، ولكني لم أظفر بذلك، ولا مرة واحدة، حتى المرات التي كنا نسافر فيها مجانا ـ نحن طلاب المعهد الديني ـ لم نصادف فيها حديث الثلاثاء؛ إما لأن الدرس كان متوقفًا في تلك الفترة لأسباب ما، أو لأن اليوم لم يكن يوم ثلاثاء. ولا يمكننا البقاء في القاهرة إلى الثلاثاء المقبل، ونحن غرباء. فلم يبق لي سبيل إلى لقاء الشيخ والاستمتاع بحديثه وتوجيهه وفكره إلا بحضوره هو إلى طنطا، أو بعض المدن الأخرى القريبة.الحب من أول كلمةحظِيْت بالاستماع إلى الشيخ الإمام حسن البنا، منذ كنت طالبا في السنة الأولى الابتدائية، كما تحدثت عن ذلك في حينه، وأعجبت بشخصية الرجل، وملك حبه قلبي، وإذا كانوا في عالم العشاق يتحدثون عن الحب من أول نظرة، ففي عالم الدعوة، يمكن أن نتحدث عن الحب من أول كلمة. وكانت أول مرة أسمعه يوم جاء إلى طنطا في بداية السنة الهجرية، وكانت الجمعيات المختلفة تتنافس في الاحتفال بها، وكان منها جمعية الإخوان المسلمين في طنطا.وفي ليلة من الليالي قال لي ابن عمتي: سنتركك تنام، ونذهب لسماع الشيخ حسن البنا في احتفال الهجرة. قلتُ لابن عمتي: ولماذا لا أذهب معكم؟قال: أنت صغير، ومثل هذه الاحتفالات يطول ويمتد!قلت: ولكني حريص على الاستماع إلى الشيخ البنا، ولا أريد أن أحرم منه. قال ابن عمتي لأصحابه من طلاب الثانوي الكبار من أبناء قريتنا: الولد مُصِرّ على المجيء لسماع الشيخ، فقالوا له: دعه يحضر، فلعله يسمع شيئاً ينفعه في المستقبل.. وذهبت معهم إلى شعبة الإخوان قرب (ميدان الساعة) في طنطا، وتكلم كثيرون قبل الشيخ البنا، ومنهم شعراء وخطباء مؤثرون، ثم كانت كلمة الختام للشيخ البنا، الذي انتظره الناس بفارغ الصبر، كما ينتظر الظمآن الماء، والسقيم الشفاء.وتحدث الشيخ عن وداعِ عام، واستقبال عام، وشبَّه السنة المنصرمة بكراسة الطالب الذي أساء استخدامها، وأمسى يريد الخلاص منها، والاستعاضة عنها بكراسة جديدة نظيفة، يحرص على نظافتها وسلامتها، حتى إذا اطلع عليها المفتش رضي عنها.أخذ الشيخ هذا المثل من مهنته بوصفه معلما، ثم تحدث عن الهجرة، وقال: إن الهجرة بوصفها قصة لخصها الله في آية من كتابه "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [التوبة:40].قال الشيخ: ولكنا نتحدث عن الهجرة باعتبارها حدًّا فاصلًا بين عهدين: عهد تكوين الفرد في مكة، وعهد إقامة المجتمع في المدينة. وتحدث بتفصيل مناسب عن خصائص كل منهما بما شفى وكفى، وأوفى إلى الغاية.. كنت منذ وعَيت أستمع إلى حديث الهجرة كل عام من علماء قريتنا، وهو حديث مكرور لا يعدو الحديث عن قصة العنكبوت والحمام، وما يجري مُجرى ذلك، أما هذه الليلة فقد سمعت حديثًا جديدًا أصيلًا، لا عهد لي بمثله. ولقد وعيته وهضمته، وأكاد أحفظ كلامه كله لشدة وضوحه، وتركيزه، وبلاغته.حديث متفردوعند عودتنا إلى المنزل سألني ابن عمتي وصحابه: ماذا فهمت من الشيخ البنا؟ فقلت لهم: لقد قال الرجل كذا وكذا وكذا، وسردت عليهم حديث الرجل مفصلًا، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما شاء الله، لقد حفظ الولد حديث الشيخ ووعاه، كأنما يقرؤه من كتاب!! وأصبحت منذ تلك الليلة حريصًا كل الحرص على الاستماع إلى الشيخ البنا، كلما جاء إلى طنطا في مناسبة من المناسبات.لقد تعلق فؤادي بحسن البنا، تعلُّق المريد بالشيخ، والتلميذ بالأستاذ، والجندي بالقائد، وإن كنت لم أصبح جنديًّا في جماعته إلا بعد ثلاث سنوات، ولكني كنت أترقب قدومه إلى طنطا، لأسعى إلى الاستماع إلى حديثه المتفرد، وقد جاء مرة إلى طنطا لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج، وسمعت منه ما لم أسمع من غيره في هذه المناسبة. وأهم ما نبه عليه في هذه المناسبة: التذكير بقضية المسجد الأقصى، منتهى رحلة الإسراء، ومبتدأَ رحلة المعراج، وواجب الأمة المسلمة نحو مقاومة المشروع الصهيوني، وكانت هذه المرة حين اشتعال قضية فلسطين، والتنادي بالجهاد، وتخاذل الحكومات العربية، وقال فيما قال: ليتهم يمدون أهل فلسطين بالمال والسلاح والمتطوعين، ويكفون أيديهم عنهم.. كان الرجل من القلائل الذين أدركوا خطر الصهيونية، وحذروا منه، وأنذروا في وقت مبكر، وكان يعيش في قضية فلسطين، أو قل: تعيش فيه قضية فلسطين.وفي هذه الزيارة ألقيت قصيدة بين يديه في مدحه، وما مدحت أحداً من الأحياء غيره، وقد وقعت منه موقع الرضا والاستحسان، وأحسبه قال: إنه لشاعر فحل، أو شاعر مطبوع. لا أذكر تماماً. وقد أخذ القصيدة مني سكرتيره: الأستاذ سعد الدين الوليلي، الذي كان يرافقه غالباً. ولم تكن عندي منها نسخة أخرى، ولكني كنت أحفظ أكثرها، وحين أراد الأخ الحبيب: حسني أدهم جرار، جمع ما تيسر من شعري، أمليت ما أحفظه عليه منها، ونشرت بعنوان: (يا مرشدًا قاد بالإسلام إخوانًا) في ديواني (نفحات ولفحات)، قلت فيها:يا مرشـــداً قاد بالإسـلام إخوانـا وهز بالدعوة الغــراء أوطانـايا مرشداً قد سرت في الشرق صحبته فقام بعد مـنــام طال يقظانـافكان للعُرْب والإســـلام فجر هدى وكان للغـــرب زلزالا وبركاناربَّيـتَ جيـلاً من الفــولاذ معدِنـه يزيده الضغط إســـلاماً وإيماناأردت تجديد صـرح الدين إذ عبـثت به الســنون فهدت منه جدرانافقمت تحمل أنقاضاً مكدسة وعشـت تعلــي لديــن الله أركانــاترسي الأساس على التوحيد في ثقة وترفع الصـرح بالأخلاق مُزداناحتى بلغــت الأعالي مصـلحاً بطلاً تطل من فوقها كالبدر جَذْلانـــاوثلة الهدم في الســـفلى مواقعهم صــبو عليك الأذى بغياً وعدواناترميك بالإفك أقلام وألســــــنة خانت أمانتها، يا بئــس من خاناوتنشـــر الزُّورَ أحزاب مضــللة تغلي صــدورهمو حقداً وكفراناكـذاك لا بـد للبنـــاء من حجـر يصيبــه أو يصيب الطين أرداناولم نلُمْهُم فهذا كله حسـد والغِل يوقد فـي الأحشــــاء نيرانــاوانظر ليوســــف إذ عاداه إخوته فجرعوه من الإيذاء ألوانـــارأوه شمساً، وهم في جنبه سرج رأوا أباهم بهذا النـور ولهانافدبروهـــا بظلمــاء مؤامــرةً ليبعدوا عنه وجهاً كان فتَّانــاألقوه في الجب لم يرعوا طفولتــه باعوه كالشاة لم يرعوا له شاناوعاش يوســـف دهراً يخدم امرأة عبداً، وكان له في السجن ما كانافإن يك نسـل يعقـوبٍ كذا فعلــوا فلا تلم نســل فرعونٍ وهاماناودع أذاهم وقـل موتـوا بغيظـكـم فالغرب مولاكمو، والله مولانـاآذَوك ظلمــاً فلم تجـزِ الأذى بأذى وكان منك جزاء السوء إحساناوكنت كالنخل يُرمى بالحجارة من قوم فيرميهمو بالتمــر ألواناقد أوســـــــعوك أكاذيبًا ملفقة وأنت أوسعتهم صفحاً وغفراناوقلت: رب اهدهِم للحق واهد بهم واجعلهمو للهدى جنداً وأعواناومن تكنْ برسول الله أســـــوته كانت خلائقه روحـاً وريحانـا البنا من القلائل الذين أدركوا خطر الصهيونية وحذروا منه.. ظروف الدعوة وتطور الحركة أجبرت البنا على التفرغ التام لهاقال: يا رب سلم.مؤتمر الإخوانومن المرات التي حضرها الامام الشهيد حسن البنا إلى طنطا، مرة ألقى فيها أكثر من حديث؛ منها حديث مع المعلمين، وحديث مع الطلاب، وقد أوصانا في هذا اللقاء بوصايا ثلاث: الاجتهاد في العلم، والاستقامة في الدين، والمحبة بيننا.. على أن أعظم زيارة لمدينة طنطا، تجلت فيها عبقرية حسن البنا، وتحدث فيها فأبلغ وأبدع وأشبع، كانت حين عقد المؤتمر العام للإخوان المسلمين لشرح المطالب القومية. وكان هذا المؤتمر أحد مؤتمرات الإخوان التي تعقد في عواصم المديريات في مصر، لشرح الأهداف الوطنية، التي هبَّت الأمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية للمطالبة بها.أقيم سرادقٌ كبير في ميدان البلدية بطنطا، حضره جَم غفير من أبناء طنطا، ومن إخوان الغربية من مراكزهم المختلفة، وتحدث فيه عدد من خطباء الإخوان، منهم الأستاذ أحمد السكري وكيل الإخوان، والأستاذ نصيف ميخائيل، وهو باحث قبطي مصري كان يصطحبه الأستاذ البنا في مؤتمراته المختلفة، ليتحدث عن قضية قناة السويس، وحق مصر فيها، وهو من المتخصصين في هذا المجال، الذي يهتم به البنا ويعرف قيمته. وكان يهدف بهذا إلى تجميع عنصري الأمة من المسلمين والأقباط لمواجهة الاستعمار البريطاني، وقطع الطريق على الذين يصيدون في الماء العكر، ليفرقوا بين أبناء الشعب الواحد، وإشعال نار الفتنة الدينية بينهما. وكان الأستاذ البنا على وعي بألاعيب الاستعمار الذي جعل شعاره: (فرق تسد)؛ فكان على صلة حسنة بزعماء الأقباط، حتى أشرك بعضهم في اللجنة السياسية للإخوان. وبعد أن تحدث الخطباء والشعراء، جاء دور الإمام البنا، الذي انتظرت الجموع الحاشدة كلمته بفارغ الصبر، وشديد الشوق. وقام حسن البنا ليعلن: أنه سيتحدث في أمور ثلاثة: قضيتنا، وسيلتنا، دعوتنا. قال:قضية الوطنأما قضيتنا، فأقصد بها قضية (الوطن): الصغير، والكبير، والأكبر.وبيَّن ما يريد بالوطن (الصغير) وهو: وادي النيل، بشماله (مصر)، وجنوبه (السودان)، وقال: إنه يعتبر مصر هي السودان الشمالي، والسودان هو مصر الجنوبية. وحدد الهدف القومي بالنسبة لهما في أمرين: الجلاء التام (أي جلاء جيش الإنجليز) عن وادي النيل كله؛ برًّا وبحرًا وجوًّا، وتركه لأهله يحكمونه كما يشاءون. ووحدة هذا الوادي تحت علم واحد، ومَلِك واحد، وحدة سياسية واقتصادية وثقافية وتعليمية.. إلخ.. أما الوطن الكبير، فيشرحه البنا بأنه (الوطن العربي)، ويحدده بأنه من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي. ولم يكن مصطلح (الخليج العربي) قد ظهر بعد. كما أصبح يقال بعد: من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر. وكان كلام البنا أول كلام محدد أعرف به حدود الوطن العربي. وأما الوطن الأكبر، فهو (الوطن الإسلامي) من المحيط إلى المحيط، أي من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، أو من جاكرتا على المحيط الهادي إلى رباط الفتح على المحيط الأطلسي. وكان هذا أول تحديد للوطن الإسلامي أسمعه، ولهذا تحدث عن إندونيسيا وضرورة تحريرها من الاستعمار الهولندي، وعن ضرورة تحرير تونس والجزائر ومراكش بلاد المغرب العربي، وكان يعبر عن المغرب في هذه الفترة بـ(مُرَّاكُش). وبين أن على الأمة الإسلامية ـ بالتضامن ـ أن تعمل على تحرير أوطانها كلها، من كل سلطان أجنبي "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" [النساء:141]. وأشار إلى ما ذكره الفقهاء من أنه: إذا أسرت امرأة في المشرق، وعجز أهل المشرق أن ينقذوها من أسرها، فعلى أهل المغرب أن يقوموا بذلك. وأفاض الأستاذ البنا في قضية مصر، وشرح جذورها التاريخية، وحدد الأهداف الوطنية ـ كما قلت ـ في الجلاء والوحدة.وسيلة بعد وسيلةثم تحدث عن (وسيلتنا) في تحقيق أهدافنا والوصول إلى حقنا، وبينها وسيلة بعد وسيلة، تبدأ بـ (المفاوضة) مفاوضة صاحب الحق لا المستجدي، ويجب أن تقف الأمة كلها وراء المفاوض، وعلى المفاوض أن يتجاوب مع نبض الأمة، ولا يستخزي، ولا يستسلم أبداً. فإن لم تُجْدِ (المفاوضة) لجأنا إلى (المقاطعة) مقاطعة الإنجليز اقتصادياً، لا نشتري منهم، ولا نبيع لهم، نحن المصريين والسودانيين والعرب والمسلمين عامة. فنقاطع كل بضاعة إنجليزية، وعلى علمائنا أن يصدروا الفتاوى الدينية القاطعة بتحريم الشراء من العدو؛ لأن ذلك تقويةٌ له على المسلمين، وكل ما يقويه على المسلمين، لا يجوز لنا أن نُعِيْن فيه، وكل قرش يذهب إلى الخزانة البريطانية، يتحول إلى رصاصة تقتل المصريين والسودانيين.. وأشار إلى أن الشعب المصري (شعب قنوع) يستطيع أن يعيش على القليل، والأقل من القليل، إذا كان ذلك في سبيل عزته وكرامته وحريته. فإن لم تُجْدِ (المقاطعة) أو لم تَكْفِ، فلا بد من الوسيلة الأخيرة التي يفرضها الواقع، كما يفرضها الدين، وهي (الجهاد): أن نقاتل الإنجليز بكل ما نستطيع من قوة، وأن نجند رجالنا وشبابنا لذلك، وأن نربي أنفسنا لهذه الغاية، وأن نشِيْع روح الجهاد في الأمة، بدل روح الميوعة والخلاعة والخنوثة، التي تفعل في نفوس أبنائنا ما تفعل السموم في الأبدان.. والجهاد في هذه الحالة فرض عين على كل مصري وسوداني، حتى يُخْرِج الإنجليز من وطنه، وكل مواطن عليه أن يبذل ما يقدر عليه، والإخوان المسلمون مستعدون أن يقدموا الآلاف من شبابهم فداء لوطنهم، الذي هو جزء عزيز من أرض الإسلام. ثم قال الأستاذ: لقد كنت في مقتبل شبابي أقرأ بعض الأوراد التي تتضمن أذكاراً وأدعية، نتعبد الله بتردادها. حضور البنا إلى طنطا كان السبيل الوحيد للقاء الشيخ والاستمتاع بحديثه.. حديث البنا عن الهجرة حديثًا جديداً أصيلاً لا عهد لي بمثله.. عرفت حدود الوطن العربي من كلام البنا وكان من هذه الأدعية دعاء يقول: اللهم ارزقني الحياة الحسنة، والموتة الحسنة. فما الموتة الحسنة أيها الإخوان؟ هل الموتة الحسنة أن تموت على سريرك بين أهلك وأولادك وذويك؟ إن الموتة الحسنة ـ كما أتصورها ـ أن يفصل هذا الرأس (وأشار إلى رأسه) عن هذا الجسد، في سبيل الله!!وهنا ضج الجمع الحاشد بالتكبير والتهليل. ثم تحدث الأستاذ رحمه الله عن المحور الثالث، وهو (دعوتنا)، مركزًا الحديث حول (الدعوة الإسلامية) في هذا العصر، ومضمونها وأهدافها، وخصائصها. وكان الرجل مشرقًا متألقًا، كأن كلامه تنزيلٌ من التنزيل، أو أقباسٌ من أضواء النبوة. وانفض المؤتمر الكبير بسلام، ولا حديث للناس إلا عن حسن البنا، وفَهمِ حسن البنا، وكلامِ حسن البنا.

2149

| 17 يونيو 2015

محليات alsharq
"كتارا" تدشن جائزة "شاعر الرسول"

تحت شعار "تجملَ الشعرُ في خيرِ البشر" ، دشنت المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا" ، جائزة "شاعر الرسول" ، والتي تعد الأكبر من نوعها على مستوى الوطن العربي، وتهدف إلى اختيار المتسابق الذي سوف يتألق ويتجمل ويصدح بأجمل القصائد وأعذب الكلمات والأبيات، في مديح الرسول وسيرته النبوية العطرة، ذلك خلال حفل أقيم مساء اليوم في قاعة الدراما بالحي الثقافي. وانطلقت فعاليات الحفل بحضور سعادة الدكتور خالد بن إبراهيم السليطي المدير العام للمؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا وسعادة الدكتور غيث بن مبارك الكواري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية و الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي و الشيخ الدكتور عبد الرحمن العشماوي و الشيخ الدكتور علي القره داغي وعدد من المسؤولين والشخصيات والعلماء. د. خالد السليطي خلال تدشين جائزة "شاعر الرسول" وقد انطلق الحفل بعد صلاة المغرب في مسجد كتارا، حيث ألقى الشيخ بدر الحجرف درسا في حب خير البشر، استعرض فيه مناقب الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وواجب المسلمين نحوه. عقب ذلك انتقل الحضور إلى قاعة الدراما، حيث ألقى سعادة الدكتور خالد بن إبراهيم السليطي المدير العام للمؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا"، كلمة قال فيها: يسرنا أن نلتقي اليوم ونحن على أعتاب شهر رمضان الفضيل، لنعلن عن تدشين جائزة كتارا لشاعر الرسول. وأضاف: ان اطلاق هذه الجائزة ما هو الا تعبير بسيط عن مقدار المكانة العظيمة لخير البشر في وجدان أبناء الامتين العربية والإسلامية بل الإنسانية جمعاء، إذ جاءت الرسالة المحمدية رحمة لكافة البشر مصداقا لقوله تعالى "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين".وتابع الدكتور السليطي قائلا: لقد أردنا من خلال هذه الجائزة تحقيق عدة أهداف من بينها تعميق حب المصطفى في قلوب الأجيال المعاصرة، والمساهمة في حفظ اللغة العربية السليمة وتداولها بشكل صحيح، وتشجيع أبناء الوطن العربي والإسلامي لحفظ الشعر والاهتمام به، لما له من أثر طيب في زرع القيم الإسلامية الأصيلة في نفوسهم وللمحافظة على تراثنا وتناقله عبر الأجيال، إلى جانب استثمار الشعر في إبراز رسالة الإسلام السمحة والذود عنها. السليطي ووزير الأوقاف والقرضاوي خلال حفل التدشين وأضاف: أننا ونحن نطلق جائزة كتارا لشاعر الرسول نتطلع إلى أوسع مشاركة فيها من قبل الشعراء من مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي، كما يسرنا الإعلان عن تقديم خمس جوائز بقيمة مالية مجزية للمشاركين في هذه الجائزة، التي ستجد كل رعاية واهتمام من المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا" لتكون بحق نقطة اشعاع في حب الرسول الكريم وإبراز رسالة الإسلام العظيم، وتعزيز مكانة اللغة والثقافة والشعر العربي.وجرى خلال الحفل عرض فيلم بعنوان جائزة كتارا لشاعر الرسول، كما ألقى الشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي، والشاعر أدي ولد ادب، عددا من القصائد في حب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وقد جرى تدشين الموقع الالكتروني للجائزة وفتح باب المشاركة فيها. وقد كان عريف الحفل الشاعر علي عبد الله الانصاري. أهداف الجائزة هذا وتهدف جائزة كتارا لشاعر الرسول إلى اختيار المتسابقين الذين سيتألقون ويتجملون ويصدحون بأجمل القصائد وأعذب الكلمات والأبيات، مستخدمين كل أدواتهم الشعرية وأساليب وتراكيب اللغة العربية للارتقاء بالحس الشعري والوصول إلى أبهى جماليات الشعر المتخصص في مديح الرسول وسيرته النبوية العطرة ومن ثم الاستحواذ على أسماع وقلوب الجمهور العريض الذي يستمع بحيادية شديدة وينتقد نقداً موضوعياً .وامتداداً للاحتفاء الواضح بالشعر، تسعى الجائزة إلى حفظ اللغة العربية السليمة وتداولها بشكل صحيح. كما تهدف إلى تشجيع أبناء الوطن العربي والإسلامي على حفظ الشعر والاهتمام به، لما له من أثر طيب في زرع القيم الإسلامية الأصيلة في نفوسهم وللمحافظة على تراثنا وتناقله عبر الأجيال، إلى جانب استثمار الشعر في إبراز رسالة الإسلام السمحة والذود عنها ضد المغرضين من أصحاب النفوس المريضة الذي يسعون إلى تشويه صورة ديننا الحنيف. وتهدف الجائزة كذلك إلى تعميق حب المصطفى في قلوب الأجيال المعاصرة المحاطة بالكثير من الأفكار والتيارات التي تسعى للانحراف بهم عن طريق الهداية لاسيما وأن الشعر يهز المشاعر ويحرك العواطف. كما تهدف إلى تشجيع المواهب الشابة وصقلها وتنميتها والأخذ بيد الشباب ليترجموا نبوغهم إلى أشعار تخدم الإسلام. خلال حفل التدشين ومن بين أهداف جائزة كتارا لشاعر الرسول التأكيد على أهمية الشعر واللغة العربية في وحدة الأمة الإسلامية، وربط شباب الأمة بحضارتها وتدعيم الهوية العربية، وتعريف الجمهور بقيمة فن الشعر ومدى تأثره بواقعنا وتأثيره عليه من خلال التجارب الشعرية والقصائد الملقاة على لسان المتسابقين.اضافة إلى تعزيز الجهود التي تهدف الى المحافظة على التراث الأدبي واللغة العربية، وإحياء التراث من الأشعار الإسلامية القديمة والألوان الشعرية الحديثة في مناخ يغلب عليه روح المنافسة والتفاعل، وإبراز المواهب الشعرية الملهمة والتحليق بها في سماء العالمية بدلاً من الانغلاق في نطاق المحلية.أما الشريك الاستراتيجي للجائزة فهي قناة الرسول الفضائية. وتبلغ جوائز المسابقة خمس جوائز قيمتها الاجمالية 675 ألف دولار وهي: الجائزة الأولى 300 ألف دولار أمريكي. الجائزة الثانية 200 ألف دولار أمريكي. الجائزة الثالثة 100 ألف دولار أمريكي. الجائزة الرابعة 50 ألف دولار أمريكي. الجائزة الخامسة 25 ألف دولار أمريكي. شروط المسابقةأما شروط المشاركة في جائزة كتارا لشاعر الرسول فهي أن يكون موضوع القصيدة في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته النبوية، علما بأن المشاركة مقصورة على القصائد المكتوبة باللغة العربية الفصحى، وتكون المشاركة مقصورة على شعر الفصحى العمودي التقليدي أو الشعر الحر أو التفعيلة ولا تقبل قصيدة النثر، في حين أن المشاركة مفتوحة للشعراء من كافة أنحاء العالم من سن 20 إلى سن 60 عاما، على ألا تقل القصيدة عن 30 بيتاً ولا تزيد على 60 بيتا. وألا تكون القصيدة المقدمة مكررة أو حائزة على جوائز أخرى.ويرسل الشاعر مع قصيدته سيرته الذاتية وإنجازاته الشعرية كما يتم تقديم القصيدة من خلال التسجيل عبر الموقع الالكتروني الخاص بالجائزة، بشرط أن تكون القصيدة من تأليفه الشخصي ويتحمل كامل المسؤولية الأدبية والقانونية عنها، علما بأن آخر موعد لاستلام القصائد هو 31 ديسمبر 2015.ومن بين معايير الجائزة الالتزام ببناء القصيدة وتماسكها فنياً من ناحية الألفاظ والتراكيب، والالتزام بوزن القصيدة وأحكام القافية، وقوة الأداء والتأثير، والقابلية على إحكام اللغة العربية بأساليبها وتركيباتها اللغوية، وملكة المتسابق الشعرية، ومقدرة المتسابق على نقل الإحساس بكل معنى الكلمة الى اللجنة.أما لجان التحكيم لجائزة شاعر الرسول فتتألف من لجنة الفصح والتدقيق وهي مكونة من متخصصين وأكاديميين في اللغة العربية، وتتولى فحص وتدقيق جميع القصائد المرسلة من قبل المتسابقين لاختيار أفضل عشرة شعراء منهم، ثم ترفع أعمالها إلى لجنة التحكيم النهائية. وتتكون لجنة التحكيم النهائية من ثلاثة أعضاء من متخصصين وأكاديميين يقومون باختيار أفضل خمسة شعراء.إشادة بالجائزةمن جهة ثانية، تلقى الدكتور خالد بن إبراهيم السليطي المدير العام للمؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا" رسالة من الدكتور عبد العزيز بن علي الحربي رئيس مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية أعرب خلالها عن سعادته أن تُنظم جائزة ذات شأن كبير تحت عنوان "جائزة كتارا لشاعر الرسول" وتهدف إلى تعميق حب محمد صلى الله عليه وسلم في قلوب الاجيال وتشجيع المواهب الشابة وصقلها على حفظ الشعر، لا سيما شعر الفصحى والاهتمام به، لما له من أثر طيب في زرع القيم الاسلامية الاصيلة في نفوس الشبان والمحافظة على التراث العربي الاسلامي.وأضاف الحربي في رسالته "يسعد مجمع اللغة العربية وهو الشبكي انطلاقا، اللغوي عطاء، المكي نشأة، السعودي رعاية، العربي تواصلا، العالمي رسالة.. ويرأس مجلس أمنائه معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي.. أن يتقدم للقائمين على هذه الجائزة الكبيرة ذات الاعتبار والتقدير بالثناء الجزيل على مبادرتهم النفيسة.. والمجمع من منطلقه المكي، مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن منطلق رسالته التي يهدف الى تحقيقها، ليشرف بتقديم كل ما ترونه نافعا وداعما ومثريا لهذه المبادرة.. صياغة أو تصحيحا أو تصنيفا أو نشرا".

1345

| 15 يونيو 2015

تقارير وحوارات alsharq
حوار شامل للشرق مع العلامة القرضاوي

أدان فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي التفجيرات الإرهابية التي شهدتها المملكة العربية السعودية سواء تفجير القطيف أو محاولة تفجير مسجد العنود بالدمام أول أمس.ووصف فضيلته في حديث مع الشرق هذا العمل بالإجرامي، مؤكدا أن من قام به أناس لايعرفون حرمة لدار عبادة ولا لنفس بشرية.وتطرق الحديث مع فضيلته الى الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة، مؤكداً أنها إختلافات في الأصول وليست مجرد خلافات في الفروع، لكنه شدد على أن هذه الاختلافات الكبيرة بيننا وبين الشيعة لا تعني أن نقبل بهذه الأعمال الإرهابية، التي تستهدف البرآء، حتى لو كانوا غير مسلمين، فما بالك وهي تستهدف مسلمين شيعة، ذهبوا يصلون الجمعة.وقال فضيلته: إننا أنكرنا مثل هذه الحوادث من قبل، وننكر هذا الحادث وأصدرنا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانا مفصلا حول هذا الموضوع، وأكد أن هذا من الأفعال الإجرامية القبيحة التي تستهدف المصلين وبيوت الله على أسس طائفية بغيضة، وتقتل الأبرياء بغير حق، وتسيء إلى صورة الإسلام والمسلمين، وتزرع الكراهية والبغضاء بين الناس ولا تحمل أي رسالة خير أتى بها الدين الإسلامي الحنيف، وقد أكد سبحانه وتعالى "أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" كما ندد الاتحاد واستنكر بشدة هذا الحادث الإجرامي أياً كان مرتكبوه.وتقدم بخالص التعازي في ضحايا الحادث للمملكة العربية السعودية ملكاً وشعباً وحكومة، وإلى أهالي الضحايا ومحبيهم، داعيا للمصابين بالشفاء العاجل بإذن الله تعالى.وشجب بشدة استهداف أماكن العبادة من أي جهة كانت، مؤكدا أنها صدرت من الذين لا يعرفون حرمة لدار عبادة، ولا لنفس بشرية حرم الله قتلها إلا بالحق، وطالب بملاحقة المسؤولين والمدبرين والمخططين لها، والقصاص العادل منهم، وفق الشريعة الإسلامية.وحذر فضيلته من موجة الصراع المذهبي القادمة على دولنا العربية والاسلامية، مؤكدا أن الصراع المذهبي تديره دولة لها استراتيجيتها القومية ويعتمد على ميليشيات الموت التي تقتل على الهوية.وتحدث فضيلته عن حرب اليمن، مؤكدا أنها نتيجة تحول الحوثيين من زيدية مسالمين ومتآلفين إلى المذهب الجعفري الاثني عشري وأن إيران تقف وراء إذكاء نار الفتن، معربا عن أمله في وجود عقلاء يغلبون مصلحة الدين على المصالح السياسية الضيقة، وقال: إن إيران تقف وراء نشر المذهب الشيعي وفق استراتيجية لم يعد يجدي معها حوار التقريب بين المذاهب، حيث أنشأت المجلس الأعلى للثورة الثقافية بهدف نشر التشيع في الدول العربية والإسلامية وبين الأقليات المسلمة في أنحاء العالم مستغلين فقر الناس وحاجتهم وعاطفتهم نحو آل البيت.وأكد حرص أهل السنة على الحوار وانه في كل لقاءات التقريب بين المذاهب كان يتم التأكيد على الإعلان أن القرآن - كما هو مطبوع في مصاحف المسلمين - هو كلام الله المنزل، وكتابه المحفوظ، الذي لا يقبل الزيادة ولا النقصان، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والكف عن سب الصحابة رضي الله عنهم، والكف عن محاولة نشر المذهب في البلد الخالص للمذهب الآخر والاعتراف بحقوق الأقلية، سنية كانت أو شيعية.وأعرب عن أسفه لعدم تجاوب إيران مع هذه الدعوات بل خرج بعض المتحدثين الرسميين في إيران- بعد دخول الحوثيين صنعاء- ليعلن سيطرة إيران على أربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء!! وسمعنا من مرجعياتهم من يهدد عواصم عربية أخرى، ويبشر أتباعه بقرب تحرير مكة والمدينة!!وقال فضيلته: إن مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين شكل لجنة تقصي حقائق عن التشيع في إفريقيا، وأصدرت اللجنة تقريرا ميدانيا قارب 750 صفحة، رصدت أنشطة إيران وجهودها لنشر التشيع في إفريقيا وأن من لا يعي خطورة هذا الأمر، فلينظر ما حدث في بلاد الصراع المذهبي (الطائفي) الذي راح ضحيَّته عشرات الألوف ومئات الألوف، كما هو واضح في العراق، من ميليشيات الموت، وتحريق المساجد، والقتل على الهُويَّة.وحذر من الوقوع في براثن الفتن، وطالب بالحيطة والحذر من دعوات الطائفية التي يتم ترويجها، والتي تأتي على الأخضر واليابس في بلادنا، وليس المشهد بالعراق وسوريا واليمن وغيرها منا ببعيد.وفيما يلي مقتبسات من الحوار:73 فرقة* بداية لو تحدثنا فضيلة الدكتورعن الخلافات المذهبية إستناداً إلى حديث: "تختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". كيف تفسرون هذا الحديث في ضوء الاختلافات الكبرى التي على الساحة الإسلامية، والتي حدثت عبر تاريخ الأمة؟حديث افتراق الأمة إلى فرق فوق السبعين كلها في النار إلا واحدة، فيه كلام كثير في ثبوته، وفي دلالته. فهذا الحديث لم يرد في أي من الصحيحين، برغم أهمية موضوعه، دلالة على أنه لم يصح على شرط واحد منهما، وهما وإن لم يستوعبا الصحيح، حرصا أن لا يدعا بابا مهما من أبواب العلم إلا ورويا فيه شيئا، ولو حديثا واحدا.وبعض رواياته لم تذكر أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، وإنما ذكرت الافتراق وعدد الفرق فقط، كحديث أبي هريرة، وفيه: "افترقت اليهود على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".والحديث - وإن قال فيه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم - مداره على راوٍ صدوق له أوهام. والصدق وحده في هذا المقام لا يكفي ما لم ينضم إليه الضبط، فكيف إذا كان معه أوهام؟‍!ومعلوم أن الترمذي وابن حبان والحاكم من المتساهلين في التصحيح، وقد وُصِفَ الحاكم بأنه واسع الخطو في شرط التصحيح.على أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة ليس فيه زيادة: أن الفرق "كلها في النار إلا واحدة" وهي التي تدور حولها المعركة.وقد روي الحديث بهذه الزيادة من طريق عدد من الصحابة، وكلها ضعيفة الإسناد، وإنما قووها بانضمام بعضها إلى بعض، والذي أراه أن التقوية بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه، كما يبدو ذلك في كتب التخريج، والعلل، وغيرها! وإنما يؤخذ بها فيما لا معارض له، ولا إشكال في معناه.وهنا إشكال أي إشكال في الحكم بافتراق الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار إلا واحدة منها. وهو يفتح بابا لأن تدعى كل فرقة أنها الناجية، وأن غيرها هو الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعا، ويقوي عدوها عليها، ويغريه بها.ولهذا طعن العلامة ابن الوزير في الحديث عامة، وفي هذه الزيادة خاصة، لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضها لبعض، بل تكفيرها بعضها لبعض.قال رحمه الله في "العواصم" وهو يتحدث عن فضل هذه الأمة، والحذر من التورط في تكفير أحد منها، قال: وإياك والاغترار بـ"كلها هالكة إلا واحدة" فإنها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة.· إذن زيادة: "كلها في النار إلا واحدة" ترونها زيادة ضعيفة؟نعم، بل رآها ابن حزم وابن الوزير موضوعة، وكذا الإمام الشوكاني الذي يقول: أما زيادة "كلها في النار إلا واحدة" فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة.وأقول: الحديث - وإن حسنه بعض العلماء بتعدد طرقه - لا يدل على أن هذا الافتراق بهذه الصورة وهذا العدد، أمر مؤبد ودائم إلى أن تقوم الساعة، ويكفي لصدق الحديث أن يوجد هذا في وقت من الأوقات.· فضيلة الشيخ.. كيف ترى الإتجاهات الفكرية الموجودة على الساحة حالياً؟هناك الاتجاه الذي يعيش على الماضي ويجتره، ويعيد مضغه من جديد ولا يضيف إليه شيئًا، يفكرون بعقول الأموات من الماضين، وينظرون إلى إشكالات الحياة المعاصرة بعيونهم. يعيشون على الماضي وحده، ولا يهتمون بما يمور به العصر من تيارات، ولا ما يعانيه الواقع من مشكلات؛ فهم قدماء في أفكارهم، قدماء في لغتهم، قدماء في توجههم.ولا ننازع في أن أئمتنا وفقهاءنا الأقدمين تركوا للأمة فقهًا ثريًا، وتركة غنية، ولكنهم اجتهدوا لزمانهم لا لزماننا، ولبيئتهم لا لبيئتنا، ولمشكلاتهم لا لمشكلاتنا. فعلينا أن نجتهد لزماننا وبيئتنا كما اجتهدوا.وهناك الاتجاه الذي يريد من الأمة أن تنسلخ من ذاتيتها، وتتنكر لعقيدتها وشريعتها ورسالتها، وتذوب في الأمم الأخرى الأشد قوة، والأكثر تقدمًا، والأقوى حضارة في الإبداع المادي؛ وهو في الحقيقة إعدام للأمة وإلغاء لشخصيتها وتميزها، وهذا هو الانتحار بعينه، فإن بقاء الأمة - بوصفها أمة - إنما يكون ببقاء شخصيتها وخصائصها الذاتية، فإذا ذابت في غيرها، وفنيت فيه، كما يذوب الملح في الماء، فلم يعد لها وجود متميز؛ فحياتها - كأمة - وموتها سواء، وهذا الاتجاه الخطير يمثله دعاة التغريب بفصائلهم المختلفة، وفلسفاتهم المتباينة: من اليمين الليبرالي، إلى اليسار الماركسي.وهناك الاتجاه الذي يقدم الإسلام وكأنه في قفص اتهام، أمام مُدَّعٍ يطالبه بأن تكون فلسفته كلها، وقيمه كلها، ومفاهيمه كلها، وتشريعاته كلها متماشية مع الغرب؛ فما خالف الغرب منها فـلا بــد له مـن عذر، ولا مفر من البحث له عــن مُســوّغ أو (مُبرِّر). ومن هنا وقف الكثيرون من قضية الحجاب في مجال المرأة، والطلاق وتعدد الزوجات في مجال الأسرة، والربا في مجال الاقتصاد، والجهاد في مجال العلاقات الدولية، وغيرها من القضايا الإسلامية الأصيلة موقف المحامي المدافع عن متهم تنتظره أقصى العقوبة!وهناك مدرسة الاعتذار والتبرير كانت ظاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، ولا يزال لها صوت إلى اليوم؛ يتمثل في أولئك الذين يريدون أن يحللوا الربا وفوائد البنوك بمماحكات شرعية، وأن يحللوا الخمر، أو يُسقطوا الحدود بمجادلات بيزنطية، ومثلهم الذين يريدون أن يخلعوا عن المسلمة حجابها بمثل هذا المراء العقيم.في مقابل الاتجاه الاعتذاري يوجد هذا الاتجاه الافتخاري، الذي يتحدث عن الإسلام وتاريخه وحضارته بالأمس، وعن صحوته وحركاته اليوم، حديث المختال الفخور، الذي لا يرى إلا الأمجاد يسردها، والمناقب يعددها، مغفلاً العيوب والآفات والعاهات الدينية والأخلاقية والفكرية والحضارية التي أصابتنا بالأمس، حتى دمرت بنيان حضارتنا، ولا تزال تصيبنا اليوم بصورة أخرى، وفي مجالات أُخَر، وعلى مستـوى آخر، حتى غـدونا في مـؤخرة القـافلة البـشرية. هؤلاء لم يحيطوا علمًا بما عند الآخرين، واعتبروا كل ما عندنا وردًا لا شوك فيه، وما عند الآخرين شوكًا لا ورد فيه.وهناك اتجاه اختصاري وهو الـذي يـريـد أن يختــصر الإســلام في العقــيدة والعبادة، وإن كانت صـــورة بلا حقيقة، وشبحًا بلا روح، ويحذف من الإسلام كل ما يجعل منه رسالة لإصلاح المجتمع، وبناء الأمة، وهداية العالم، وتجديد الحياة.اتجاه هؤلاء هو: الانتقاص من الإسلام؛ بإخراج بعض مـا هو من صُلبه منه.هذا الاتجاه يريد الإسلام: عقيدة بلا شريعة، ودعوة بلا دولة، وسلامًا بلا جهاد، وحقًّا بلا قوة، وعبادة بلا معاملة، وزواجًا بلا طلاق، ودينًا بلا دنيا.إن أصحاب هذا الاتجاه يريدون تحريف الإسلام وتحويله إلى ديانة جديدة، تحمل مضمون النصرانية وعنوان الإسلام.هذا هو اتجاه دعاة العلمانية الذين لا يريدون أن يعلنوها صريحة بأنهم يرفضون الإسلام، كما نزل به القرآن، وكما دعا إليه محمد عليه الصلاة والسلام، وكما فهمه الصحابة وتابعوهم بإحسان، وعلماء الأمة في سائر القرون، بل يريدون أن يحرفوا الإسلام باسم الإسلام، والإسلام من دعواهم براء.وهناك الاتجاه الاشتجاري، وهو الاتجاه الذي يقدم الإسلام (مشتجرًا) مع سائر الناس، معتركًا مع كل من يخالفه ؛ فهو ينصب معركة مع غير المسلمين، بل مع المسلمين غير الملتزمين، بل مع الملتزمين المخالفين لرأيه، مع الحكام، مع الفن — كل الفن — ومع المرأة التي تلبس الخمار، لمَ لمْ تلبس النقاب. مع الذين لا يرون رأيه في بعض مسائل العقيدة أو لا يقولون بقوله في بعض مسائل الفقه.وهناك الاتجاه الحضاري، وهذا ما ينادي به اتجاه (الوسطية الإيجابية) التي تنظر إلى الإسلام باعتباره رسالة حضارية متميزة، رسالة ربانية الغاية، إنسانية المحتوى، عالمية الوجهة، أخلاقية المنهج، إيجابية المسلك.يعمل هذا الاتجاه جاهدًا أن يُجند الأمة لجهاد كبير، يعيد إليها ذاتها، أو يعيدها إلى ذاتها؛ فتستفيد من أمسها، ملتفتة إلى يومها، متطلعة إلى غدها. جهاد همه البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق، والعمل لا الجدل، والعطاء لا الثناء.الظلم والاضطهاد· لكن فضيلة الدكتور، ما أسباب انتشار ظاهرة العنف؟ وكيف نواجهها؟أسباب انتشار العنف كثيرة، منها: الظلم الواقع في بلادنا، كان بالأمس بأيدي أعداء الأمة، وأصبح اليوم بأيدي بعض حكامها، حتى وجدنا بعض الحكام يضرب شعبه بالطائرات من فوق، والدبابات والمجنزرات من تحت.ومنها ما يراه الشباب المتحمس لدينه من انحراف عن النهج القويم الذي يحقق رضا الله تعالى بتطبيق شرعه، وإقامة عدله في الأرض، وإحلال حلاله وتحريم حرامه، ويحقق آمال الشعوب في حياة الحرية والكرامة، ورعاية الحقوق، وتوفير العيش الكريم الذي يليق بالإنسان المستخلف في الأرض، بل أحيانا نرى ردة حقيقية عن الإسلام جهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، يستطيل أصحابها ويتبجحون بباطلهم، ويستخدمون أجهزة الإعلام وغيرها لنشر كفرياتهم على جماهير المسلمين، دون أن يجدوا من يزجرهم أو يردهم عن ضلالهم وغيهم، ولا يجد هذا الشباب المتحمس المحب لدينه موقفا قويا من العلماء تجاه هذه الردة، بل يجدون منهم تساهلًا في شأن هؤلاء، وعدهم من زمرة المسلمين وأصحاب الرأي، والإسلام منهم براء، وفي مقابل ذلك يجد هؤلاء الشباب اضطهادًا لحملة الفكر الإسلامي السليم، والدعوة الإسلامية الملتزمة بالقرآن والسنة، وتضييقًا عليهم في أنفسهم ودعوتهم.والاضطهاد والتضييق لأصحاب الفكر الحر، لا يولد إلا اتجاهات منحرفة، تعمل تحت الأرض، في جو مغلق، بعيدا عن النور والحوار المفتوح.ومن هذه الأسباب: قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وعدم تعمقهم في العلوم الإسلامية واللغوية، الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون عن القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهما سطحيا سريعا، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة، دون أهلية كافية، فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق لشريعة الله وأحكامه، وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل، الذين صحت الأحاديث في ذمهم مع شدة حرصهم على التعبد والتنسك.الحركات الاسلامية رمز الوحدة· نشأت الحركات الإسلامية في البلاد العربية وفي البلاد الإسلامية غير العربية بعد إسقاط الخلافة الإسلامية التي كانت تمثل رمز الوحدة السياسية في الأمة، محاولة أن تجمع شتات الأمة، وتلم شعثها، وتجمع فرقتها. باعتبار فضيلتكم أحد المرجعيات الكبرى للحركة الإسلامية عامة، فما تقييمكم لتلك التجربة؟ وهل استطاعت الحركات الإسلامية أن تؤدي الدور المأمول، منها في توحيد الأمة؟الحركات الإسلامية منذ أن قامت حققت نجاحات على بعض المستويات: عرَّفت الأمة بربها، وبالقضايا الإسلامية، ووقفت حائط صد ضد الشبهات والهجمات ضد الإسلام، وربَّت جيلا مسلما يعرف دينه، ويعيش من أجل قضايا أمته.ولا شك كذلك أنها أخفقت في تحقيق بعض الأهداف، وعليها دائما أن تجري مراجعات مستمرة لإنجازاتها: ماذا حققت؟ وما الذي كان ينبغي أن تحقق؟ وما العوائق التي حالت دون ذلك، حتى نصل للمقصود.إصرار على نشر التشيع· دخلتم في مناظرة مع رفسنجاني، وطلبتم منه الاتفاق على ألا يدعو أتباع مذهب لمذهبهم في بلد ذي أغلبية مذهبية سنية أو شيعية، لكن لم يلتزم رفسنجاني بذلك، واعتبر أن نشر التشيع من مبادئ المذهب، فهل نحن إزاء طريق مسدود للحوار؟القوم مصرون على نشر التشيع في بلاد أهل السنة والجماعة، يدخلون للناس شيئًا فشيئًا، مرة من الجانب الخدمي، ومرة باللعب على حب الشعوب الإسلامية لآل البيت، ومرة من اختراقهم لبعض الطرق الصوفية، فالمخطط مستمر، له رجاله، وله ماليته، وميزانيته المفتوحة، وله برامجه وأهدافه ووسائله، والقوم مصممون على بلوغ غاية رسموا لها الخطط، ورصدوا لها الأموال، وأعدوا لها الرجال، وأنشأوا لها المؤسسات وهو أمر مخطط، وهو أمر معروف لكل من له صلة بالثورة الإيرانية، وهو ملموس في خارج إيران.أنشأت إيران لذلك (المجلس الأعلى للثورة الثقافية)، وهو مجلس يضم مجموعة من المؤسسات التي تعمل على نشر المذهب الشيعي والتعريف به في البلاد الإسلامية وبين الأقليات الإسلامية، يحدث ذلك في مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، فضلًا عن البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا، ناهيك عن الأقليَّات الإسلامية في أنحاء العالم. بل حاول الشيعة اختراق فلسطين، وفُتن قليل من الفلسطينيين بذلك، كما حدَّثني بعض رؤساء الفصائل، وهذه جريمة لا تُغتفر، لحاجة الفلسطينيين إلى التوحُّد لا إلى مزيد من الانقسام، وأنا قد نبهت من قبل، وأنبه الآن، وسأظل أنبه إلى أن ألقى الله تعالى، كل الغافلين عن هذا الخطر أن يرفعوا الغشاوة عن أعينهم حتى يبصروا، وينزعوا أصابعهم من آذانهم حتى يسمعوا، ما يجري في بلاد السنة من حولهم، ولا يعتبروا ذلك شيئا لا يستحقُّ الالتفات، قد كان (العراق) ذا أغلبية سنية كبيرة إلى القرن الثامن عشر، ثم بدأ الزحف المخطَّط في غفلة من الدولة العثمانية، بل كانت (إيران) نفسها سنية، كما يشهد بذلك تاريخ علمائها في التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة والأدب والتاريخ وغيرها، ثم أصابها ما أصابها، وغدت اليوم دولة التشيُّع الكبرى في العالم.تفجير إجراميعلى ذكر حادث التفجير الذي حدث مؤخرا في القطيف بالمملكة العربية السعودية، ما موقفكم من هذا الحادث؟لا يعني الخلاف الكبير بيننا وبين الشيعة أن نقبل بهذه الأعمال الإرهابية، التي تستهدف البرآء، حتى لو كانوا غير مسلمين، فما بالك وهي تستهدف مسلمين شيعة، ذهبوا يصلون الجمعة.أنكرنا مثل هذه الحوادث من قبل، وننكر هذا الحادث. وأصدرنا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانا مفصلا حول هذا الموضوع.وأكدنا أن هذا من الأفعال الإجرامية القبيحة التي تستهدف المصلين وبيوت الله على أسس طائفية بغيضة، وتقتل الأبرياء بغير حق، وتسيء إلى صورة الإسلام والمسلمين، وتزرع الكراهية والبغضاء بين الناس ولا تحمل أي رسالة خير أتى بها الدين الإسلامي الحنيف. وقد أكد سبحانه وتعالى { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32 ]. وندد الاتحاد ويستنكر بشدة هذا الحادث الإجرامي أياً كان مرتكبوه وتقدم الاتحاد بخالص التعازي في ضحايا الحادث للمملكة العربية السعودية ملكاً وشعباً وحكومة، وإلى أهالي الضحايا ومحبيهم، ويدعو للمصابين بالشفاء العاجل بإذن الله تعالى.وشجب الاتحاد بشدة استهداف أماكن العبادة من أي جهة كانت، من الذين لا يعرفون حرمة لدار عبادة، ولا لنفس بشرية حرم الله قتلها إلا بالحق، ويطالب بملاحقة المسؤولين والمدبرين والمخططين لها، والقصاص العادل منهم، وفق الشريعة الإسلامية.وحذر الاتحاد المسلمين جميعاً من الوقوع في براثن الفتن، وطالبهم بالحيطة والحذر من دعوات الطائفية التي يتم ترويجها، والتي تأتي على الأخضر واليابس في بلادنا، وليس المشهد بالعراق وسوريا واليمن وغيرهم منا ببعيد.الحوار بالكامل على صفحات جريدة الشرق عدد اليوم .. وتجدون فيه:* الصراع المذهبي تديره دولة لها استراتيجيتها القومية ويعتمد على ميليشيات الموت التي تقتل على الهوية * حرب اليمن نتيجة تحول الحوثيين من زيدية مسالمين ومتآلفين إلى المذهب الجعفري الاثنى عشري* تقرير من 750 صفحة أعدته لجنة من الاتحاد يرصد أنشطة ايران لنشر التشيع في إفريقيا * حديث "اختلاف أمتي إلى 73 فرقة كلها في النار إلا واحدة " موضوع ولم يثبت في الصحيحين * عدم استجابة الله لرسوله ألا يلبس أمته شيعاً لا يعني أن وقوعه حتم لازم لكنه متروك للسنن الاجتماعية * لو كان التفرق قدراً على الأمة لكان {وَاعْتَصِمُوا } أمراً بما لا يمكن وقوعه و{وَلَا تَفَرَّقُوا} نهياً عما يستحيل اجتنابه * الفرق والمذاهب كلها جزء من أمته صلى الله عليه وسلم ورغم بدعتها لا تخرج من جسد الأمة * أئمتنا الأقدمون تركوا للأمة فقهاً ثرياً ولكنهم اجتهدوا لزمانهم ولبيئتهم وعلينا أن نجتهد لزماننا وبيئتنا كما اجتهدوا* التنكر للعقيدة والشريعة والهوية الإسلامية والذوبان في الأمم الأخرى إعدام للأمة وإلغاء لشخصيتها وتميزها * لن نقدم الإسلام وكأنه في قفص اتهام أمام مُدَّعٍ يطالبه بأن تكون فلسفته وتشريعاته وقيمه متماشية مع الغرب* هناك من يريد اختصارالإسلام في العقيدة والعبادات ويحذف منه كل ما يجعله رسالة لإصلاح المجتمع * مهما جنح بعض أبنائنا يميناً أو يساراً فهم مسلمون ولا يمكن أن نقابل التطرف بتطرف مماثل * إذا أردنا أن نعيد الأمور إلى جذورها في شأن الجماعات المتطرفة رددناها جميعاً إلى فكر (الخوارج الغلاة)* الظلم والاضطهاد وعدم تحقيق آمال الشعوب في الحرية والكرامة من أهم أسباب انتشار العنف* اتحاد العلماء حريص على التقريب بين المذاهب لكن القوم مصرون على نشر التشيع في بلاد أهل السنة والجماعة* ما بيننا وبين الشيعة ليس مجرد خلاف في الفروع وأولويات العمل لكنه اختلاف في أصول الدين * نأمل بوجود عقلاء من الجانب الآخر يغلبون مصلحة الدين على المصالح السياسية الضيقة * إيران أنشأت (المجلس الأعلى للثورة الثقافية) لنشر التشيع في الدول الإسلامية وبين الأقليات المسلمة بالعالم * لا فائدة من حوار مع قوم يريدون فتنة أبنائنا عن عقيدتهم ويستغلون فقر الناس وعاطفتهم نحو آل البيت * أنصح الجماعات العاملة للإسلام أن يكون تعددها تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تضاد وتناقض* من أراد معرفة الإسلام فليقرأ السيرة النبوية المتكاملة للنبي وليس سيرته الحربية فقط

1443

| 31 مايو 2015

تقارير وحوارات alsharq
دعاة: إعدام مرسي مصيبة.. والقضاء المصري "لعبة"

هاجم مشايخ ودعاة قرار القضاء المصري اليوم بإعدام الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وإحالته إلى المفتي للنظر، إلى جانب عدد من قيادات الإخوان الذين كانوا في السلطة خلال عهده. واعتبروا ان هذا القرار أشبه بالمسرحية القضائية التي إعتاد المصريون والعرب عليها، مذكرين بأن من يُظلم في محكمة الخَلق لن يُظلم في محكمة الخالق. الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور القرة داغي، وصف القرار بالمصيبة، لأن القضاء المصري برأيه تحول للعبة بيد الساسة. وقال داغي في تغريدة له على "تويتر": "سيكون مرسي أول رئيس مصري يُحكم عليه بالإعدام، فالرؤساء السابقون لم يستحقوا الإعدام أبداً؛ فهم لم يسرقوا المليارات ولم يقتلوا الآلاف". رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي، وهو احد المحكومين بالقضايا التي أصدرها القضاء المصري اليوم، اكتفى بالقول: "تعقيبي على مهزلة اليوم على قناة الجزيرة مباشر الساعة 6.30م". أما الداعية السعودي الدكتور سلمان العودة، فقد عقب على القرار عبر "تويتر" فقال إن إعدام مرسي: إذا خان الأمين وكاتباه وقاضي الأرض داهن في القضاءِ فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماءِ".

409

| 16 مايو 2015

دين ودنيا alsharq
القرضاوي ينعي المؤرخ والدبلوماسي المغربي د. عبد الهادي التازي

ودعت المملكة المغربية العالم والمؤرخ واللغوي والدبلوماسي الدكتور: عبدالهادي التازي، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 94 عامًا، قضاها في العلم والتأليف وخدمة قضايا بلاده وأمته. والدكتور التازي حفظ القرآن في الكُتَّاب في سن التاسعة، ثم ترقى في سلم التعليم من المدرسة إلى جامعة القرويين، التي حاز فيها على الإجازة سنة 1947م، ثم واصل تعليمه إلى أن حصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس، ثم دكتوراه الدولة من جامعة الإسكندرية، حيث كان موضوع أطروحته (جامعة القرويين). وبذلك كان الدكتور التازي ممن جمع بين الثقافتين: ثقافة القرويين بأصالتها الدينية واللغوية، والثقافة الحديثة بتوجهاتها الحديثة نحو المنابع الغربية.. اتجه د. التازي إلى السلك الدبلوماسي، فكان سفيرًا لبلاده في العراق ثم ليبيا.. شغل التازي عدة مناصب علمية في المغرب وخارجه، منها: إدارة المعهد الجامعي للبحث العلمي. وعضوية كل من أكاديمية المملكة المغربية، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، والمجمع العلمي العراقي، والمعهد العربي الأرجنتيني، ومؤسسة آل البيت، ومجمع اللغة العربية بالأردن، ومجمع اللغة العربية بدمشق. كما عين عضوًا في المعهد الإيطالي الإفريقي والشرق، ومقره في العاصمة الإيطالية روما، واختير عضواً بالمجلس العلمي لهيئة المعجم التاريخي للغة العربية، وعين رئيساً للمؤتمر العالمي السادس للأسماء الجغرافية بنيويورك.. للدكتور التازي عدة مؤلفات تؤرخ للمغرب ثقافة ومجتمعاً، منها: (جامع القرويين: المسجد والجامعة)، و(أعراس فاس)، و(قصر البديع بمراكش من عجائب الدنيا)، و(أوقاف المغاربة في القدس)، و(دفاعاً عن الوحدة الترابية)، و(الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية). و(المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي). وأخرى في العلاقات الدبلوماسية والسياسية؛ منها: (جولة في تاريخ المغرب الدبلوماسي) في خمسة عشر مجلدًا، و(تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية)، و(العلاقات المغربية الإيرانية)، و(الرموز السرية في المراسلات المغربية عبر التاريخ). و(إيران بين الأمس واليوم). 18 ـ الموجز في تاريخ العلاقات الدولية للمملكة المغربية، وله في الأدب العربي (آداب لامية العرب)، وفي التحقيق: (تاريخ المن بالإمامة) لابن صاحب الصلاة، و(الفريد في تقييد الشريد) لأبي القاسم الفجيجي. كما ألف في الدعوة والثقافة الإسلامية: (تفسير سورة النور) و(في ظلال العقيدة)، بالإضافة إلى ترجمته عدة أبحاث بالعربية والفرنسية والإنجليزية، منها: (حقائق عن الشمال الإفريقي) للجنرال دولاتور، و(ساعات من القرن الرابع عشر في فاس) لديريكح دي صولا برايس، و(لو أبصرت ثلاثة أيام) للكاتبة الأمريكية كيلير هيلين أدامس، و(الحماية الفرنسية: بدؤها ونهايتها) لمجموعة من الدبلوماسيين والساسة، بالإضافة إلى نشره العديد من المقالات في عدد من المجلات. "لقيتُ الدكتور التازي كثيراً في المؤتمرات العلمية، وفي المجامع والندوات الفكرية والثقافية، التي شارك فيها في عدد من البلاد العربية: في المغرب، وفي قطر، وفي المجمع اللغوي في مصر، وفي المجمع الفكري لآل البيت في الأردن، وفي ملتقى الفكر في الجزائر، وفي غيرها. وقد سرني منه حرصه على الأصالة الثقافية الإسلامية والعربية، وعراقته في اللغة العربية، وتمكنه من التراث التاريخي للأمة. وهو يعتبر من القامات العالية، التي قربت بين المغرب والمشرق، واعتزت بشموخها وعراقتها، ولم تداهن في دينها وعقيدتها. وقد ساعده على ذلك سعة ثقافته وتنوعها، وطول باعه في معرفة العربية، كما كان يعرف الفرنسية والإنجليزية، ويترجم عنهما. وكان بيني وبينه مودة عميقة، نشأت من هذا الارتباط الثقافي، والوقوف في وجه المخرفين والمحرفين.. ندعو الله عز وجل أن يتغمد أخانا الدكتور عبد الهادي التازي برحمته ومغفرته، وأن يرزق أهله ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يعوِّض المغرب والعرب بمن يخلفه في دينه، وثقافته، وتماسكه.. آمين. د. يوسف القرضاوي

1200

| 10 أبريل 2015

عربي ودولي alsharq
القرضاوي يعزي بوفاة الملك عبدالله ويهنئ سلمان بتوليه الحكم

هنأ الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز بتوليه مقاليد الحكم، معربا عن تعازيه في الوقت نفسه بوفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز . وقال القرضاوي في تغريدة له عبر حسابه "بتويتر": " "نهنئ الملك سلمان وندعو له بالتوفيق لما فيه صالح المملكة والأمة الإسلامية، والبقاء لله في وفاة الملك عبد الله غفر الله له وسبحان من له الدوام". وكان الديوان الملكي السعودي أعلن وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، فجر الجمعة، ومبايعة ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز ملكا للسعودية، والأمير مقرن وليا لعهده. وتم تشييع جنازة الملك الراحل عصر الجمعة بحضور عدد من زعماء دول العالم والشخصيات الهامة.

611

| 25 يناير 2015

عربي ودولي alsharq
القرضاوي: ما يحدث بالأقصى كارثة كُبرى

قال النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني مروان أبو راس إنه إذا كان الحاخامات اليهود أهل الباطل، فيهم من الغيرة ما فيهم على باطلهم فعلى علماء الأمة أن يغاروا على الحق وعلى مقدساتهم. وشدد أبو راس في كلمة له بالنيابة عن رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي على أن المجتمع الإسرائيلي كله إرهابي بجميع فئاته، قائلا "هذا المجتمع المجرم بدليل فتاوى حاخاماته التي تحث على قتل الفلسطينيين وتهويد المسجد الأقصى". وقال خلال مؤتمر النصرة للمسجد الأقصى وللقدس بغزة إن قصف المساجد في الحرب الأخيرة يعود إلى فتاوى الحاخامات التي يصدرها للجيش بوجوب هدم مساجدهم وأماكن العبادة. وأضاف أبو راس "هذا التعامل من قبل الاحتلال يؤكد على أن الصراع مع الاحتلال صراع ديني وعقدي وليس سياسيا". وقال إن "ما يحدث في القدس كارثة كبرى وفرض علينا أن نترك خلافاتنا ونهتم بقضية فلسطين والقضية الكبرى المقدسات الإسلامية". ونادى القرضاوي علماء المسلمين بأن يصدعوا بكلمة الحق وأن يوعوا شعوبهم بما يجب عليهم تجاه المسجد الأقصى والمقدسات وعلى الشعوب العربية أن تتحدى وتجبر حكامها على نصرة المسجد الأقصى.

222

| 14 نوفمبر 2014

محليات alsharq
القرضاوي يستقبل مفتي صربيا ونائبه

استقبل فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمكتبه اليوم الدكتور مولود دويدتش رئيس المشيخة الإسلامية ومفتي صربيا، ونائبه الدكتور أنور عمروفيتش، ، وتحدث فضيلة الدكتور دويدتش عن أحوال المسلمين في صربيا، البالغ عددهم قرابة مليون نسمة، وهم يمثلون 10% من سكان صربيا. وأكد فضيلة المفتي أن الشيخ القرضاوي حاضر في دول البلقان صربيا والبوسنة وكوسوفا وألبانيا ، من خلال فكره الوسطي، وكتبه المترجمة إلى اللغات المحلية هناك. وقال أن كتب الشيخ تدرس في المدارس، والجامعات ومعاهد إعداد الدعاة هناك. وأن أفكار الشيخ وفكره الوسطي، هي المرجع الأول للمسلمين في صربيا. ورحب الشيخ القرضاوي بالضيفين ، مؤكدا أن المسلمين جميعا إخوة، وأنه يعتبر البلاد الإسلامية كلها دارا واحدة، هي دار الإسلام، مهما اتسعت، أو اختلفت، أو نأت، فالمسلمون أمة واحدة، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} فلا تكتمل العبادة والتقوى إلا بوحدة الأمة.

311

| 17 سبتمبر 2014

عربي ودولي alsharq
القرضاوي: أختلف مع "داعش" و أرفض محاربتهم أمريكياً

عبر الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن خلافه مع داعش في الفكر والوسيلة مؤكدا رفضه أن تكون أمريكا هي من تحاربهم. وأشار القرضاوي إلى أن أمريكا لا تحركها قيم الإسلام بل مصالحها وإن سفكت الدماء. وقال القرضاوي في تغريدة له على صفحته الشخصية في "تويتر" : أنا أختلف مع داعش تماما في الفكر والوسيلة لكني لا اقبل أبدا أن تكون من تحاربهم أمريكا التي لا تحركها قيم الإسلام بل مصالحها وإن سفكت الدماء. وتقود الولايات المتحدة الأمريكية خطة عالمية لمحاربة "داعش" و تستمر ضرباتها الجوية لأهداف تابعة للتنظيم، في الوقت الذي يقوم فيه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بجولة في عدد من الدول بهدف حشد الدعم للإستراتيجية الأمريكية الرامية لمحاربة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". وتوالي الحكومة العراقية تأكيداتها بان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" يشكل خطرا على العراق ودول المنطقة. من ناحية أخرى يشارك حوالي 20 بلدا في مؤتمر تستضيفه العاصمة الفرنسية باريس بعد غدٍ الأثنين بهدف محاربة مسلحي تنظيم "داعش". الجدير بالذكر أن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" يستولي حاليا على مناطق واسعة في العراق كما نفذ هجمات متعددة على عدد من المدن والمناطق خلفت آلآف القتلى وأدت الى موجة نزوح واسعة وظروفاً إنسانية بالغة القسوة.

984

| 13 سبتمبر 2014

عربي ودولي alsharq
القرضاوي: إتحاد علماء المسلمين لا يعادي أحداً

أعلن فضيلة الشيخ د. يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن الاتحاد لا يعادي أحدا ولا يعمل لخدمة جماعة معينة أو فئة... إنما الاتحاد للأمة الإسلامية ولأبنائها وإصلاحها وتوحيدها.. وقال القرضاوي في كلمته في افتتاح الجمعية العمومية الرابعة للاتحاد في استنبول بتركيا اليوم: "كل العالم ميدان للدعوة ونحن مطالبون أن نعد للعالم ما ينبغي"وأضاف "القائمون في الاتحاد يعملون بإخلاص وكل شخص بأمة" وقال القرضاوي إن هناك قضيتين أرجو أن يتحملهما الاتحاد - ... ولعلي لا أراكم بعد عامي هذا..هما- القضية الأولى أنه لا يمكن إقامة دولة إسلامية إلا إذا كانت هناك الأمة المؤمنة بدينها.. والثانية أن نتبنى قضية ذهاب المرأة إلى المسجد خاصة لأتباع المذهب الحنفي". وأضاف علينا أن نهيئ أجيالاً تحمل الإسلام، و نحتاج خطة يتبناها رجال صادقون ليؤدي الاسلام مهمته، وحمّل العلماء المسؤولية بقوله "كل منا مسؤول وأدعو الإخوة إلى بذل ما يستطيعون من الناحية المادية والاجتماعية حتى يستطيع الاتحاد مواجهة التحديات" مشيرا إلى أن "داعش" تقتل المسلمين. من جهته، توجه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد في كلمته إلى الحكومة التركية ومختلف مسؤوليها بالشكر في بدء انعقاد الجمعية العمومية ومؤتمرها عن دور العلماء في الأمة ثم لفت إلى ما بذله سلفه د. محمد سليم العوا من جهد في تأسيس الاتحاد اتبعه ببيان الأعمال التي أنجزها الاتحاد في فترة الأربع سنوات السابقة التي تولى فضيلته الأمانة العامة بها.. من إعداد الدعاة وتفريغهم للقيام بمهامهم، والقيام بالإصلاح في عدد من المشاكل خاصة في قرقيزيا، مشيرا إلى مختلف الجهود البارزة التي قام بها الاتحاد في العالم الإسلامي. وأشار السيد قرماز ممثل الشؤون الدينية التركية في كلمته إلى استباحة الدماء وسبي النساء والقتل العشوائي وقال يجب أن نقنع أجيالنا بأنها أفعال خاطئة الإسلام بريء منها. وألقى السيد أمر الله كلمة السيد رجب طيب أردوغان أشار فيها بأسف إلى أن ما يدمي القلب أن بعض العواصم ترزح تحت العنف والدماء الآن، وفيما أشار إلى موقع استانبول من قلب العالم الإسلامي قال: إنه تم استغلال ثروات المنطقة لتكون وسيلة للتفرقة لا لتوحيد الأمة وأن القوى الخارجية تقف بصمت أمام الممارسات الوحشية التي ترتكب في أنحاء العالم.. مضيفا : نداء إلى العالم الإسلامي لاتخاذ مواقف حازمة ضد إسرائيل، ومؤكدا أن تركيا تعمل على الاستقرار في أنحاء العالم. هذا وقد ألقى السيد الغاروري كلمة حركة حماس نيابة عن السيد خالد مشعل أكد فيها على صمود غزة العزة فيما ألقت الدكتورة حفصة لينا مديرة البرامج في جامعة أوسلو بالنرويج في افتتاح الجمعية العمومية للاتحاد في استنبول... كما تحدث كل من راشد الغنوشي وأحمد الريسوني نائب الرئيس في الجلسة الافتتاحية.

424

| 21 أغسطس 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: الملفات القرآنية المدمجة لاتأخذ حكم المصحف

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الخامسة والعشرون — الترقِّي في تلاوة القرآن: إذا كان القرآن الكريم يتعبد بتلاوته, فإنه يتعبَّد أيضًا بسماعه, وقد صحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استمع إلى القرآن من الصحابة. استمَعَ إلى أبي موسى الأشعري, وهو يقرأ القرآن بصوته الجميل، فقال: "لقد أُوتِي هذا مزمارًا من مزامير آل داود". فبلغ ذلك أبا موسى, فقال: "لو علمتُ أنك تسمعُ لحبَّرتُه لك تحبيرًا"( ). واستمع ذاتَ ليلة إلى عبد الله بن مسعود, ومعه أبو بكر وعمر, فوقفوا طويلًا, ثم قال: "من أراد أن يقرأ القرآن غضًّا طريًّا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"( ). يعني ابن مسعود. بل نراه صلى الله عليه وسلم يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه شيئًا من القرآن. قال: قلت: أقرأ عليك, وعليك أنزل؟ قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري". قال: "فقرأت (النساء). حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. قال: "كف" أو "أمسك". فرأيت عينيه تذرفان( ). وروت عائشة قالت: أبطأتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء– تعني في المسجد- ثم جئتُ, فقال: "أين كنتِ؟". قلتُ: كنتُ أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع قبلُ قراءتَه وصوته من أحد! قالت: فقام وقمتُ معه, حتى استمع له. ثم التفتَ إليها فقال: "هذا سالم مولى أبي حذيفة, الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا". وفي عصرنا غدت فرص الاستماع إلى القرآن ميسَّرة وكثيرة من قرَّاء مجيدين خاشعين, يلمسون بقراءتهم أوتار القلوب, وقد انتشرت قراءاتهم عن طريق الأشرطة المسجَّلة, والتي تباع بأثمان زهيدة. ثم هناك الإذاعات الخاصة بالقرآن في أكثر من بلد إسلامي, وهذا من فضل الله على الناس. وهناك القرآن المسجَّل في (الكومبيوتر) والذي أصبح الهواتف المحمولة أو النقالة تحمله الآن، ويسمع فيها بيسر وسهولة. وفي السيارات أمكن لكل سائق يحب الاستماع إلى كتاب الله أن يسمعه. وهناك مصحف مكتوب للمكفوفين، بطريقتهم التي يعرفونها ويتداولونها، وهي التي تسمى طريقة (بريل)، وقد روجعت هذه الطبعة، وأُقِرَّت من الأزهر وغيره، فيمكن لإخواننا- أنار الله بصائرهم- أن يستفيدوا منها، ويُصحِّح بعضهم لبعض ما قد يخطئون فيه. هل لأشرطة القرآن والأسطوانات المدمجة حكم المصحف؟ وقد يسأل الناس اليومَ عن هذه الأشرطة التي سُجِّل فيها القرآن: هل لها حكم المصحف من حيث مسِّها وحملها؟ الظاهر أن قياسها على المصحف في كل شيء ليس مسلَّمًا, لوجود الفارق بينهما, فهذه صماء لا يعرف ماذا في جوفها، حتى توصَّل بآلة معينة, وتوصَّل الآلة بالكهرباء, حتى يُسمع ما فيها، بخلاف المصحف المقروء, فهو بمجرد النظرة إليه يعرف أنه قرآن كريم، ومع هذا يحسن أن تحترم هذه الأشرطة إذا علم أن ما بداخلها كتاب الله. آداب الاستماع إلى القرآن: وكما أن لتلاوة القرآن آدابًا تحدثنا عنها, فإن للاستماع إليه آدابًا أيضًا ينبغي مراعاتها. الإنصات والإصغاء: أول هذه الآداب هو: الإنصات والإصغاء عند ما يتلى القرآن. قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. ومعنى الإنصات: السكوت مع الاستماع, ولهذا فُسِّر بـ(إحسان الاستماع). فالإنصات يساعد العقل على التدبر, والقلب على التأثر, وكلاهما يساعد الإرادة على التوجه. وهذا ما فعله الجن حينما سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تعالى: {إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29-31]. التدبر والتأثر والتجاوب: وكل ما ذكرناه في آداب التلاوة؛ من وجوب التدبر وما قبل التدبر من تعظيم الكلام والمتكلم, وما بعد التدبر من التأثر والتجاوب مع كلام الله, وتطبيقه على النفس- كل هذا يقال في الاستماع أيضًا. ولهذا وصف الله المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]. ووصف تعالى عباد الرحمن بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]. سماع المؤمنين المتأثرين بالقرآن: وقد ذكر لنا القرآن من السماع المحمود الذي أثنى عليه أصحابه بالتجاوب السريع مع كتاب الله؛ أنهم إذا تلي عليهم: خرُّوا سُجَّدًا وأذعنوا, وبكاء وخشوعًا, وتسبيحًا وثناء على الله تبارك وتعالى، وهذا ما وصف الله سبحانه الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب من قبل, ونطقت بذلك آيات كتابه العزيز تصفهم أبلغ الوصف, وتصور حالهم أصدق التصوير. ولقد مر بنا هذا الوصف والتصوير ونحن نتحدث عن آداب التلاوة, ولا بأس أن نعيده هنا ونحن نتحدث عن آداب الاستماع, فهؤلاء إنما سمعوا القرآن يتلى عليهم ولم يتلوه هم، فالاستشهاد بهذه الآيات هنا أحق وأولى. يقول تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:106-109]. ومثل هذا ما جاء في وصف جماعة ممَّن آمنوا من النصارى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:83-85] المعرضون عن القرآن: وهناك من لا يريد الاستماع إلى القرآن أصلًا, خشية أن يؤثر في عقله وقلبه, وكذلك لا يريد لغيره أن يسمع له, خوفًا من أن تنفذ أشعَّة القرآن إليه, فيستجيب له, ويغير ما بنفسه. وهذا ما حكاه القرآن عن المشركين, الذي كانوا يشوِّشون على النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن, حتى لا يتأثر به شبابهم ونساؤهم, ومن بقي على الفطرة منهم. يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]. الذين سمعوا ولم يسمعوا: ومنهم من يستمع إلى القرآن, وقلبه مغلق, وأذنه صماء, فلا يفقه منه شيئًا, فإن الجحود والمكابرة والعناد قد أقامت سدًّا سميكًا بينه وبين كتاب الله, فلا يسمع ولا يعقل. وهؤلاء هم الذين وصفهم الله في آيات كثيرة من كتابه, مشيرًا إلى الأسباب التي جعلتهم يصمُّون الآذان, ويغلقون القلوب. يقول تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:45-47]. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:7-9]. ومن ثَم يعتبر القرآن هؤلاء المكابرين لم يسمعوا للقرآن؛ لأن أجهزة الاستقبال معطلة لديهم، فلا أذن تسمع, ولا فؤاد يفقه. يقول تعالى: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1-5] فالمعرض لا يسمع, وإن سمع لا يعي؛ لأنه يحضر بجسمه لا بعقله, بل هو يحاول أن يعطل عقله حتى لا يفكر، وإذا عطَّل الإنسان عقله الذي ميزه الله به, غدا أحط من البهيمة العجماء, وأصبح من شر الدواب, كما عبر القرآن: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22-23]. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]. فهؤلاء حضروا بأبدانهم, وعقولهم غائبة, فهم يسمعون الأصوات فقط, دون أن يعوا مضمون القول، ولا عجب أن يقولوا لأهل العلم: ماذا قال آنفًا؟ وأن يعقِّب القرآن عليهم بما عقَّب، وهذا هو سماع المنافقين. هذا هو سماع الذين جعلوا بينهم وبين القرآن حجابًا, صنعه الكبر أو الحسد, أو اتِّباع الهوى, أو الجمود والتقليد, فهم يسمعونه بآذانهم أصواتًا, لكن لا تسمعه قلوبهم معانيَ. عطَّل الجحود واتِّباع الهوى أسماعهم, كما عطَّل أبصارهم وقلوبهم, كما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:6-7]. هؤلاء الجاحدون سمعوا, ولم يسمعوا, سمعوا بالأذن, ولم يسمعوا بالعقل والقلب, وفيهم يقول القرآن: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:21-23]. سماع المحرفين للكلم: وذكر لنا القرآن نموذجًا آخر مذمومًا, من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرِّفونه عمدًا, لهوى أنفسهم, وفسادٍ في قلوبهم. وهو ما حكاه القرآن عن اليهود, إذا قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:75-77]. وكل هذه أنواع مذمومة من السماع؛ أما السماع المطلوب, فهو سماع المؤمنين الذين يسمعون بآذانهم وعقولهم وقلوبهم، وهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله, وأولئك هم أولو الألباب. %MCEPASTEBIN%

1384

| 23 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : حضور القلب وترك حديث النفس وسائل تحقق التجرد

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الرابعة والعشرون — أعمال قلبية قبل التدبُّر: للإمام أبي حامد الغزالي في (الإحياء) كلام قوي فيما ينبغي مراعاته قبل (التدبر) من الأعمال الباطنة، وهي: (فهم أصل الكلام. ثم التعظيم. ثم حضور القلب. ثم التدبر. فالأول: فهم عظمة الكلام وعلوِّه، وفضل الله سبحانه وتعالى، ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله، إلى درجة إفهام خلقه. فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه؟ وكيف تجلَّت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات، هي صفات البشر؛ إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه، ولولا استتار كُنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثَبَت لسماعِ الكلام عرشٌ ولا ثرى، ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه، وسَبُحات نورِه. ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه، كما لم يطق الجبل مَبَادِي تجلِّيه حيث صار دكًّا. الثاني: التعظيم للمتكلم: فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يُحضر في قلبه عظمةَ المتكلم، ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر، فإنه تعالى قال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]. وكما أن ظاهرَ جِلد المصحف وورقَه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهرًا، فباطن معناه أيضًا — بحكم عزِّه وجلاله — محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهرًا عن كل رجس، ومستنيرًا بنور التعظيم والتوقير، وكما لا يصلح للَمْس جلد المصحف كل يد، فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، ولا لنيل معانيه كل قلب. ولمثل هذا التعظيم كان عكرمةُ بنُ أبي جهل إذا نشر المصحف غُشِيَ عليه ويقول: "هو كلام ربي، هو كلام ربي!" فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم، ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكَّر في صفاته وجلاله وأفعاله، فإذا حضر بباله العرش والكرسي، والسماوات والأرض، وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، وعلم أن الخالق لجميعها، والقادر عليها، والرازق لها واحد، وأن الكلَّ في قبضة قدرته، مترددون بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبِعدله. وهذا غاية العظمى، والتعالي: فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام. الثالث: حضور القلب وترك حديث النفس: قيل في تفسير {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. أي بجد واجتهاد، وأخذه بالجد: أن يكون متجردًا له عند قراءته، منصرف الهمة إليه عن غيره. وقيل لبعضهم: إذا قرأتَ القرآن تُحدِّث نفسك بشيء؟ فقال: أوشيء أحبُّ إليَّ من القرآن حتى أحدِّث به نفسي؟! وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية. وهذه الصفة تتولَّد عما قبلها من التعظيم، فإن المعظِّم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه. ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلًا له، فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره، وهو في متنزَّه ومتفرَّج؟ والذي يتفرج في المتنزهات لا يتفكر في غيرها)( ). — التخلي عن موانع الفهم: وينبغي لمن يريد أن يتدبَّر القرآن ويتفهَّمه بحقٍّ أمرٌ آخر، وهو ما سماه الغزالي: (التخلي عن موانع الفهم. فإن أكثر الناس مُنعوا عن فهم معاني القرآن؛ لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحُجُب الفهم أربعة: أولها: أن يكون الهمُّ منصرِفًا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها. وهذا يتولى حفظه شيطان، وُكِّل بالقرَّاء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيِّل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه. فهذا يكون تأمله مقصورًا على مخارج الحروف، فأنَّى تنكشف له المعاني؟ وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعًا لمثل هذا التلبيس. ثانيها: أن يكون مقلِّدًا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيَّده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفًا على مسموعه، فإن لمع برقٌ على بُعد، وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك؟! فيرى أن ذلك غرور من الشيطان، فيتباعد منه، ويحترز عن مثله. ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب! وأرادوا بالعلم: العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد، أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم، فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجابًا وهو منتهى المطلب( ). وهذا التقليد قد يكون باطلا، فيكون مانعًا، كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكُّن والاستقرار (أي كتمكُّن البشر)، فإن خطر له مثلًا في القُّدُّوس أنه المقدَّس عن كل ما يجوز على خلقه، لم يمكنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه، ولو استقرَّ في نفسه لانجرَّ إلى كشف ثان وثالث.. وتواصل. ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده بالباطل. وقد يكون حقًا، ويكون أيضًا مانعًا من الفهم والكشف؛ لأنَّ الحق الذي كُلِّف الخلق اعتقادُه له مراتب ودرجات، وله مبدأ ظاهر، وغور باطن، وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن. ثالثها: أن يكون مصرًّا على ذنب، أو متَّصفًا بكبر، أو مبتلًى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك سبب ظُلمة القلب وصدئه، وهو كالخَبَث على المرآة، فيمنع جَلِيَّة الحقِ من أن تتجلَّى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب، وبه حُجِب الأكثرون. وكلما كانت الشهوات أشد تراكمًا، كانت معاني الكلام أشد احتجابًا. وكلما خفَّ عن القلب أثقال الدنيا، قرب تجلِّي المعنى فيه. فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدإ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة. والرياضة للقلب — بإماطة الشهوات — مثل تصقيل الجَلاء للمرآة. وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكُّر، فقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8]. وقال عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19]. فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة؛ فليس من ذوي الألباب، ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب. أقول: ومما يدلُّ لما ذكره الإمام الغزالي هنا: قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. قال سفيان بن عيينة: سأنزع عنهم فهم القرآن. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار. فهذا أيضًا من الحجب العظيمة. وسنبيِّنُ معنى التفسير بالرأي في الباب الرابع، وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول لما اختلفت الناس فيه).

1498

| 21 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: تدبر معاني القرآن والخشوع من أعظم آداب التلاوة

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثالثة والعشرون — ترتيل القرآن كما أمر الله قراءة القرآن ليست كقراءة غيره من أنواع الكلام، فهو كلام الله تعالى، الذي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. ولذا فإن قراءته وتلاوته لها آدابها الظاهرة والباطنة. ومن آدابها الظاهرة: الترتيل. ومعنى الترتيل في القراءة: التأني والتمهل فيها، وتبيين الحروف والحركات، تشبيهًا بالثغر المُرَتَّل، وهو المُنَضَّد المستوي الأسنان. قال السيوطي: (يُسَنُّ الترتيل في قراءة القرآن، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]). هذا ما قاله الحافظ السيوطي رحمه الله، ولو قال قائل بوجوب الترتيل لكان أقرب إلى ظاهر ما يدل عليه الأمر القرآني، فإن الأصل في الأوامر القرآنية: أنها تفيد الوجوب، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم أصلًا، وللأمة تبعًا، ولذا قال الزَركَشي: (على كل مسلم قرأ القرآن أن يرتله). وهذه العبارة أوفق من عبارة السيوطي. وفي البخاري عن أنس، أنه سُئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدًّا. ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد (الله) ويمد (الرحمن) ويمد (الرحيم).. وفي الصحيحين عن ابن مسعود، أن رجلًا قال له: إنى أقرأ المفصَّل في ركعة واحدة، فقال: هذًّا كَهذِّ الشِّعْر، إن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، ولكن إذا وقع في القلب، فيرسخ فيه، نفع. وأخرج الآجُرِّي في أخلاق حملة القرآن، عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدَّقَل، ولا تهذُّوه هذَّ الشِّعْر، قِفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدِكم آخرَ السورة.. وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعاً: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ في الدرجات، ورتِّل كما كنتَ ترتِّل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها".. وقال في شرح المهذب: (واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع).. قالوا: واستحباب الترتيل للتدبر؛ ولأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرًا في القلب، ولهذا يستحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه. وفي النَّشْر: (اختُلف: هل الأفضل الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها؟ وأحسن بعض أئمتنا، فقال: إن ثواب قراءة الترتيل أجلُّ قدرًا، وثواب الكثرة أكثر عددًا؛ لأن بكل حرف عشر حسنات). وفي البرهان للزركشي: (كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، وألَّا يُدغِم حرفًا في حرف. وقيل: هذا أقلُّه، وأكمله أن يَقرأه على منازله، فإن قرأ تهديدًا لفظ به لفظ المتهدِّد، أو تعظيمًا لفظ به على التعظيم). قال الغزالي: (واعلم أن الترتيل مستحبٌّ لا لمجرد التدبر، فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن، يُستحب له أيضًا في القراءة الترتيل؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال). — التغنِّي وتحسين الصوت بالقراءة ومن آداب التلاوة المتفق عليها: تحسين الصوت بالقراءة. فالقرآن — بلا ريب — حسن، بل هو في غاية الحسن في ذاته، ولكن الصوت الحسن يزيده حسنًا، فيأخذ بشغاف القلوب، ويهز المشاعر هزًّا. ولكنّ هناك خلافًا في المدى الذي يسوَّغ للقارئ الانتهاء إليه، فهناك من تشدَّد، وهناك من رخَّص، وهناك من توسَّط، وخير الأمور الوسط، ولا خير في الإفراط، ولا في التفريط. وقال السيوطي رحمه الله: (يُسَنُّ تحسينُ الصوت بالقراء وتزيينها، لحديث ابن حبان وغيره: "زَيِّنوا القرآنَ بأصواتكم". وفي لفظ عند الدارمي: "حَسِّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا".. وفيه أحاديث صحيحة كثيرة، فإن لم يكن حسن الصوت حسَّنه ما استطاع، بحيث لا يخرج إلى حدِّ التمطيط. وأما القراءة بالألحان، فنصَّ الشافعي في المختصر: أنه لا بأس بها. وعن رواية الربيع الجيزي: أنها مكروهة. قال الرافعي: الجمهور ليس على قولين، بل المكروه أن يفرط في المَدِّ، وفي إشباع الحركات، حتى يتولد من الفتحة ألِفٌ، ومن الضمة واوٌ، ومن الكسرة ياء، أو يُدغَمَ في غير موضع الإدغام، فإن لم ينتهِ إلى هذا الحدِّ فلا كراهة.. قال في زوائد الروضة: والصحيح أن الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسُق به القارئُ، ويأثم المستمعُ؛ لأنه عدل به عن نهجه القويم. قال: وهذا مراد الشافعي بالكراهة.. قال النووي: ويستحب طلب القراءة من حسن الصوت والإصغاء إليها، للحديث الصحيح، ولا بأس باجتماع الجماعة في القراءة ولا بإدارتها، وهي أن يقرأ بعض الجماعة قطعة، ثم البعض قطعة بعده). — التلاوة بين الجهر والإسرار: وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة، وأحاديث تقتضي الإسرار وخفض الصوت. فمن الأول حديث الصحيحين: "ما أَذِن الله لشيءٍ ما أَذِن لنبيٍّ حُسن الصوت، يتغنَّى بالقرآن يجهر به". ومن الثاني حديث أبي داود والترمذي والنسائي: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة". قال النووي: (والجمع بينهما أن الإخفاء أفضلُ، حيث خاف الرياء، أو تأذَّى مصلُّون أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همَّه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويَطرُد النوم، ويزيد في النشاط. ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السِّتْر، وقال: "ألا إن كلَّكم مناجٍ لربِّه، فلا يؤذينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعضكم في القراءة". وقال بعضهم: يستَحَبُّ الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها؛ لأن المُسِرَّ قد يمَلُّ فيَأنَس بالجهر، والجاهر قد يكِلُّ فيستريح بالإسرار). وروى أبو داود عن أبي هريرة أنه قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل يرفع طورًا، ويخفض طورًا. — وجوب تدبر القرآن: ومن أعظم آداب التلاوة الباطنة: التدبر لمعاني القرآن. ومعنى التدبر: النظر في أدبار الأمور، أي في عواقبها، ومآلاتها، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر: تصرُّف القلب أو العقل بالنظر في الدليل، والتدبر: تصرفه بالنظر في العواقب.. وقد بيَّن لنا منزِّل القرآن سبحانه أنه لم ينزله إلا لتُتَدبَّر آياته، وتُتَفهَّم معانيه، يقول عز وجل يخاطب رسول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].. ويقول في معرِض الحضِّ والتحريض: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. وروى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) عن علي رضي الله عنه: ألا لا خيرَ في عبادة ليس فيها تفقُّه، ولا في علم ليس فيه تفهُّم، ولا في قراءة ليس فيها تدبُّر!. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لَأن أقرأَ (إذا زُلزت) و(القارعة) أتدبَّرُهما، أحبُّ إليَّ من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرًا. وعن زيد بن ثابت قال: لَأن أقرأَ القرآن في شهر أحبُّ إليّ من أن أقرأه في خمس عشرة، ولَأن أقرأَه في خمس عشرة أحبُّ إلي من أن أقرأَه في عشر، ولَأن أقرأَه في عشر أحبُّ إلي من أن أقرأه في سبع: أقف وأدعو. وذلك أن الأناة في القراءة تبيح الفرصة للتأمل والتدبر، وهو الغاية المنشودة من القراءة.

2364

| 20 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: تقديم الحفظ على الفهم خلل في الأولويات

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثانية والعشرون روى البخاري في صحيحه، عن عثمان -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه".فالقرآن هو أفضل ما يتعلم، وأفضل ما يُعلَّم. قال الزركشي في (البرهان): (قال أصحابنا: تعليم القرآن فرض كفاية وكذلك حفظه واجب على الأمة، والمعنى فيه- كما قال الجوينى- ألا ينقطع عدد التواتر فيه، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف. فإن قام بذلك قومٌ سقط عن الباقين، وإلا فالكلُّ آثِمٌ، فإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم، وإذا كان هناك جماعة يصلحون للتعليم، وطلب من بعضهم وامتنع لم يأثم في الأصح كما قاله النووي في (التبيان)، وصورة المسألة: فيما إذا كانت المصلحة لا تفوت بالتأخير، فإن كانت تفوت لم يجز الامتناع). ولكن ما المراد بتعلُّم القرآن وتعليمه؟ هل المراد بذلك: حفظُ كلمات القرآن وحروفه عن ظهر قلب، وهي المهمة التي كانت الكتاتيب تقوم بها قديمًا، وما زال بعضها إلى اليوم وتقوم بها مدارس التحفيظ حديثًا، قد يدخل ذلك في المراد بالتعلُّم والتعليم، وقد يرى بعض الناس أن هذا وحده هو المراد، ولا شيءَ غيره ولعل هذا هو سر الاهتمام البالغ بحفظ القرآن، وتكريم حفظته، ورصد الجوائز والمكافآت الضخمة من الأموال للحُفَّاظ، حتى إن بعض الحفاظ أخذ في مسابقة في دولة قطر خمسين ألف ريال وسيارة بأكثر من ذلك. وفي السنة التالية حصل على قريب من ذلك! وهذا ما جعلني أنتقد هذا التوجه في كتابي (في فقه الأولويات)، حيث غدا عندنا الحفظ أهم من الفهم والحافظ مقدَّمًا على الفقيه. ولقد جعل القرآن من مهام النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعليم الكتاب والحكمة) وهذا في أربع آيات من القرآن. ولا ريب أن هذا التعليم ليس هو (التحفيظ) بدليل أنه معطوف على تلاوة الآيات عليهم: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] فالتعليم أخص من التلاوة.إن هذا التعلم والتعليم هو الذي عبَّرَتْ عنه بعضُ الأحاديث بـ(التدارس). ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". ومعنى تدارس القرآن: محاولة التعرُّف على ألفاظه ومبانيه، وعلى مفاهيمه ومعانيه، وما يرشد إليه من العِبَر، وما يدل عليه من الأحكام والأخلاق والآداب. و(التدارس): تفاعُلٌ من الدرس ومعناه: أن أحد الطرفين أو الأطراف يقوم بالسؤال والثاني يجيب والثالث يستدرك والآخر يصحح أو يستكمل، وهذا هو المراد من التدارس. وهذا التدارس هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به مع أمين الوحي جبريل عليه السلام في شهر رمضان من كل سنة، كما روى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما عندما ينزل عليه جبريل في رمضان فيدارسه القرآن. وأنعِم بمدارسة طرفاها الأمينان العظيمان: أمين الله في السماء، وأمين الله في الأرض! جبريل ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. فلا يكفي في تعلُّم القرآن، أن يحفظ الإنسان سطوره، ويستظهر آياته ثم لا يفهم لها معنى، وإن كان هو مُثابًا على مجرد الحفظ والاستظهار حسب نيته، وإنما عليه أن يفهم- ما استطاع- ماذا يريد الله منه بقدر ما يتسع له واديه من المعرفة: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]. يدل على ذلك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصُّفَّة فقال: " أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحانَ- أو إلى العقيق- فيأتي منه بناقتين كَوْمَاوَيْن، في غير إثم ولا قطع رحم؟". فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك. قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم- أو فيقرأ- آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاث، وأربعٌ خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل!". بُطحان: موضع بقرب المدينة والعقيق: وادٍ بالمدينة والكَوْماء: هي الناقة العظيمة السَّنام. وأحسب أن تعلُّم الآيتين أو الثلاث أو الأربع هنا: لا يعني حفظ حروفها فقط، وإنما يراد تعلُّم ما فيها من العلم والعمل جميعًا، ولهذا قلَّل الحديث أعدادَها، حتى يُتمكَّن من العلم والعمل معًا. وهذه كانت طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في تعليم القرآن- كما بينا ذلك من قبل- وبهذا تكون الآية التي يتعملها المسلم نورًا وبرهانًا له يوم القيامة، كما روى أبو أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلَّم آية من كتاب الله, استقبلته يوم القيامة تضحك في وجهه". - أخذ الأجر على تعليم القرآن: اختلف العلماء في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، فقال جماعة: يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ففي صحيح البخاري: "إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله". وقيل: إن تعيَّن عليه لم يجُز، واختاره الحَلِيمي. وقال أبو الليث في كتاب (البستان)( ): التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها: للحسبة، ولا يأخذ به عوضًا. والثانى: أن يعلِّم بالأُجرة. والثالث: أن يعلم بغير شرط، فإذا أهدى إليه قَبِل. فالأول: مأجور عليه وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والثانى: مختلف فيه. قال أصحابنا المتقدمون: لا يجوز؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عنى ولو آية". وقال جماعة من المتأخرين: يجوز. قالوا: والأفضل للمعلم ألَّا يُشارط الأجرةَ للحفظ وتعليم الكتابة؛ فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به؛ لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه. وأما الثالث: فيجوز في قولهم جميعًا؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان معلِّمًا للخلق، وكان يقبل الهدية، ولحديث اللَّدِيغ لمَّا رَقَوْه بالفاتحة، وجعلوا له جُعْلًان وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واضربوا لى معكم فيها بسهم". وفي حديث آخر أجاز الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون تعليم القرآن صداقًا لإحدى النساء، وذلك حين طلب النبي من الرجل أن يلتمس ولو خاتمًا من حديد, فلم يجده, ثم سأله عمَّا معه من القرآن، فوجد عنده عدة سورة يقرؤها عن ظهر قلب فقال للرجل: "اذهب فقد ملَّكتُكها بما معك من القرآن". أي على أن يعلمها تلك السُّوَر. وهذا كلُّه في تعليم القرآن، أما تلاوته فلا يجوز أخذ الأجر عليها؛ لأن الأصل في التلاوة أنها عبادة، والأصل في العابد أن يتعبد لنفسه، فكيف يأخذ على عبادته لربه أجرًا من غيره، وهو إنما يؤديها مبتغيًا بها وجهه عز وجل! وقد روى عبد الرحمن بن شبل، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اقرءوا القرآن واعملوا به، ولا تجفُوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به". وروى عمران بن حصين عنه -صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرءوا القرآن وسلوا الله به قبل أن يأتي قوم يقرءون القرآن فيسألون به الناس". أما إذا أُعطي قارئ القرآن شيئًا على سبيل الصدقة أو الهِبة فلا حرج في ذلك إن شاء الله، وهذا ما يجرى عليه كثير من الناس في المدن والقرى، وخاصة عندما يموت الرجل أو المرأة من أهل البيت، فيدعون حفَّاظَ القرآن، ليقرؤوا ما يُطلب منهم على فلان الذي توفاه الله، ثم يُعطون له شيئًا من المال صدقة عليهم، ولا سيما أن كثيرًا منهم فقراء، فهم أهل للصدقات. - المداومة على تلاوة القرآن تلاوة حسنة: أنزل الله كتابه الخالد (القرآن) لتتلوه الألسنة وتستمع إليه الآذان، وتتدبره العقول وتطمئن به القلوب، حتى إن العلماء ليذكرون في تعريف القرآن: أنه المتعبد بتلاوته. وحتى تميز وحي القرآن عن وحي السنة بأن القرآن وحي متلوٌّ، والسنة وحي غير متلو. وقد قالت الموسوعة البريطانية (تحت عنوان محمد): إن القرآن هو أوسع الكتب تلاوة على وجه الأرض، ومن هنا جاءت آيات الكتاب العزيز, وأحاديث الرسول الكريم, تحثُّ عى التلاوة, وترغِّب فيها، وتعِد عليها بالثواب الجزيل, والأجر العظيم. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29-30]. وقد مدح القرآن طائفة من أهل الكتاب بأنهم: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]. فإذا كانوا ممدوحين مأجورين بتلاوة آيات الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن، فما بالكم بتلاوة أعظم كتب الله, وهو القرآن؟! هذا إذا لم يكن المراد بآيات الله القرآن ذاته, وهو دليل على أنهم آمنوا به.وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السَّفَرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن يتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران". وإنما كان له أجران؛ لأنه يؤجر على القراءة ذاتها، ويؤجر على ما يعانيه من الشدة والتتعتع والمشقة، وفي هذا دليل على مزيد حرصه على القراءة، وقوة رغبته فيها، رغم مشقتها عليه، وكم من مسلم كانت قراءة القرآن ثقيلة على لسانه، فما زال يكابد ويقرأ، حتى لان لسانه بالقرآن. وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه". وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف". وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار،فسمِعَه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل! ورجل آتاه الله مالًا، فهو يُهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل". والمراد بالحسد في الحديث: الغبطة وهو أن يتمنى أن يكون له مثل ما للشخص المحسود من الخير والنعمة، وهذا محمود، بخلاف الحسد، بمعنى تمني زوال النعمة عن الغير، فهذا من كبائر معاصي القلوب. وقد بين الحديث الصحيح أن قراءة القرآن تؤثر حتى في المنافق والفاجر.فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "مَثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأُترُجَّة: ريحها طيب، وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل التمرة: لا ريح لها وطعمُها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة: ريحها طيب، وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر". فبين أن القراءة لها نوع من التأثير أشبه بتأثير الرائحة الطيبة، لا تأثير الطعم الحلو، حتى إنها تؤثر في المنافق أو الفاجر. وقال أبو هريرة: إن البيت الذي يتلى فيه القرآن، يتسع بأهله، ويكثُر خيره، وتحضره الملائكة، وتخرج منه الشياطين، وإن البيت الذي لا يتلى فيه القرآن، يضيق بأهله، ويقل خيره وتخرج منه الملائكة، وتحضره الشياطين. وروى عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقال لصاحب القرآن (أي يوم القيامة): اقرأ وارقَ ورتِّل كما كنتَ ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها". وللقرآن تأثير عجيب في قلب الإنسان، شهد به كل من سمعه من مسلم وكافر، وهو ما جعل المشركين من أهل مكة يحاولون التشويش عليه عند تلاوته خوفًا على نسائهم وصبيانهم وضعفائهم من سماعه، فقد يتأثرون به، ويؤمنون برسالة من بعثه الله به. يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]. وقد كان بعض المشركين يستمعون للقرآن خِلْسة بعضهم من وراء بعض، حتى يضبط أحدُهم الآخرَ متلبِّسًا بسماع القرآن. وسمع الوليد بن المغيرة من النبي-صلى الله عليه وسلم- آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. فقال له: أعد عليَّ. فأعاد.. فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة،وإن أسفله لمُغدِق، وإن أعلاه لمُثمِر، وما يقول هذا بشر!. وقد سمعه الجن فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1-2]. ولقد أجرى د. أحمد القاضي ومعه بعض الأطباء المسلمين– في مستشفاهم الخاص بولاية (فلوريدا) بأمريكا؛ مستشفى أكبر- تجارب على عدد من المرضى يسمعونهم القرآن ويسجلون بالأجهزة الحساسة مدى تأثير القرآن عليهم، وفيهم المسلم وغير المسلم والعربي وغير العربي، والعجيب أنهم وجدوا تأثير القرآن عليهم –جميعًا- تأثيرًا إيجابيًّا بنسب متفاوتة. فالعربي المسلم غير العربي الذي ليس بمسلم، والمسلم الذي ليس بعربي، ولكن الكل تأثروا، حتى الذي ليس بمسلم وليس بعربي،وهذا يدل على أن في هذا الكلام سرًّا خاصًّا، لا يوجد في أي كلام آخر من كلام البشر، نثرًا أو شعرًا.

3043

| 19 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: إعداد القوة المستطاعة للدفاع عن الأمة فريضة

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة العشرون استكمالا للحلقة السابقة... لا يجوز لإمامنا الغزالي وأمثاله من المؤمنيين بفكرة العزلة: أن يقفوا في وجه الأمَّة إذا أرادت النهوض بواجباتها الكبرى، في حماية الأمة من أعدائها, وتقويتها من داخلها، بحسن الزراعة، والصناعة، والتنمية، والتربية، والتعليم، والتفنن، في مختلف جوانب الحياة, وسد كل أبواب الشرور، والمفاسد، والفتن، ما ظهر منها وما بطن. وإعداد القوة المستطاعة للدفاع عنها في الداخل والخارج، وإقامة العدل بين الناس، وإقامة الموازين بالقسط، وإرساء دعائم الحق في القضاء والتشريع والإعلام، والحكم والتنفيذ وأداء الأمانات إلى أهلها. ولذلك لا أوافق على ما قاله الغزالي في كتابه (منهاج العابدين): (ثم عليك– رفعك الله وإيانا لطاعته– بالتفرد عن الخلق, ولذلك لأمرين : أحدهما: أنهم يشغلونك عن عبادة الله عز وجل، على ما حُكِي عن بعضهم: أنه قال: مررت بجماعة يترامَوْن بالسهام (يتعلمون التهديف) وواحد جالس بعيدًا عنهم، فأردت أن أكلمه، فقال‏:‏ ذكر الله أشهى إليَّ من كلامك. فقال‏:‏ أنت وحدك! فقال‏:‏ معي ربي وملكاي. فقلت‏:‏ من سبق من هؤلاء؟ قال‏:‏ من غفر الله له. فقلت له‏:‏ أين الطريق؟ فأشار بيده نحو السماء، وقام وتركني، وقال: أكثر خلقك شاغل عنك!). قال الغزالي: (فالخلق إذن يشغلونك عن العباد، بل يمنعونك عنها، بل يوقعونك في الشر والهلاك، على ما قال حاتم الأصم رحمه الله: طلبتُ من هذا الخلق خمسة أشياء، فلم أجدها: طلبتُ منهم الطاعة والزهادة، فلم يفعلوا، فقلت‏:‏ أعينوني عليهما إن لم تفعلوا. فلم يفعلوا، فقلتُ‏:‏ ارضوا عني إن فعلتُ. فلم يفعلوا، فقلت‏:‏ لا تمنعوني عنهما إذن. فمنعوني، فقلت‏:‏ لا تدعُوني إلى ما لا يرضى الله العظيم، ولا تعادوني عليه إن لم أتابعكم، فلم يفعلوا، فتركتهم واشتغلت بخاصة نفسي)( ). وأرى أن هذه الأقوال لا توجب البُعد عن الناس، وإن هذا الرجل الذي جلس وحده، وترك مَن حوله من الرجال الذين يتسابقون في فن الرماية والتهديف، في هذا الوقت الذي يهدِّد المسلمون من جيرانهم من الروم أو من الصلبيين، يتعيَّن عليهم أن يتدرَّبوا، وأن يعدوا أنفسهم وشبابهم للأيام القادمة، التي يعد لها الرجال، وتنتظر الأبطال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:5-6]. ولا نرى أنه حين تدخل الأمة في حروب مع أعدائها الذين يتربصون بها، مثل الصلبيين الذين ظهروا في أواخر أيام الغزالي، ومثل التتار الذين ظهروا بعده، ومثل أعداء الإسلام الذين ما زالوا يظهرون يومًا بعد يوم: أن الحل للصالحين والمتعبدين من أبناء الأمة أن يفرُّوا إلى الخلوات والفلوات، ويغيبوا عن أعين الناس. بل الواجب عليهم أن يكونوا كما كان الأولون من رجال السلف الصالحين من أمثال إبراهيم بن أدهم، وعبد الله بن المبارك، وأمثالهما في صفوف المجاهدين. ولا سيما في هذه الأيام، فالجهاد الآن والأمة يُغار عليها؛ أصبح فرض عين على الرجال القادرين على التأثير، لم يعد بإمكان الصالحين الفرار من الناس، فإن الأجهزة الإعلامية الحديثة تدخل عليهم مضاجعهم, وتسمعهم كل صوت, وتريهم كل صورة وكل واقعة. والأمة تحتاج إلى كل واحد منهم، ليسد فيها ثغرة، ويستر فيها عورة، ويبني فيها حجرًا، ويغرس فيها شجرة، ويتعاون مع الصالحين من أمثاله، كما قال الرسول الكريم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا". وشبَّك بين أصابعه( ). ثم على هؤلاء أن يكوِّنوا منهم ومن غيرهم جنودًا قادرين على الدفاع عن الأمة إذا غُزِيَت, وقادرين على أن يردُّوا الغزاة, بما لديهم من أسلحة تفوق أسلحتهم, كما قال تعالى في صلاة الخوف: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]. لسنا مع الغزالي في أن العزلة واجبة الآن, بل الواجب الآن لإحياء الأمة الإسلامية، وبعثها من جديد: إيمانيًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ومن الإسهام معًا في سد ثغراتها، وتكميل ما نقص منها، ومقاومة النزعات العرفية والعصبية، واللادينية التي تريد أن تمزقها إلى أمم شتى، لا بد للأمة المسلمة الكبرى من العمل الجاد، والعمل الإسلامي، والعمل الجماعي, وأن يتحد أبناء الأمة فيما يجب عليهم, لأنفسهم, ولأسرهم, ولمجتمعهم الصغير, ولأمتهم الكبرى, ولدولتهم القريبة والمتظرة, وللإنسانية جمعاء. الأمة الإسلامية مدعوة لتبليغ رسالة الله إلى العالم, فهل بلغتها؟ هل عندها من الدعاة بلغات العالم من يستطيعون أن ينادوا كل أمة بلسانها إلى الإسلام؟ ليس عندنا– والله– عُشر المعشار، ولا أقل منه من المطلوب لنشر الإسلام في العالم, في حين أن رجال التنصير عندهم ملايين معدُّون للتنصير في كافة القارات, وبكل اللغات, وسائر الأساليب والآليات, ولتنصيرنا نحن المسلمين, فقد أصبحنا نحن من المهيَّئين لغزوهم, وعقدوا لذلك لذلك المؤتمرات, وأصدروا لذلك المنشورات,. وصرخنا في المسلمين أن يهيئوا قِوَامًا ليدافعوا عن الأمة, ويحموا المسلمين من هجمات التنصير. الأمة الإسلامية مدعوة من أقصاها إلى أقصاها: أن تخرج من دائرة العالم الثالث, المطوبة إليه كلها, وهو عالم التخلف والتدهور, والرضا بالدون, والقليل الهُون, والوقوف في طابور الانتظار, ليعطيك المعطون من فضول نِعَمهم, وفضلات أراذالهم, وما كانوا يلقون في صنايق القمامة, ونحوها, وأنت– للأسف– راض بما يلقى إليك؛ لأنك لا تعمل وهم يعملون, ولا تنتج وهم ينتجون, ولا تفكر وهم يفكرون. وكيف يستوي اثنان: أحدهما يقول: أنا لي عقل به أفكر, وعين بها أُبصر, وأذن بها أسمع, ويد بها آخذ وأعطي. وآخر يقول: ما لي عقل به أفكر, ولا عين بها أبصر, ولا أذن بها أسمع, ولا يد بها أبطش؟! كالذين جعلهم الله حطب جهنم حين قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. الأمة الإسلامية مدعوَّة أن تعود إلى العالم من جديد، أن تبني نفسها من جديد, تعمِّر بناءها كله، الذي فرَّطت فيه، ولم توجِّه همتها إليه: بناء الفرد بناية سليمة, كما أراده الله تعالى, واعي الفكر, طاهر القلب، خيِّر الوجدان, قوي الإرادة, صحيح الجسم, جيِّد التعلُّم, قادرًا على العمل, يعمل في الزارعة أو الصناعة, أو الإدارة, أو أي عمل يقدِّم خيرًا أو خدمة للأمة, تكبر أو تصغر, ولا يعيش عالة على الناس, يأكل من زرعهم, ولم يزرع أو يساهم في زرع, ويلبس ويداوي, ويستفيد مما صنعت أيديهم, وهو لم يشارك في صنعة, ولم يسهم في أي عمل يفيد الدنيا بشيء, أي شيء. فكيف يستحق الطعام الذي يأكله, أو الماء الذي يشربه؟ أو اللباس الذي يستره, أو المدرسة التي تعلمه, أو الجامعة التي تنضجه؟! لا بد للأمة من أن تبني الأفراد, وأن تبنى الأسر, وأن تبنى المجتمعات, ثم تبنى الأمة الكبرى، أمة الرسالة، أمة الهداية للعالم، تبنيها كلها بالعلم والأدب, والتربية والحرية؛ فهذه هي الحجارة الأساسية التي يلزم جمعها وصفها ورصها وإلصاق بعضها ببعض, لكي تبنيَ الأمم, وأهم ما تُبنى عليه الأمم الأخلاق، كما قال شوقي: فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُو ذهبت أخلاقهم ذهبوا وقال أيضًا: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقـم عليهم مأتـمًا وعـويلَا لا بد بعد بناء الأمة أن يجتمع بعضنا مع بعض, وإلَّا لم يكن هناك معنى لكلمة (أُمَّة), فالأمة هي مجموع الشعوب الإسلامية، وإن اختلفت أوطانها, واختلفت أصولها, واختلفت لغاتها, واختلفت طبقاتها ومذاهبها, المهم أن يقوم البناء على التوحيد، وعلى عبادة الله وحده, وعلى أركان الإسلام العقدية والعملية, {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136]. ولا بد أن تتوحد وتجتمع وتتلاقى وتتساند, وتتضامن وتتعاون, لتكون, كما وصفا رسولها, كالجسد الواحد, وكالبنيان الواحد, الذي يشد بعضه بعضا( ). ولا بد أن تهيئ نفسها للجهاد في سبيل الله, فهي أمة يُطمح في خيرها, ويُخاف من بأسها, فيلزمها أن تكون قوية قوة عسكرية مرهوبة, تحمي ولا تهدد, وتحفظ ولا تبدد, وتيسر ولا تشدد, كلُّ شدَّتِها على من يعتدي عليها, أو على حرماتها, أو على عقيدتها أو على أبنائها. ولذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. هذا ما نريده من كل وارث لتفكير الإمام الغزالي أن يفكر فيه, فلا يقول أحد: إن المهم في الإسلام هو الفرد, بل المهم هو الفرد وهو الأسرة وهو المجتمع, وهو الأمة كلها. ولهذا خاطب الله في القرآن منذ نشأ المجتمع في المدينة بصيغة الجماعة دائمًا: {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آَمَنُوْا} ولم يقل: يا أيها المؤمن, بل ذكر الأمة, وذكرها بصيغة الجمع: (المؤمنون), و(المؤمنين). والإمام الغزالي الفقيه الشافعي الكبير في كتبه: (الكبير) و(الوسيط) و(الوجيز), وصاحب (المستصفى) في الأصول؛ لا يخفى عليه ما تتطلبه الأمة, وخصوصًا في عصور الصراع الحادِّ بين الأديان والفلسفات والأيديولوجيات, وتداعى الأمم المختلفة على أمتنا كما تتداعى الآكلة على قصعتها. هنا تظهر الأمة المسلمة بأبنائها وأسلحتهم، وعتادهم وتنظيمهم, ولا يجوز لجماعة أن يدعوهم داع في هذا الموقف إلى الخَلوة, والابتعاد عن الأمة؛ لأن الأمة إذا تخلى عنها أبناؤها الأقوياء, فمن لها؟ ومن يذود عن حياضها؟ ومن يدافع عن حرماتها وأعراضها؟ ولا مانع من أن نأخذ كل ما يذكره الغزالي هنا, مما قاله السلف عن أزمانهم, ونذكر ما يجب قوله عن أزماننا, لا لنعتزل، ولكن لتستعد له الأمة لتغيِّر ما بأنفسها, حتى يغيِّر الله ما بها؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وسأنقل لك هنا ما ذكره الغزالي وغيره عن سوء حال الزمان, منها ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه في خبرٍ للحارث بن عميرة أنه قال له: (إن يُدفَع عن عمرك, فسيأتي عليك زمان كثير خطباؤه, قليل علماؤه, كثير سؤَّاله, قليل معطوه, الهوى فيه قائد العلم. قال: ومتى ذلك؟ قال: إذا أميتَتِ الصلاة, وقُبلت الرِّشَا, ويُباع الدين بعرَضٍ يسيرٍ من الدنيا, فالنجاءَ النجاء, ويحَك ثم النجاء). والنجاء هنا في الالتحاق بركب الدعاة والصالحين. قال الغزالي: (وجميع ما ذكر في هذه الأخبار, تراه بعينك في زمانك وأهله, فانظر لنفسك، ثم إن السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعوا على التحذير من زمانهم وأهله, وآثروا العزلة, وأمروا بذلك, وتواصوا به, ولا شك أنهم كانوا أبصر وأنصح, وأن الزمان لم يصر بعدهم خيرًا مما كان, بل أشر منه وأمرُّ. وهذا ما ذكر عن يوسف بن أسباط أنه قال: سمعت الثوري يقول: والله الذي لا إله إلا هو, لقد حلَّت العزلة في هذا الزمان). قلتُ (القرضاوي): قد يقول أهل زماننا: لئن حلَّت في زمان الثوري ففي زماننا هذا وجبت وافتُرضت!! (وعن سفيان الثوري أيضًا: أنه كتب إلى عبَّاد الخوَّاص رحمه الله: أما بعد, فإنك في زمان كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتعوذون بالله من أن يدركوه فيما بلغنا, ولهم من العلم ما ليس لنا, فكيف بنا حين أدركناه على قلة علم, وقلة صبر, وقلة أعوان على الخير, وكدر من الدنيا, وفساد من الناس؟ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في العزلة راحة من خلطاء السوء وعن داود الطائي رحمه الله: صُم عن الدينا, واجعل فطرك الآخرة, وفِرَّ من الناس فرارَك من الأسد. وعن أبي عبيدة: ما رأيتُ حكيمًا قطُّ إلا قال لي في عقب كلامه: إن أحببتَ إلا تُعرف, فأنت من الله على بال. والأخبار في هذا الباب أكثر من أن يحتملها هذا الكتاب. وقد صنفنا فيه كتابا مفردًا, وسميناه كتاب (أخلاق الأبرار والنجاة من الأشرار), فقف عليه ترى العجب العجاب, والعاقل يكفيه إشارة. والله ولي التوفيق والهداية بفضله)( ). هذا يمكن أن يؤخذ به عندما تكون الأمة في حال قوة وغلبة على أعدائها. وقد استكملت كل قوتها، وبنت نفسها من كل ناحية، وأما إذا بدأ غرور الدنيا وزخرفها يسيطران على الناس، ويغري كثيرًا منهم بالافتتان والضياع مع الضائعين؛ فأنا أرى أن الأَوْلى للمؤمن القوي أن يشتغل بدعوة الناس إلى الحق والخير، ويعظهم بالله والدار الآخرة، ويقيم مع الصالحين جمعيات ربانية الوجهة، محمدية الطريق، وإن جاز هنا أن يُفَضِّل بعض الناس العزلة. ولكن في عصرنا لم تعُد العزلة ممكنة، وأعداء الإسلام يجمعون الناس من كل حَدَب وصوب؛ ليبشروا أمة المسلمين، ويفتنوهم عن دينهم، ويفرقوهم بعضهم عن بعض. فالأولى لنا أن نفكر دائمًا بعقلية الجماعة، وعقلية الدعوة، وعقلية الأمة الواحدة، وبهذا يجب أن يصطفَّ الجميع، كما يصطف المصلون وراء إمامهم، داعين الله تعالى أن يتم عليهم النعمة، ويهديهم صراطًا مستقيمًا، وينصرهم نصرًا عزيزا. %MCEPASTEBIN%

2187

| 17 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: عبوديات اللسان خمس وواجبها نطق الشهادتين وذكر الله

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة السابعة عشر استكمالا للحلقة السابقة... حظُّ اللسان من العبودية لله: أما عبوديات اللسان الخمس؛ فواجبها: النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن، وهو ما تتوقف عليه صحة صلاته, وتلفُّظه بالأذكار الواجبة في الصلاة, التي أمر الله بها ورسوله, كما أُمر بالتسبيح في الركوع والسجود, وأُمر بقول: "ربنا ولك الحمد" بعد الاعتدال, وأُمر بالتشهد, وأُمر بالتكبير. ومن واجبه: رد السلام، وفي ابتدائه قولان. ومن واجبه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث. وأما مستحبُّه: فتلاوة القرآن، ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النافع، وتوابع ذلك. ويحرم عليه استماعُ الكفر والبدع، إلا حيث يكون في استماعِه مصلحة راجحة, من رَدِّه، أو الشهادة على قائله، أو زيادةِ قوة الإيمان والسنة، بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة.. ونحو ذلك، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسرِّه، ولا يحب أن يطلعك عليه، ما لم يكن متضمنًا لحق لله يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعيَّن نصحه، وتحذيره منه. وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تُخشى الفتنةُ بأصواتهنَّ، إذا لم تدع إليه حاجة: من شهادة، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة ونحوها. وأمَّا السمع المستحبُّ: كاستماعِ المستحبِّ من العلم, وقراءة القرآن, وذكر الله, واستماع كل ما يحبه الله, وليس بفرض. والمكروه: عكسه, وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه. والمباح ظاهر. حظ النظر: وأما النظر الواجب: فالنظر في المصحف, وكتب العلم عند تعيُّن تعلُّم الواجبِ منها، والنظر إذا تعيِّن لتمييزِ الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو يُنفقها أو يستمتع بها، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها، ونحو ذلك. والنظر الحرام: النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقًا، وبغيرها إلَّا لحاجة، كنظر الخاطب، والمُستام أي: المسام في بيع أو شراء والمعامِل، والشاهد، والحاكم، والطبيب، وذي المحرم. والمستحبُّ: النظرُ في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانًا وعلمًا، والنظر في المصحف، ووجوه العلماء الصالحين، والوالدَيْن، والنظرُ في آيات الله المشهودة, ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته. والمكروه: فضول النظر الذي لا مصلحة فيه، فإن له فضولًا كما للسان فضولًا، وكم قاد فضولها إلى فضولٍ عزَّ التخلص منها، وأعيا دواؤها. وقال بعض السلف: كانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام. والمباح: النظر الذي لا مضرَّة فيه في العاجل والآجل، ولا منفعة. ومن النظر الحرام: النظر إلى العورات، وهي قسمان: عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب. ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب، فرماه صاحب العورة، ففقأ عينه؛ لم يكن عليه شيء، وذهبت هَدَرًا, بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، وإن ضعفه بعض الفقهاء لكونه لم يبلغه النص، أو تأوَّله. وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله، كعورة له هناك ينظرها، أو رِيبَة هو مأمور أو مأذون له في الاطِّلَاع عليها. حاسة الذوق وحظُّها من العبودية لله: وأما الذوق الواجبُ: فتناوُل الطعام والشراب عند الاضطرار إليه وخوف الموت، فإن تركه حتى مات، مات عاصيًا قاتلًا لنفسه؛ قال الإمام أحمد وطاووس: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات؛ دخل النار. ومن هذا: تناوُل الدواء إذا تيقَّن النجاة به من الهلاك، على أصح القولين. وإن ظن الشفاء به، فهل هو مستحب مباح، أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف. والذوق الحرام: كذوق الخمر والسموم القاتلة، والذوقِ الممنوع منه للصوم الواجب. وأما المكروه: فكذوق المشتبِهات، والأكلِ فوق الحاجة، وذَوْق طعام الفجاءة، وهو الطعام الذي تفجأ آكلُه ولم يُرد أن يدعوك إليه، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها، وفي السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المُتَبَارِينَ . وذوق طعام من يطعمك حياءً منك لا بطِيبة نفس. والذوق المستحبُّ: أكل ما يُعينُك على طاعة الله عز وجل، مما أذن الله فيه، والأكل مع الضيف ليَطِيب له الأكل، فينال منه غرضَه، والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب. وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها, للأمر به من الشارع. والذوق المباح: ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان. حاسة الشمِّ وأما تعلُّق العبوديات الخمس بحاسة الشم؛ فالشم الواجب: كل شمٍّ تعيَّنَ طريقًا للتمييز بين الحلال والحرام، كالشمِّ الذي تُعلَم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة؟ وهل هي سمٌّ قاتل أو لا مضرة فيها؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به وما لا يملك؟ ومن هذا شمُّ المقوِّم وربُّ الخِبْرة عند الحكم بالتقويم.. ونحو ذلك. وأما الشمُّ الحرام: فالتعمُّد لشم الطيب في الإحرام، وشم الطيب المغصوب والمسروق، وتعمُّد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه. وأما الشم المستحب: فشم ما يعينك على طاعة الله، ويقوي الحواس، ويبسط النفس للعلم والعمل، ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك. ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عُرض عليه ريحان فلا يردّه، فإنه طيّب الريح، خفيف المحمل" . والمكروه: كشمّ طِيب الظَّلَمة، وأصحاب الشبهات، ونحو ذلك. والمباح: ما لا منع فيه من الله ولا تبعة، ولا فيه مصلحة دينية، ولا تعلق له بالشرع. حاسة اللمس وأما تعلق هذه الخمس بحاسة اللمس, فاللمس الواجب: كلمس الزوجة حين يجب جماعها، والأَمة الواجب إعفافها. والحرام: لمس ما لا يحل من الأجنبيات. والمستحبُّ: إذا كان فيه غضُّ بصرِه، وكفُّ نفسه عن الحرام، وإعفاف أهله. والمكروه: لمس الزوجة في الإحرام للذة، وكذلك في الاعتكاف، وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه. ومن هذا لمس بدن الميت- لغير غاسله- لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له، ولهذا يستحبُّ ستره عن العيون, وتغسيله في قميصه في أحد القولين. ولمس فخذ الرجل, إذا قلنا هي عورة. والمباح: ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية. البطش باليد والرجل وهذه المراتب أيضًا مرتَّبة على البطش باليد، والمشي بالرجل. وأمثلتها لا تخفى. فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب. وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف. والصحيح: وجوبه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة. وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر، والأقوى في الدليل وجوبه لدخوله في الاستطاعة, وتمكنه بذلك من أداء النسك، والمشهور عدم وجوبه. ومن البطش الواجب: إعانة المضطر، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم. والحرام: كقتل النفس التي حرم الله قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب من لا يحل ضربه.. ونحو ذلك، وكأنواع اللعب المحرَّم بالنص: كالنرد، أو ما هو أشد تحريمًا منه عند أهل المدينة كالشِّطْرَنج، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره، أو دونه عند بعضهم ، ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفًا أو نسخًا، إلا مقرونًا بردِّها ونقضها، وكتابةِ الزور والظلم، والحكم الجائر، والقذف، والتشبيب بالنساء الأجانب، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم، ولا سيما إن كسبتَ عليه مالًا {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالِف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدًا مخطئًا، فالإثم موضوع عنه. وأما المكروه: فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام، وكتابة ما لا فائدة في كتابته، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة. والمستحب: كتابة كل ما فيه منفعة في الدين، أو مصلحة لمسلم، والإحسانُ بيده بأن يُعين صانعًا، أو يصنع لأخرق، أو يُفرغ من دلوِه في دلو المستسقي، أو يحمل له على دابته، أو يمسكها حتى يحمل عليها، أو يعاونه فيما يحتاج إليه.. ونحو ذلك. ومنه: لمس الركن بيده في الطواف، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان. والمباح: ما لا مضرة فيه ولا ثواب. وأما المشي الواجب: فالمشي إلى الجُمُعات والجَمَاعات, في أصح القولين, لبضعة وعشرين دليلًا, مذكورة في غير هذا الموضع. والمشيُ حول البيت للطواف الواجب، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دُعِي إليه، والمشي إلى صلة رحمه، وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قرُبت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر. والحرام: المشي إلى معصية الله، وهو من رَجِل الشيطان، قال تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64]. قال مقاتل: استعن عليهم برُكْبان جندك ومُشَاتهم. فكل راكب وماش في معصية الله؛ فهو من جند إبليس. حتى الركوب على الدابة: وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضًا. فواجبه: في الركوب في الغزو، والجهاد، والحج الواجب. ومستحبُّه: في الركوب المستحبِّ من ذلك، ولطلب العلم، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وفي الوقوف بعرفة نزاع: هل الركوب فيه أفضل، أم على الأرض؟ والتحقيق: أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة: من تعليم للمناسك، واقتداء به، وكان أعون على الدعاء، ولم يكن فيه ضرر على الدابة. وحرامه: الركوب في معصية الله عز وجل. ومكروهه: الركوب للَّهو واللعب، وكل ما تركُه خيرٌ من فعله. ومباحه: الركوب لما لم يتضمن فوتَ أجر، ولا تحصيل وِزر. فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والأنف، والفم، واليد، والرجل، والفرج، والاستواء على ظهر الدابة . انتهى تفصيل ابن القيم. وبهذا البيان المستوعِب يتضح لنا شمول العبادة في الإسلام للإنسان كله, من قرنه إلى قدمه, ظاهره وباطنه, وأن حياة المسلم ليست حياة سائبة, إنما هي في جوهرها تعبد والتزام. ومعظم ما ذكره ابن القيم مقبول، والقليل منه جدًّا قد ينازَع فيه، والموفَّق من هداه الله إلى أرجح الأقول. وأضيف إلى ذلك: الشمول الزماني, فعبادة الله تشمل حياة المسلم كل أزمنته وأوقاته: في مرحلة شبابه, وفي مرحلة كهوليته, وفي مرحلة شيخوخته. فهو فيها كلها عابد لله, قانت لله, مخلص لله؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]. وهذه العبادة, تشمل الفرد والأسرة والجماعة، والمجتمع الكبير، والأمة الإسلامية, فكلها مطالَبة ومأمورة من الله تعالى ورسوله أن تعبد الله وحده لا شريك له, وأن يستعين به كلُّ أبنائها ويتوكَّلَ عليه, وأن يقيم دينه في الأرض؛ كما قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. {وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61]. وبهذا تتسع العبادة التي جاء بها الإسلام في طولها، لتشمل العمر كله شبابًا وكهولة وشيخوخة, وتمتد في عرضها لتشمل العالم كله بكل أجناسه وألوانه, ورجاله ونسائه, وشبابه وشيوخه, أغنياء وفقراء, ورؤساء ومرؤوسين, وحكامًا ومحكومين, بيضًا وسودًا وملوَّنين. وتمتد في عمقها, لتشمل العبادةُ الدينَ كلَّه, ما يخص الأقوال والأعمال, وما يخص الجوارح والقلوب, وما يشمل كيان الإنسان كله ظاهرًا وباطنًا, من الحواسِّ الخمس, ومن العقل والقلب, والإرادة والوجدان, وكل ما يتعلق بالإنسان. الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الإمام ابن القيم: وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن مملوء به. كمال التسليم له: فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره, وتلقي خبرِه بالقبول والتصديق، دون أن يُحمِّله معارضةَ خيالٍ باطل، يسميه معقولًا، أو يحمِّله شبهة أو شكًّا، أو يُقدِّم عليه آراءَ الرجال، وزُبَالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان, كما وحَّد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذُّل، والإنابة والتوكل. فهما توحيدان, لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيدُ المرسِل, وتوحيد متابعة الرسول, فلا يُحاكِم إلى غيره, ولا يرضى بحكم غيره, ولا يقف تنفيذ أمره، وتصديق خبره؛ على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقَبِل خبرَه، وإلا فإنْ طلبَ السلامةَ: أعرض عن أمْرِه وخبرِه, وفوَّضه إليهم، وإلا حرَّفه عن مواضعه، وسمَّى تحريفه: تأويلًا وحملًا. فقال: نؤوِّله ونحْمِله. فلأنْ يلقى العبدُ ربَّه بكل ذنب على الإطلاق- ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال. ولقد خاطبتُ يومًا بعض أكابر هؤلاء, فقلت له: سألتك بالله, لو قُدِّر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ بين أظهرنا, وقد واجَهَنا بكلامه وبخطابه, أكان فرضًا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه. فقلتُ: فما الذي نسخ هذا الفرضَ عنَّا؟ وبأي شيء نُسِخ؟ فوضع إصبعه على فيه, وبقي باهتًا متحيرًا, وما نطق بكلمة. والله المستعان.

2910

| 14 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : القرآن يخاطب المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة السادسة عشر استكمالا للحلقة السابقة... عبادة الله تسع الحياة كلها: أود أن أقتبس هنا من ثاني كتاب ألفتُه في بداية توجهي إلى التأليف بعد كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) الذي ألفته بتكليف من الدكتور محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف، وهو كتاب (العبادة في الإسلام) فقد قلت في أحد فصوله: (وإذا عرفنا أن الدين كله عبادة، كما قال الإمام ابن تيمية، وعرفنا أن الدين قد جاء يرسم للإنسان منهج حياته، الظاهرة والباطنة، ويحدد سلوكه وعلاقاته، وفقًا لما يهدي إليه هذا المنهج الإلهي، عرفنا أن عبادة الله تَسع الحياةَ كلها، وتنتظم أمورها قاطبة: من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشئون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب. ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية، تتناول جوانب شتى من الحياة، وفي سورة واحدة هي سورة البقرة نجد مجموعة من التكاليف كلها جاءت بصيغة واحدة (كُتِبَ عليكم)، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. فهذه الأمور كلها من القصاص، والوصية، والصيام، والقتال، مكتوبة من الله على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها. وبهذا البيان يتضح لنا حقيقة هامة ما زال يجهلها كثير من المسلمين، فبعض الناس لا يفهم من كلمة (العبادة) إذا ذكرت، إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب، أو النظم والقوانين، أو العادات والتقاليد. العبادة انقياد لمنهج الله وشرعه: إن مقتضى عبادة الإنسان لله وحده: أن يُخضع أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه، من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيِّفَ حياته وسلوكه وَفقًا لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحلَّ له أو حرَّم عليه؛ كان موقِفُه في ذلك كله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. ففرق ما بين المؤمن وغيره: أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه، خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله، ليس المؤمن "سائبًا" يفعل ما تهوى نفسه، أو يهوى له غيرُه من الخلق، إنما هو "ملتزم" بعهد يجب أن يفي به، وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب أن يتبعه، وهذا التزام منطقي ناشئ من طبيعة عَقْد الإيمان ومقتضاه. مقتضى عقد الإيمان: أن يُسلم زمام حياته إلى الله، ليقودها رسوله الصادق، ويهديه الوحيُ المعصوم. مقتضى عقد الإيمان: أن يقول الرب: أمرتُ ونهيتُ. ويقول العبد: سمعتُ وأطعتُ. مقتضى عقد الإيمان: أن يخرج الإنسان من الخضوع لهواه إلى الخضوع لشرع مولاه. وفي هذا يقول القرآن الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. ويقول: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. ليس بعابد لله — إذن — من قال: أصلي وأصوم وأحج، ولكني حُرٌّ في أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمر، أو أكل الربا، أو رفض ما لا يروقني من أحكام الشريعة، فأحكم فيه بغير ما أنزل الله! ليس بعابد لله من أدَّى الشعائر، ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وتقاليده في نفسه أو أهله، كالرجل الذي يلبس الحرير الخالص، ويتحلَّى بالذهب، ويتشبه بالنساء، والمرأة التي تلبس ما يبرز مفاتنها، ولا يغطي جسدها، ولا تضرب بخمارها على جيبها. ليس بعابد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدرانَ المسجد، فإذا انطلق في ميادين الحياة المتشعبة، فهو عبد نفسه فقط، وبعبارة أخرى: هو حُرٌّ في اتباع هواها، أو اتباع أهواء عبيد أنفسهم من المخلوقين! من اتبع غير منهج الله فقد أشرك في عبادته: إن من العبادة التي يغفلها كثير من الناس: الخضوع لشرع الله، والانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال، وحرم الحرام، وفرض الفرائض، وحد الحدود. فمن أدى الشعائر، وصلَّى وصام، وحج واعتمر، ولكنه رضي أن يحتكم في شؤون حياته وأسرته الخاصة والعامة، أو في شؤون المجتمع والدولة، إلى غير شرع الله وحكمه؛ فقد عَبَد غير الله، وأعطى غيره ما هو خالصُ حقِّه سبحانه. إن الله وحده هو المشرع الحاكم لخلقه؛ لأن الكون كله مملكته، والناس جميعًا عباده، وهو وحده الذي له أن يأمر أو ينهى، وأن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، بمقتضى ربوبيته وملكه وألوهيته للناس، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس. فمن ادعى من الخلق أن له أن يشرع ما شاء، أمرًا ونهيًا وتحليلًا وتحريمًا، بدون إذن من الله؛ فقد تجاوز حده، وعدا طَوْره، وجعل نفسه ربًّا أو إلهًا من حيث يدري أو لا يدري! ومن أقر له بهذا الحق، وانقاد لتشريعه ونظامه، وخضع لمذهبه وقانونه، وأحل حلاله وحرم حرامه؛ فقد اتخذه ربًّا، وعبده مع الله، أو من دون الله، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر! إن القرآن الكريم دمغ أهل الكتاب بالشرك، ورماهم بأنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم، واتخذوهم أربابًا من دون الله، وذلك حين أطاعوهم واتبعوهم فيما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. وقد فسّر هذه الآية أعلم الناس بمراد ربه — عز وجل — من كلامه، وهو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أوحى الله إليه هذا القرآن ليبيَّنه للناس ولعلهم يتفكرون، فلنُصغ إلى التفسير النبوي الكريم لهذه الآية الكريمة. روى الترمذي وابن جرير — من طرق — عن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، فأُسِرت أخته وجماعة من قومه، ثم مَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغَّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عديٌّ إلى المدينة. وكان رئيسًا في قومه، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عديٍّ صليبٌ من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. قال: إنهم لم يعبدوهم! فقال: "بلى، إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم"( ). قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (وهكذا قال حذيفة بن اليمان( )، وعبد الله بن عباس( )، وغيرهما في تفسير {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}: إنهم اتبعوهم فيما حلَّلوا وحرَّموا. وقال السُّدِّيُّ: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. قال: ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي الذي إذا حرَّم الشيء فهو حرام، وما حلَّله فهو الحلال، وما شرعه اتُّبِع، وما حكم به نفذ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ})( ). شمول العبادة لكيان الإنسان كله: هذا هو المظهر الثاني لشمول العبادة في الإسلام. فكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله. فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن. المسلم يتعبد الله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة، وما فيها من هدى وحكمة، والنظر في مصاير الأمم، وأحداث التاريخ، وما فيها من عظة وعبرة، فهذا كله مما يتقرب به المسلم إلى الله، الذي أنزل كتابه إلى الناس: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، ودعاهم في مُحكَم كتابه إلى إعمال العقل نظرًا وتفكرًا وتعلُّمًا {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 — 21] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 — 191]. وقد ورد عن ابن عباس: تفكر ساعة خير من قيام ليلة( ). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة"( ). وقال الشافعي رضي الله عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة( ). ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال وهب: كنت بين يدي مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي، وقمت أصلي، فقال: ما الذي قمتَ إليه بأفضل من الذي قمت عنه( ). ويتعبد المسلم لله بالقلب، عن طريق العواطف الربانية، والمشاعر الروحية، مثل: حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 — 163]. ويتعبد المسلم لله باللسان عن طريق الذكر والتلاوة والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير، جاء في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 — 42]. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، وقال عليه الصلاة والسلام: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"( ). وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فمرني بأمر أتشبَّث به. فقال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"( ). والذكر نوعان: ذكر ثناء مثل: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". وذكر دعاء مثل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وقد جاء من النوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكار كثيرة، في مختلف المناسبات والأوقات، تجعل المسلم موصولَ القلبِ بربِّه، ورطْب اللسان بذِكره تعالى: عند النوم واليقظة، وعند الإصباح والإمساء، وعند الأكل والشرب، وعند السفر والأَوْبة، وعند لبس الثوب، وركوب الدابة، وهبة الريح ونزول المطر.. وفي كل حال وكل حين، وقد ألَّف العلماء في ذلك كتبًا شتى. والذكر المحمود هو ما اجتمع فيه القلبُ واللسانُ، ولا خير في ذكر اللسان إذا كان القلب ناسيًا غافلًا. مراتب العبودية الخمسون موزعة على القلب والبدن: وقد قرأتُ لابن القيم رضي الله عنه تفصيلًا حسنًا في مراتب العبودية لله، وحظ القلب واللسان والجوارح والحواس كلها من هذه العبودية الشاملة، رأيت أن أنقله هنا — ببعض تصرف — من كتابه القيم النافع (مدارج السالكين، شرح منازل السائرين إلى مقامات: إياك نعبد وإياك نستعين)، قال: (ورحَى العبودية تدور على خمسة عشرة قاعدة، من كمَّلها كمَّل مراتب العبودية. وبيانها: أن العبودية منقسمة على: القلب، واللسان، والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح. حظ القلب من العبودية لله: فواجب القلب منه: متَّفَق على وجوبه، ومختلَف فيه؛ فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص، والتوكل، والمحبة، والصبر، والإنابة، والرجاء، والخوف، والتصديق الجازم، والنية في العبادات. وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص هو: إفراد المعبود عن غيره. ونية العبادة لها مرتبتان: إحداهما: تمييز العبادة عن العادة. والثانية: تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض. والأقسام الثلاثة واجبة. وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة، قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا من القرآن، أو بضع وتسعين، وله طرفان أيضًا: واجب مستحَقٌّ، وكمال مستحَبٌّ. وأما المختلَف فيه: فكالرضا، فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية. ومن هذا أيضًا اختلافهم في الخشوع في الصلاة، وفيه قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد وغيره. وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته، فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد، وأبو حامد الغزالي في (إحيائه)( )، ولم يوجبها أكثر الفقهاء. والمقصود أن يكون مَلِك الأعضاء — وهو القلب — قائمًا بعبوديته لله سبحانه هو ورَعِيَّته. وأما المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعُجب، والحسد، والغفلة، والنفاق. وهو نوعان: كفر ومعصية. فالكفر: كالشك، والنفاق، والشرك وتوابعها. والمعصية نوعان: كبائر، وصغائر. فالكبائر: كالرياء، والعُجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمنى زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنى، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن. وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها، فوظيفة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على القلب قبل الجوارح، فإذا جهِلها وترك القيام بها؛ امتلأ بأضدادها ولا بد، وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها. وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر، بحسب قوتها وغلظها، وخفتها ودقتها. %MCEPASTEBIN%

2319

| 13 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : المعراج من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الخامسة عشر أدب الرسل مع الله: يقول الإمام ابن القيم في تفسير الآيات الثلاث من أواخر المائدة من الكلام بين الله وعيسى يوم القيامة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116-118] وتأمل أحوالَ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم- مع الله وخطابَهم وسؤالَهم، كيف تجدها كلَّها مشحونة بالأدب، قائمة به. قال المسيح -عليه السلام-: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116]. ولم يقل: (لم أقله)، وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسِرِّه، فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة:116]. ثم برَّأ نفسَه من علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه، فقال: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. ثم أثنى على ربه، ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]. ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به- وهو محض التوحيد– فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم، فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}، ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم، فقال: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:117]، وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام، أي: شأن السيد رحمةُ عبيده، والإحسان إليهم، وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدًا لغيرك؛ فإذا عذَّبْتهم- مع كونهم عبيدك- فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيدهم، وأعصاهم له؛ لم تعذبهم؛ لأن قُربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته، فلماذا يعذِّب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانًا عبيدَه؟ لولا فرط عتوهم، وإباؤهم عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب. وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:16]. أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم، فإذا عذَّبتهم: عذَّبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه، فهم عبادك، وأنت أعلم بما جنَوْه واكتسبوه. فليس في هذا استعطاف لهم، كما يظنه الجُهَّال، ولا تفويض إلى محض المشيئة، والمُلك المجرد عن الحكمة، كما تظنه القدرية، وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه -سبحانه- بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب. ثم قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. ولم يقل: الغفور الرحيم، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم. فلو قال: (فإنك أنت الغفور الرحيم)؛ لأشعر باستعطافه ربَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم، فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم؛ فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتَيْن لكمال القدرة وكمال العلم. والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم؛ وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار إساءته إليه، والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب. وفي بعض الآثار: حَمَلة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حِلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى، كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] وقوله: {فَكَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]. وكذلك قول إبراهيم الخليل- صلى الله عليه وسلم-: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78-80] ولم يقل: (وإذا أمرضني)؛ حفظًا للأدب مع الله. وكذلك قول الخضر -عليه السلام- في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] ولم يقل: (فأراد ربك أن أعيبها)، وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]. وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن:10]، ولم يقولوا: (أراده بهم ربُّهم) ثم قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]. وألطف من هذا قول موسى -عليه السلام-: {رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]. ولم يقل: أطعمني. وقول آدم -عليه السلام-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، ولم يقل: رب قدَّرت عليَّ، وقضيت عليَّ. وقول أيوب -عليه السلام-: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] ولم يقل: فعافني واشفني. وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]. ولم يقل: أخرجني من الجُبِّ؛ حفظًا للأدب مع إخوته، وتَفَتِّيًا عليهم؛ ألا يُخجلهم بما جرى في الجُبِّ، وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]. ولم يقل: رفع عنكم جَهد الجوع والحاجة. أدبًا معهم، وأضاف ما جرى إلى السبب، ولم يُضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه، فقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]. فأعطى الفُتُوَّة والكرمَ والأدب حقَّه، ولهذا لم يكن كمال هذا الخُلق إلا للرسل والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، ومن هذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجلَ: أن يستر عورته، وإن كان خاليًا لا يراه أحد، أدبًا مع الله، على حَسب القُرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره. وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرًا وباطنًا، فما أساء أحدٌ الأدبَ في الظاهر إلا عوقب ظاهرًا، وما أساء أحد الأدب باطنًا إلا عوقب باطنًا. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: من تهاون بالأدب، عُوْقِب بحرمان السُّنَن، ومن تهاون بالسُّنَن، عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض، عوقب بحرمان المعرفة. (المعرفة هنا: معرفة الله. ومعنى هذا: أنه خَدْشٌ في عقيدته). وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل،وحقيقة (الأدب) استعمال الخُلُق الجميل، ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل. فإن الله -سبحانه- هيَّأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد، التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزِّناد. فألهمه، ومكَّنه، وعرَّفه وأرشده، وأرسل إليه رسله، وأنزل إليه كتبه؛ لاستخراج تلك القوة التي أهَّله بها لكماله إلى الفعل، قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]. فعبَّر عن خلق النفس بالتسوية للدلالة على الاعتدال والتمام، ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى، وأن ذلك نالها منه امتحانًا واختبارًا، ثم خص بالفلاح: من زكَّاها، فنمَّاها، وعلَّاها، ورفعها بآدابه التي أدَّب بها رسله وأنبياءه وأولياءه، وهي التقوى، ثم حكم بالشقاء على من دسَّاها، فأخفاها، وحقَّرها، وصغَّرها، وقمعها بالفجور. والله سبحانه وتعالى أعلم. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}: وجرت عادة القوم: أن يذكروا في هذا المقام قوله- تعالى-عن نبيه صلى الله عليه وسلم، حين أراه ما أراه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وأبو القاسم القُشَيْري صدَّر (باب الأدب) بهذه الآية، وكذلك غيره، وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت جانبًا، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب. والإخلال به: أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلَّع أمام المنظور. فالالتفات: زيغ، والتطلع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور: ألَّا يصرف بصره عنه يَمنة ولا يَسرة، ولا يتجاوزه. هذا معنى ما حصَّلْتُه عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه. وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر -صلى الله عليه وسلم-: تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره، فالبصيرة مواطِئة له، وما شاهدَتْه بصيرتُه فهو أيضًا حقٌّ مشهود بالبصر؛ فتواطأ في حقه مشهد البصر والبصيرة. ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:11-12]. أي: ما كَذَب الفؤادُ ما رآه ببصره. ولهذا قرأها أبو جعفر: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}- بتشديد الذال- أي لم يُكَذِّب الفؤاد البصر، بل صدقه وواطأه، لصحة الفؤاد والبصر، أو استقامة البصيرة والبصر، وكونِ المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقًّا. وقرأ الجمهور: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} أي: بالتخفيف. وهو متعدٍّ، و(ما) {مَا رَأَى} مفعولُه: أي ما كذَّب قلبه ما رأته عيناه، بل واطأه ووافقه؛ فلِمُواطأة قلبه لقالَبه، وظاهرِه لباطنه، وبصرِه لبصيرته: لم يكذب الفؤادُ البصرَ، ولم يتجاوز البصر حدَّه فيطغى؛ ولم يمِلْ عن المرئي فيزيغ؛ بل اعتدل البصر نحو المرئي، ما جاوزه، ولا مال عنه، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكُلِّيته. وللقلب: زيغ وطغيان، وكلاهما منتفٍ عن قلبه وبصره، فلم يزِغ قلبه التفاتًا عن الله إلى غيره، ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه. وهذا غاية الكمال والأدب مع الله، الذي لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس، إذا أقيمت في مقام عال رفيع: أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه. ألا ترى أن موسى -عليه السلام - لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة: طلبت نفسُه الرؤية؟ ونبينا -صلى الله عليه وسلم- لما أقيم في ذلك المقام، وفَّاه حقه: فلم يلتفت بصرُه ولا قلبُه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع، حتى عاتبَ موسى ربَّه فيه، وقال: "يقول بنو إسرائيل: إني كريم الخلق على الله. وهذا قد جاوزني وخلَّفني علوًّا، فلو أنه وحده، ولكن معه كل أمته". وفي رواية للبخاري: "فلما جاوزته بكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي أن غلامًا بُعِث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي". ثم جاوزه علوًّا فلم تُعِقْه إرادة، ولم تقف به دون كمال العبودية هِمَّة. ولهذا كان مركوبه في مسراه يسبق خطوُه الطرفَ، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلًا لحال راكبه، وبُعْد شأوه، الذي سبق العالم أجمع في سيره، فكان قَدَمُ البُراق لا يختلف عن موضع نظره، كما كان قدمه صلى الله عليه وسلم لا يتأخر عن محل مَعْرِفَته (أي معرفة البُراق). فلم يزل صلى الله عليه وسلم في خِفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مراتب عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى مَحَل من القرب سبق به الأولين والآخرين. فانصبَّت إليه هناك أقسام القُرب انصبابًا، وانقشعت عنه سحائب الحُجُب ظاهرًا وباطنًا حجابًا حجابًا، وأقيم مقامًا غَبَطه به الأنبياء والمرسلون، فإذا كان في المعاد أقيم مقامًا من القرب ثانيًا، يغبطه به الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم، من كمال أدبه مع الله، (ما زاغ البصر عنه وما طغى). فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى، وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم، فقال تعالى: {يس *وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:1- 4]. فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط، يسأله السلامة لأتباعه وأهل سُنَّته، حتى يَجُوزُوه إلى جنات النعيم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]). ابن القيم يقول: الأدب هو الدين كله، ومما ينبغي أن ننوِّه به في هذا المقام ما ذكره الإمام ابن القيم في (المدارج) من كلام له أهمية بالغة، فقد قال في بيان منازل السائرين عن شرح (الأدب): (الأدب هو الدين كله. فإن ستر العورة من الأدب، والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب، حتى يقف بين يدي الله طاهرًا. ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته، للوقوف بين يدي ربه. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة: وهو أخذ الزينة، فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. فعلَّق الأمر بأخذ الزينة، لا بستر العورة، إيذانًا بأن العبد ينبغي له: أن يلبس أزين ثيابه، وأجملها في الصلاة. وكان لبعض السلف حُلَّة بمبلغ عظيم من المال، وكان يلبسها وقت الصلاة، ويقول: ربي أحقُّ من تجمَّلتُ له في صلاتي. ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لا سيما إذا وقف بين يديه، فأحسن ما وقف بين يديه: بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرًا وباطنًا. ومن الأدب: نهيُ النبي -صلى الله عليه وسلم- المصلي: أن يرفع بصره إلى السماء. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مُطرقًا، خافضًا طَرْفَه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق. قال: والجهمية- لما لم يفقهوا هذا الأدب، ولا عرفوه- ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سماواته على عرشه، كما أخبر به عن نفسه، واتفقت عليه رسله وجميع أهل السُّنَّة. قال: وهذا من جلهلهم، بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم على نقيض قولهم، إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض، ولا يرفع بصره إليهم، فما الظن بملك الملوك سبحانه؟ وسمعته يقول في نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذلٍّ وانخفاض من العبد؛ فمن الأدب مع كلام الله: ألَّا يقرأ في هاتين الحالتين، ويكون حالُ القيام والانتصاب أولى به، ألَّا يستقبل بيت الله ولا يستدبره عند قضاء الحاجة، ومن الأدب مع الله: ألا يستقبل بيتَه ولا يستدبره عند قضاء الحاجة، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة، وغيرهم- رضي الله عنهم-، والصحيح: أن هذا الأدب يعُمُّ الفضاء والبنيان. كما ذكرنا في غير هذا الموضع. وضعُ اليُمنى على اليسرى عند القراءة: ومن الأدب مع الله، في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى، حال قيام القراءة، ففي الموطأ لمالك، عن سهل بن سعد: أنه من السنة، وكان الناس يُؤمرون به ، ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء، فعظيم العظماء أحق به. عدم الالتفات في الصلاة: ومنها: السكون في الصلاة. وهو الدوام الذي قال الله -تعالى- فيه: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]. قال عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره، قال: سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} أهم الذين يصلون دائمًا؟ قال: لا، ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه، ولا عن شماله ولا خلفه. قلتُ: هما أمران: الدوامُ عليها، والمداومة عليها فهذا الدوام، والمداومة في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]. وفُسِّر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة.وأدبه في استماع القراءة: أن يُلقِي السمعَ وهو شهيد. أدب المصلي في ركوعه: وأدبه في الركوع: أن يستوي، ويعظم الله -تعالى-، حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه، ويتضاءل ويتصاغر في نفسه، حتى يكون أقل من الهَباء، والمقصود: أن الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا. ولا يستقيم لأحد قط الأدبُ مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحب وما يكره، ونفس مستعدة قابلة ليِّنة متهيِّئة لقبول الحق علمًا وعملًا وحالًا. والله المستعان.

673

| 12 يوليو 2014