رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إبراهيم فلامرزي

 كاتِـبٌ وَإِعْـلاميٌّ قَـطَـرِيٌّ

مساحة إعلانية

مقالات

494

إبراهيم فلامرزي

الشَّـعْـوَذَةُ ولعنةُ الـموتِ والإرادةُ

31 يناير 2017 , 12:35ص

‎ ذكرَ عالمُ الاجتماعِ الكبيرُ؛ كلود ليڤي ستراوس، أنَّ الساحرَ في القبائلِ الـمعزولةِ عنِ العالَمِ في أمريكا الجنوبيةِ يقومُ بإلقاءِ لعنةٍ بالـموتِ على شخصٍ، ويروي كيفَ يتقبَّلُ الشخصُ مصيرَهُ وكأنَّـهُ قَدَرٌ محتومٌ، فتتلاشى إرادتُهُ، ويبدأُ في رَفْضِ الطعامِ والشرابِ، ويذوي جسدُهُ بالتزامُنِ مع اضمحلالِ نزعتِـهِ للحياةِ حتى يموتَ فعلاً. وهذه الحالةُ من استلابِ الإرادةِ، والخضوعِ لأشخاصٍ لهم قدراتٌ خارقةٌ، معروفةٌ في ثقافاتِ كلِّ الشعوبِ مع اختلافٍ في صورِها ودرجاتِ تَقَبُّلِها. ففي هذه الثقافاتِ، توجدُ قصصٌ شعبيةٌ عن بيوتٍ قديمةٍ وأراضٍ بعيدةٍ عن العمرانِ تسكنُها مخلوقاتٌ كالجنِّ، أو كائناتٌ مُخْتَلَقَـةٌ كالأرواحِ الشريرةِ والأشباحِ. والـمُلاحَظُ فيها أنَّ جميعَها تُروى نقلاً عن فلانٍ أو فلانة، وقلَّما يكونُ الراوي طرفاً قد عاشَ إحداها، فينقلُ إلى الناسِ خبراتِـهِ ومشاهداتِـهِ. وبالطبعِ، فإنَّ الحديثَ في هذا الجانبِ ممتعٌ يجذبُ الناسَ لسماعِـهِ كنوعٍ منَ الرغبةِ في الخوفِ أو زيادةِ نسبتِـهِ في النفسِ بالتطرُّقِ لأشياء لا يمكنُ التعاملُ معها بالعقلِ والـمنطقِ، وتوحي بالشرِّ الـمُطْـلَقِ الذي لا تحكمُهُ مشاعرُ الرحمةِ. والبعضُ يلجأونَ إليه كنوعٍ منَ الهروبِ من واقعٍ مريرٍ يضغطُ عليهم ولا يستطيعونَ مواجهتَهُ، فينشغلونَ بعوالمَ مجهولةٍ تعيشُ فيها كائناتٌ لا تخضعُ للقوانينِ الطبيعيةِ، ويتمنونَ لو تواصلوا معها وأخضعوها لتفعلَ لهم أموراً كالخوارقِ والـمعجزاتِ، وبذلك تنشأ الشعوذةُ وينشطُ الـمُشَعْوِذونَ في استغلالِ سعي الناسِ لتحقيقِ أمنياتِهِم.

على سبيلِ الـمثالِ، في إحدى الـمناطقِ يوجدُ بيتٌ معروفٌ لكثيرينَ باسمِ مُستأجرِهِ، يجتمعُ فيه رجالٌ وشبابٌ في ليالٍ بعينِها، فيعلو قَـرْعُ الطبولِ، ورنينُ الصَّاجاتِ، والغناءُ، حتى منتصفِ الليلِ. ويروي الناسُ عنه أموراً تُخيفُ الأقلَّ وعياً وتعليماً وثقافةً، كإقامةِ حفلاتِ الزَّارِ، وحلولِ الجنِّ في أجسادِ بعضِ الحاضرينَ الذينَ يأخذونَ بالصُّراخِ الهستيريِّ وهم يتواثبونَ راقصينَ بجنونٍ، أو يتمرغونَ بالأرضِ كالـممسوسينَ. وذات يومٍ، كنتُ أقفُ مع صديقٍ لي في شارعٍ داخليٍّ قريبٍ إلى هذا البيتِ، فمرَّ بنا رجلٌ كهلٌ طويلُ القامةِ، نحيفٌ، يرتدي ثوباً لم يُكْـوَ منذُ أيامٍ، وينتعلُ نعالاً بلاستيكياً، وهو يدخنُ لفافةَ تبغٍ بشراهةٍ. وإذ بصديقي يقول لي إنَّ الرجلَ هو مستأجِـرُ البيتِ، وإنَّهُ معروفٌ بعلاقاتِهِ بالعالمِ السفليِّ. فنظرتُ إلى هذا الشخصِ الذي يعتقدُ الناسُ بقدراتِـهِ على التواصلِ معَ الجنِّ والسيطرةِ عليهم، فرأيتُ فيه شخصاً أقلَّ منْ عاديٍّ، ومنَ الأشخاصِ الذين لا نتذكرهم إلا إذا رأيناهم، وننساهم بمجردِ ذهابِـهِم. وتذكرتُ ما رواه ستراوس، ووصلتُ إلى نتيجةٍ تقولُ إنَّ ما نقبلُ به بإرادتِنا هو الذي يصنعُ قوةَ الـمُشَعْوِذينَ التي يهيمنونَ بها علينا.

في دينِنا الحنيفِ، لا وجودَ لهؤلاءِ الـمُشَعْوِذينَ، ولا لأكاذيبِ السَّحَـرَةِ. بل إنَّ الـمصطفى، ص، أخبرنا بأنَّ قراءةَ الـمُعَوِّذَتَينِ والدعاءَ كافيانِ لتحصينِنا منْ كلِّ الشرورِ، لكنَّ بعضَنا يجعلونَ للهِ شركاءَ فيصدقونَ أنَّهم قادرونَ على التحكُّمِ في مصيرِ إنسانٍ، والسيطرةِ على إراداتِ الآخرينَ. وهذا، بالطبعِ، جانبٌ مُهْمَلٌ جزئياً في البحوثِ والدراساتِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ، ولا يجدُ توعيةً دينيةً وعلميةً مُختصةً لإزالتِهِ منَ العقلِ الجمعيِّ.

كلمةٌ أخيرةٌ:

لو كانَ هؤلاءِ الـمُشَعْوِذونَ صادقينَ، لَكانَ منَ الواجبِ على الدولِ التوقُّفُ عن تطويرِ السلاحِ، وإعدادِ الجيوشِ، وأنْ تستعينَ بهم، فتوفِّـرَ موازناتٍ ضخمةً للتنميةِ والإعمارِ.

مساحة إعلانية