رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
انتفضت محافظة قفصة الواقعة على بعد 400 كيلو متر جنوب غرب العاصمة تونس، من جديد، حيث أعلن المكتب التنفيذي الجهوي (المناطقي) لاتحاد الشغل إضراباً عاماً يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2013، وليوم واحد احتجاجا على استثناء مدينة قفصة من مشاريع صحية جديدة أعلنتها الحكومة في قرار المجلس الوزاري ليوم 21 نوفمبر 2013 القاضي بإحداث عدد من كليات الطب ببعض الجهات واستثناء منطقة قفصة. فخرج نحو ألفي متظاهر تجمعوا أمام مقر حزب النهضة الحاكم وأضرموا فيه النار، كما ألقوا بمحتوياته في الشارع وأحرقوها، وكانت الشرطة أطلقت صباحا قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق عشرات من المتظاهرين اقتحموا مقر الولاية، وتجمع نحو ستة آلاف متظاهر أمام المقر مرددين هتافات معادية للحكومة مثل «الشعب يريد إسقاط النظام».
ويأتي هذا الإضراب العام في مدينة قفصة للرد على سياسة التهميش والإقصاء، التي تعاني منها المحافظة، رغم أنها تدر آلاف المليارات من عائدات الفوسفات على المجموعة الوطنية منذ الاستقلال ولم يجن أبناؤها من ذلك إلا التلوث البيئي والأمراض المستعصية، ومن أجل مطالبة الحكومة بإعطاء هذه المحافظة الأهمية القصوى لتحسين الوضع الصحي في جميع معتمدياتها لما آل إليه القطاع من تدهور انعكس سلبا على صحة سكانها، من جراء التلوث البيئي الناجم عن استخراج الفوسفات، والتأكيد على حق هذه المحافظة في إقامة مشاريع تنموية على أراضيها، وحل معضلة البطالة المزمنة لأبنائها، وإخراجها من دائرة التهميش.
لم يتغير شيء في وضع محافظة قفصة بعد الثورة، علماً بأنها كانت المحافظة السباقة التي اندلعت فيها انتفاضة شعبية كبيرة في عام 2008 في عهد الديكتاتورية، سميت بانتفاضة الحوض المنجمي، والتي شكلت الخميرة الحقيقية للثورة في نهاية 2010 وبداية عام 2011.فانتفض سكان هذا المعقل العمالي، الذي غالباً ما كان متمرداً ضد النظام الديكتاتوري السابق في انتفاضة شعبية متماسكة ساخطة وفخورة، في مواجهة إستراتيجية السلطة القائمة على الحصار والتنكيل البوليسي. وفي عهد الاستعمار الفرنسي، جرت أعمال استخراج الثروات الجوفية (الفوسفات) هنا وفق الطريقة النموذجية للأنماط الاستعمارية: مصادرة الأراضي عبر استملاكها بالقوّة من السكان المحليين؛ استغلال الموارد الطبيعية بشكل مكثّف؛ استخراج المواد عبر استنزاف حياة الناس وإنتاج الكثير من النفايات الملوّثة؛ علاقات عمل وسلطة مستندة على التحالفات الزبائنية، والعصبيات القبلية والعائلية.
في عهد الديكتاتورية تتمّ إدارة الخمسة آلاف وظيفة هذه في شركة فوسفات قفصة، إضافةً إلى الأموال المخصّصة للتكييف، بالتعاون الوثيق مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وحزب (التجمع الدستوري الديمقراطي) الحاكم سابقاً، من أجل المحافظة على الاستقرار في هذه المنطقة الجنوبية المحرومة من كل مشاريع التنمية الحقيقة، بفضل عمليّات توزيع، وإن شحيحة، لجزء من الأرباح الضخمة التي تعطيها صناعة الفوسفات، وذلك وفق توازنات دقيقة قبليّة وأسريّة يضمنها القادة المحليّون في النقابة المركزية والحزب الحاكم «التجمّع الدستوري الديمقراطي ».وها هم سكان قفصة ينتفضون من جديد في عهد حكم الإخوان المسلمين، بسبب استمرار السياسة عينها من التهميش والإقصاء.
كما شهدت محافظة قابس في جنوب شرق تونس إضراباً عاماً ليوم واحد (الأربعاء 27 نوفمبر 2013)، شاركت فيه النقابات والأحزاب بما في ذلك عناصر من «النهضة». وطالب الأهالي بالتصدي للبطالة والفقر والتهميش وإنشاء كلية طب ومستشفى جامعي في المحافظة. علماً بأن الحكومة التي تقودها حركة النهضة الإسلامية، أعلنت الأسبوع الماضي، عن مشاريع تتعلق بإحداث ثلاث كليات للطب في محافظات الكاف (شمال غرب تونس) وسيدي بوزيد (وسط غربها)، ومدنين (جنوبها) وكلية لطب الأسنان في القصرين (وسط غربها) وكلية صيدلة في جندوبة (شمال غربها). وكنتيجة لسياسة التهميش هذه أغلقت كل الإدارات والمحال التجارية في مدينة قابس باستثناء بعض الصيدليات والمخابز، وخرج آلاف من سكان المدينة في تظاهرة للتنديد بـ«حرمان» المنطقة كلية للطب، مع العلم بأن الأمراض السرطانية تنتشر فيها من جراء التلوث الناتج من «المجمع الكيميائي» الذي تملكه الدولة. وسار المشاركون في التظاهرة التي انطلقت من أمام المقر الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل، نحو 15 كيلو مترا رافعين لافتات تندد بـ"قرار الحكومة الجائر (الذي) حرم قابس كلية الطب".
وفي حركة رمزية؛ وضع المتظاهرون حجر الأساس لكلية الطب على قطعة أرض خصصتها البلدية لهذا المشروع منذ 2004.
وشهدت محافظة سليانة، شمال غرب تونس، إضراباً عاماً شمل أغلب القطاعات والمنشآت العامة والخاصة، يوم الأربعاء 27نوفمبر، حيث شارك نحو 4000 من سكان المدينة في تظاهرة رددوا خلالها هتافات معادية لحركة النهضة الإسلامية الحاكمة، ولرئيس الوزراء علي العريض الذي قمع، عندما كان العام الماضي وزيرا للداخلية، الاحتجاجات الشعبية في سليانة. ويأتي الإضراب العام لإحياء ذكرى مرور سنة على قمع قوى الأمن احتجاجات شعبية عارمة في نهاية شهر نوفمبر 2012، أصيب خلالها أكثر من 300 شخص برصاص (الرش) المخصص لصيد الحيوانات، أثناء اشتباكات مع قوات مكافحة الشغب، وطالب المتظاهرون بملاحقة من تسبب بإصابة أبناء الجهة برصاص الرش الذي أفقد عدداً منهم البصر.
ويحمل الأهالي رئيس الوزراء علي العريض الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك مسؤولية ما حدث لأبنائهم، ويطالبون بمحاسبته، ورشق عشرات المتظاهرين بالحجارة سيارات قوى الأمن ورجال الأمن الذين منعوهم من الاقتراب من مديرية الحرس الوطني، فردت عليهم الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع. وتبادل المتظاهرون ورجال الأمن التراشق بالحجارة، فيما كانت سيارات الشرطة طاردت المتظاهرين في شوارع المدينة لتفريقهم، وقام المتظاهرون بقطع الطريق الرئيسي في المدينة بالحجارة والقضبان الحديد والإطارات التي أضرموا فيها. وكانت وزارة الداخلية التونسية أعلنت في بيان يوم الخميس 28 نوفمبر 2013، عن «إصابة أكثر من خمسين من عناصرها بينهم إصابتان خطرتان»، خلال التظاهرة التي شهدتها محافظة سليانة وسط البلاد، احتجاجاً على غياب التنمية وفرص العمل للشباب.
لا تزال تونس تعاني من أزمة سياسية خانقة تعززت بتعطل الحوار الوطني، وطول مرحلة الانتقال الديمقراطي أكثر من اللزوم، وعدم إنجاز الدستور الديمقراطي، وتعطل عمل الحكومة رغم عدم التصريح بذلك رسمياً، وتدهور الوضع الأمني.
وترافق مع هذه الأزمة السياسية، وتنامي الإرهاب في تونس، وجود أزمة اقتصادية واجتماعية تزداد حدة في كل يوم بسبب غلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع نسبة البطالة. فالاقتصاد التونسي مرتبط عضويا بالاقتصاد في بلدان الاتحاد الأوروبي، ولاسيَّما فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وإسبانيا، باعتبارهم الشركاء الاقتصاديين الأوائل، إذ تعاني هذه البلدان من نسبة نمو منخفضة، الأمر الذي يؤثر على الصادرات التونسية والسياحة في اتجاه تونس إضافة إلى التأثير السلبي على تحويلات التونسيين في الخارج. ويجمع الخبراء التونسيون في المجال الاقتصادي أن الأزمة الاقتصادية في الداخل، وانعكاس الأزمة الاقتصادية العالمية على الوضع في تونس، أديا إلى تراجع الاستثمار بصفة عامة الداخلي والخارجي الخاص والعام رغم التحسن الطفيف الذي سجله الاستثمار الأجنبي المباشر مقارنة بالسنة الماضية والشيء نفسه على مستوى الاستهلاك فقد تراجع نتيجة تدهور المقدرة الشرائية، إضافة إلى ارتفاع معدل البطالة الذي وصل إلى نسبة 19 في المئة، وهي بطالة نوعية بحكم أن أكثر من ثلث العاطلين هم خريجو الجامعة، ومعدل التضخم رغم تراجعه النسبي مقارنة بالسنة الماضية.وإذا اقترنت البطالة مع التضخم فهما من سمات الركود الاقتصادي وهي أسوأ الوضعيات الاقتصادية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في عالم اليوم المتسارع، أصبحت المعرفة المالية ليست مجرد مهارة إضافية، بل ضرورة تمس حياة كل فرد وإذا كان العالم بأسره يتجه نحو تنويع اقتصادي يخفف من الاعتماد على مصدر واحد للدخل، فإن قطر – بما تمتلكه من رؤية استراتيجية – تدرك أن الاستدامة الاقتصادية تبدأ من المدارس القطرية ومن وعي الطلاب القطريين. هنا، يتحول التعليم من أداة محلية إلى بوابة عالمية، ويصبح الوعي المالي وسيلة لإلغاء الحدود الفكرية وبناء أجيال قادرة على محاكاة العالم لا الاكتفاء بالمحلية. التعليم المالي كاستثمار في الاستدامة الاقتصادية القطرية: عندما يتعلم الطالب القطري إدارة أمواله، فهو لا يضمن استقراره الشخصي فقط، بل يساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني. فالوعي المالي يساهم في تقليل الديون وزيادة الادخار والاستثمار. لذا فإن إدماج هذا التعليم يجعل من الطالب القطري مواطنا عالمي التفكير، مشاركا في الاقتصاد العالمي وقادرا على دعم قطر لتنويع الاقتصاد. كيف يمكن دمج الثقافة المالية في المناهج القطرية؟ لكي لا يبقى الوعي المالي مجرد شعار، يجب أن يكون إدماجه في التعليم واقعًا ملموسًا ومحاكيًا للعالمية ومن المقترحات: للمدارس القطرية: • حصص مبسطة تدرّب الطلاب على إدارة المصروف الشخصي والميزانية الصغيرة. • محاكاة «المتجر الافتراضي القطري» أو «المحفظة الاستثمارية المدرسية». للجامعات القطرية: • مقررات إلزامية في «الإدارة المالية الشخصية» و»مبادئ الاستثمار». • منصات محاكاة للتداول بالأسهم والعملات الافتراضية، تجعل الطالب يعيش تجربة عالمية من داخل قاعة قطرية. • مسابقات ريادة الأعمال التي تدمج بين الفكر الاقتصادي والابتكار، وتبني «وعيًا قطريًا عالميًا» في آن واحد. من التجارب الدولية الملهمة: - تجربة الولايات المتحدة الأمريكية: تطبيق إلزامي للتعليم المالي في بعض الولايات أدى إلى انخفاض الديون الطلابية بنسبة 15%. تجربة سنغافورة: دمجت الوعي المالي منذ الابتدائية عبر مناهج عملية تحاكي الأسواق المصغرة - تجربة المملكة المتحدة: إدراج التربية المالية إلزاميًا في الثانوية منذ 2014، ورفع مستوى إدارة الميزانيات الشخصية للطلاب بنسبة 60%. تجربة استراليا من خلال مبادرة (MONEY SMART) حسنت وعي الطلاب المالي بنسبة 35%. هذه النماذج تبيّن أن قطر قادرة على أن تكون رائدة عربيًا إذا نقلت التجارب العالمية إلى المدارس القطرية وصياغتها بما يناسب الوعي القطري المرتبط بهوية عالمية. ختاما.. المعرفة المالية في المناهج القطرية ليست مجرد خطوة تعليمية، بل خيار استراتيجي يفتح أبواب الاستدامة الاقتصادية ويصنع وعيًا مجتمعيًا يتجاوز حدود الجغرافيا، قطر اليوم تملك فرصة لتقود المنطقة في هذا المجال عبر تعليم مالي حديث، يحاكي التجارب العالمية، ويجعل من الطالب القطري أنموذجًا لمواطن عالمي التفكير، محلي الجذور، عالمي الأفق فالعالمية تبدأ من إلغاء الحدود الفكرية، ومن إدراك أن التعليم ليس فقط للحاضر، بل لصناعة مستقبل اقتصادي مستدام.
2289
| 22 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
2238
| 25 سبتمبر 2025
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
1713
| 26 سبتمبر 2025