رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أولاً- الفرد منتظم في أسرة ومجتمع
إن هذه الفلسفة على بساطتها ليست موجودة في الغرب، والأسرة عندهم أمر ثانوي، فمن السهل أن يعيش الفرد وحده، بعيداً عن أسرته التي نشأ فيها، لأن أهداف الدولة تدور حول رفاهية الفرد كفرد.
أما في حضارتنا الإسلامية فللأسرة أهمية كبيرة، لأنها اللبنة الأساسية التي يقوم عليها بناء المجتمع، ولأنها تحقق المطالب النفسية والجسدية للفرد باعتدال، والأسرة بالنسبة للمسلم هي الطريق الشرعي لإبقاء العنصر البشري، وحفظ الأنساب من الاختلاط، وهي كذلك مركز لتدريب الفرد على تحمل المسؤوليات في الحياة.
- التفكك الأسري في الغرب
نعني بالتفكك الأسري مجموع المشكلات والأزمات التي تستولي على الأسرة وتعصف بها، مما يؤدي إلى تمزقها، وتشتت شملها، وتشجع الأفراد على أن يعيشوا منفصلين عن الأسرة الحاضنة، ومما لا شكّ فيه أن الأُسَر المتفككة تؤدي إلى تفكك المجتمع، وإذا تفكك المجتمع أوشكت الحضارة على الانهيار والاندثار، كما هو الحال في الغرب الآن، الذي بدأت أُسَرَه بالانهيار، وظهرت فيه انحرافات أسرية يصعب على العاقل أن يتصورها، فعندهم أسر عشاق، يعيشون مع بعضهم بلا زواج شرعي، ولديهم زواج المثلين، وانتشر بينهم زنا المحارم، ومن المضحك المبكي أن رجلاً في ولاية فلوريدا تقدم للمحكمة بطلب إقرار زواجه من فرس، لكن المحكمة رفضتها ولم تُجزها، لذا بدأ المفكرون والعقلاء في الغرب يحذرون من فكرة موت الغرب، وانهيار المجتمع، بسبب موت الأسر وانهيارها وتفككها.
- التكافل الأسري في الإسلام
قارنوا الحضارة الغربية بحضارة الإسلام، التي وازنت بين الفردية والجماعية، ومن الأمثلة التي توضح هذا المقوّم، ما يسمى في الفقه الإسلامي بـ " العاقلة "، وهي كلمة تطلق على الأقارب الذكور خاصة من الدرجة الأولى، الذين يستطيعون المساهمة بشيء من أموالهم، لدفع الدية الشرعية، في حال قَتَلَ أحدُ أقاربهم إنساناً عن طريق الخطأ، وعجز عن دفع الدية، أو لم يكف المال الذي يملكه، ففي حال عفا أهل المقتول، وحتى لا يقتل عن الجاني، تصبح الدية واجبة على العاقلة (الأقارب)، لأن القاتل فرد يعيش ضمن منظومة اسمها أسرة ممتدة، فليس على الشرطة والأمن فقط ضبط الفرد، بل أيضاً الأسرة والأقارب، أما في الغرب فالفرد فرد، له تقديره وكفلت القوانين الكثير من حقوقه، لكن تلك القوانين تدور حول الفرد فقط.
ثانياً- المجتمع الذي لا يطغى على الفرد
أقر الإسلام للفرد حقوقاً كثيرة، واحترم خصوصيته وكفل حقه في الحرية والتعبير عن رأيه، فلسنا الحضارة الشيوعية التي ألغت حق الفرد في التملك، ولسنا الاشتراكية التي لا تقدّر جهد الفرد وبذله، فرفعت شعار " مِنْ كلٍ حسب طاقته، ولكلٍ حسب حاجته " بمعنى يبذل كل فرد ما يستطيع من جهد، ويتم توزيع نتائج هذا الجهد – لا بالعدل- وإنما حسب حاجة كل فرد.
ولقد اعترف الغرب بروعة الإسلام في هذا الجانب، وشهد بذلك بعض مفكريهم وعقلائهم أمثال الدكتور " هارولد ب. سميث " نائب رئيس قسم الديانات بكلية (ووستر)، بولاية أوهايو، الذي يقول " يعد الفرد في الإسلام مهمًا، لأنه وحدة من القوة الأخلاقية وفي العرف الإسلامي تصور آخر يتعلق بالفرد في الجماعة ويمنح الناس وسيلة للترابط، وإحساسًا بالاتحاد لا يوجد أحيانًا في التصورات الغربية الحديثة للإنسان ".
الحقوق الأساسية للفرد في الإسلام
(1) حق الحياة وحرمة التعذيب والاسترقاق والإكراه، قارنوا هذا الحق بما يجري في دولنا الاستبدادية، من مآسٍ تُرتكب بحق الشعوب، ومن رفع صوته بالإنكار فمصيره السجن والإذلال أو القتل وإزهاق روحه.
(2) حق الحرية، والإسلام يمنع سجن الناس بمجرد الظن أو الاشتباه، كما يمنع الإيقاف التعسفي للفرد، هذا في الإسلام، أما في دولنا الاستبدادية، فالإنسان لديهم متهم حتى تثبت براءته، وربما يمكث فترة طويلة في السجن لأنه مشتبه به، وأعرف من سُجن في " ليبيا " (17) سنة على ذمة التحقيق، وبعد ذلك ثبتت براءته.
(3) حق التقاضي، بأن يوجد قضاء نزيه ومستقل، لا كما هو الحال في دولنا الاستبدادية، حيث يُشترى القضاة ويُباعون، ويقع بعضهم تحت تهديدات وضغوطات، تجعله ينحاز للباطل ويحكم لصالحه، ومن حقه كذلك أن يبتّ بسرعة في القضايا التي يتقدم بها، وألا تُنسى وتُوضع في الأدراج، ومن حقه كذلك أن يدافع عن نفسه فيما يوجّه إليه من اتهامات.
(4) الحق في تبني الفكر، واختيار الديانة وحرية الاعتقاد، فلا يجوز أن يُكره على ترك دينه، واعتناق دين آخر، قال تعالى "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة/256 ).
(5) الحق في النقد والتعبير عن رأيه، والبحث عن الأفكار والآراء، ومن حقه كذلك الحصول على المعلومات التي يحتاجها.
(6) الحق في حفظ كرامته حياً وميتاً، في حضرته وغيبته، وأن يُحترم فلا يهان، وحتى إن مات دُفن بكرامة وإنسانية، وحقه في الكرامة المعيشية ونيل الرعاية الصحية الملائمة.
(7) الحق في التنقل وحرية الحركة والسفر بلا قيود، فلا يمنع من السفر بسبب انتمائه الفكري أو رأيه السياسي، ولا يُحجر عليه أو تقيّد حركته بسبب نقده أو التعبير عن رأيه.
(8) الحق في التجمع والتظاهر السلمي، وتكوين النقابات والتجمعات المهنية، أضف إليها الحقوق السياسية مثل حقّ الترشح والانتخاب واختيار من يمثله وينوب عنه، وحقه في تنصيب الحاكم وعزله.
(9) الحق في الوظيفة وممارسة العمل، وتقاضي الأجر العادل، وألا يُحرم أو يُعزل من وظيفته لسبب سياسي أو سبب طائفي، وحقه كذلك في الزواج وتكوين أسرة.
(10) حقه في الثقافة والعلم والتعلم، وأن يذهب إلى المدرسة، وإن كان فقيراً معدماً، وهذه الحقوق يجب على الدولة أن توفرها، وواجب عليها كذلك أن تصونها وتحميها.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6495
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2697
| 28 أكتوبر 2025
