رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تؤلمني هذه الحكاية التي لا تريد فصولها أن تتوقف ويقوم بروايتها يوميا بشار الأسد وأركان حكمه. ليس اعتمادا على لسانه. كما يفعل الرواة في ليلات العرب القمرية وإنما يستخدم يده الباطشة في قسوة شديدة الإفراط تنزل على الأجساد فتمزقها والأرواح تنتهك حرمتها فتثكل أمهات وتترمل زوجات ويفقد أبناء وبنات آباءهم الذين يبدون اعتراضا على البطش ويطلبون العودة إلى ضوء القمر ولكن يبدو أنه بات يخاصم الشام فلم يعد يرغب في معانقة لياليها وقرر مغادرة أفقها الذي كان يمتلك القدرة على احتواء الجميع.
إنها حكاية قتل يومي ممنهج. لا يفتر بشار وزبانيته عن روايتها بالدم على رؤوس الأشهاد. مفتونا بنفسه وبجنده متناسيا أن ثمة من هو أقوى منه ولديه جنود لا يراها. قادر كما فعل في وقائع قريبة للغاية أن يشل حركته وينهي نظامه. ولعل الله سبحانه وتعالى يمنحه الفرصة تلو الفرصة. لكنه لا يريد أن يقتنصها. يعلن تحديه لكل هذه الفرص.
من الذي يصور له الأمر بحسبانه إرهابا ضده ومؤامرة خارجية تسعى للنيل من سوريا دولة المقاومة والممانعة؟ في حين أنها لم تعد كذلك بل إن جيشها الذي كان يمثل الاحتياطي الاستراتيجي للأمة في المواجهة المرتقبة مع الكيان الصهيوني وقبل ذلك الوسيلة الوحيدة لتحرير الجولان المحتلة منذ يونيو 1967. بات موجها لصدور النساء والصبايا والشباب والرجال الثائرين المطالبين بالحرية معتمدين المنهجية السلمية بعيدا عن العنف.
هل أصبح مغيبا بعيدا عن القرار الذي لا يمتلكه إلا المجموعة الأمنية المحيطة به؟
أنه ينفي إصداره أوامر بالقتل بينما وليد المعلم يقول إن حكومته من حقها أن تواجه الإرهابيين وفق وصفه للثوار وذلك يعني اعترافا صريحا بممارسة القتل وهو قتل للأسف بات قريبا من أساليب العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني. بينما رصاصات الجيش السوري لم توجه أبدا إلى هذا العدو في الجولان منذ أكثر من 45 عاما فلماذا تكون الجيوش العربية قادرة وقوية وصلبة المراس مع شعوبها بينما يخفت صوتها مع العدو الحقيقي هي مأساة أو ملهاة بكل تأكيد.
بشار يقتل شعبه ولا أعلم كيف ينام مسكونا ضميره بالارتياح؟
إن شرعية الحاكم لا يمكن أن تتكئ على البندقية أو الدبابة أو المدرعة أو حاملة الجنود وإنما تستند على مقوم واحد فقط هو الرضا أو القبول العام به ويبدو أنه لا يوجد أحد من المحيطين ببشار يطلعه على حقائق ما يجري وأن مئات الألوف في محافظات سوريا تطالبه بالرحيل بعد أن سئمت حكمه القائم على القهر والاستبداد والدم وإن كنت استبعد ذلك فبشار من الجيل الجديد ويجيد التعامل مع وسائل التقنية الحديثة من إنترنت وغيرها وهو ما يهيئ له الاطلاع على ما تبثه لوقائع الدم المسفوك يوميا في سوريا.
ألا تتحرك فيه مشاعر إنسانية قد تجتاحه بحكم دراسته للطب والذي من المفترض أن يضفي على المرء قدرا من الرحمة ولا نطالب أن يكون ملاكا للرحمة حسب ما كان يوصف به الطبيب قديما؟
لا أظن فمن يتابع حالات القتل والاغتيال والاختطاف والاعتقال والزج في السجون السرية بالآلاف يتيقن أنه بات مجردا من أي مشاعر ولعل المرء عندما يقرأ وجهه وهو يلقي خطابا أو يخرج للقاء من تعدهم له الأجهزة الأمنية القوية القبضة في العاصمة دمشق يدرك جيدا هذه المسافة الشديدة الاتساع بينه وبين الرحمة والمشاعر والعطف والدفء الإنساني سقطت كلها مع أول رصاصة وجهها جندي أو شبيحة ضد مواطن صرخ مطالبا بالحرية بعد عقود من الصمت والصبر والمثابرة والسكوت المفروض قسرا.
ثمة حرص عربي واضح على التعامل مع الأزمة التي صنعها بشار وأركان حكمه من منطلق قومي يحول دون العامل الدولي الذي يقود بالضرورة إلى التدخل العسكري وقدم النظام الإقليمي العربي الذي تجسده الجامعة العربية أكثر من مبادرة وتصور وخطة عمل كان آخرها قبل أيام فيما يعرف بالمبادرة السياسية التي تسعى إلى تطبيق النموذج اليمني الذي يقود إلى تغيير أمن وسلمي في السلطة ووفق الآليات الديمقراطية المتعارف عليها لكن نظام سارع إلى الرفض وطلب وزير خارجيته وليد المعلم العرب بأن يذهبوا إلى نيويورك أو القمر ويبدو أنهم فضلوا الذهاب إلى نيويورك وتركوا القمر الذي يبدو أنه غادرنا إلى كون آخر وبشر مختلفين.
وأظن أن هذه المبادرة السياسية هي آخر ما تحمله جعبة النظام الإقليمي العربية بعد أن استنفذ كل المبادرات التي قبلها نظام بشار ثم التف حولها وسعى إلى تجييرها لصالح بقائه مثلما فعل مع بعثة المراقبين العرب الذين انتشروا في أكثر من عشرين مدينة سوريا لكن فيضان القتل لم يتوقف وهو ما دعا دول الخليج الست إلى سحب مراقبيها حتى لا تكون شهود زور على قتل النظام لشعبه حسب التعبير الذي استخدمه سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مداخلته الصريحة أمام وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير بالقاهرة.
ما الذي يدفع بشار إلى رفض كل ما هو عربي لإنقاذ وطن وشعب يتعرض لما يمكن وصفه بالإبادة؟
أول هذه العوامل تكمن في سوء تقدير موقف لأركان نظامه استنادا على ما يمتلكه من مقومات قوة منية وعسكرية وهي لن تبقى للأبد وقابلة للزوال أو التلاشي في أي لحظة وثانيها الموقف الروسي المتحيز له لأسباب تتعلق بحالة الاستقطاب الدولي ولكنه سرعان ما يمكن أن يتخلى عنه لو حصل على الثمن وثالثها ربما يكمن فيما يعتقد أنه تناقضات في المواقف العربية تجاه أزمة بلاده وبعضها يرتبط بعوامل مذهبية وطائفية ورابعها تحليلات يقدمها البعض ربما من قبيل أن الدول الغربية الكبرى التي تمتلك القدرة على الخيار العسكري غير راغبة في اللجوء إليه تحت زعم أن سوريا لا تمتلك فاتورة التدخل فهي دولة ليست نفطية مثل ليبيا أو رغبة في حماية الكيان الصهيوني من تداعيات أي تدخل عسكري قد تتجسد في تعريض أمنها لمخاطر إقليمية.
وذلك قد يكون صحيحا إلى حد كبير ولكن ترديد مثل هذه الطروحات بكثافة في الآونة الأخيرة قد يكون من مقام التوريط مثلما حدث مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مما دفعه إلى غزو الكويت في الأول من أغسطس من العام 1990 فدفع النظام الإقليمي العربي: حكومات وشعوبا. فاتورة باهظة الثمن من جراء هذه القابلية للتورط فيما لا تحمد عقباه.
إن بشار لا يتوقف عند حد ويزداد ولعه بلعبة القتل ضد شعبه ويرفض النصيحة معتقدا أنه مختلف ومغاير عن غيره من زعماء سقطوا من قبل يبدو لي أنه يصدق هذا الوهم العبث الزيف. إنها يا سيدي حتمية تاريخية بديهية تحققت ملايين المرات وكان آخرها قبل أشهر في تونس ومصر وليبيا مؤداها: أن من يقتل شعبه يتحول إلى عمل غير صالح بوضوح أشد عمل فاسد. لا تجدي معه محاولات تصحيح المسار أو تقديم النصح أو طرح المبادرات السياسية ومن ثم فإن الشعب السوري وحده المهيأ لتغيير المعادلة عبر ثورته السلمية غير أن ذلك مرهون بتوحيده قواه الحية بعيدا عن الاستقطاب الداخلي أو الإقليمي أو الدولي.
صحيح قد يطول الأمد لكن الحتمية التاريخية تؤكد أيضا أن الشعوب هي من تحقق الربح وغيرها من الحكام القتلة من يقذف بهم التاريخ إلى أحط مواضعه فهل يستوعب بشار والذي يزعم أنه قارئ جيد للتاريخ وكثيرا ما كان يقدم مواعظه لحكام عرب أقدم منه سنا وأكثر خبرة هذه الحقائق لعل وعسى حتى لا تسقط سوريا الوطن الجميل والشعب الصابر في براثن تدخل عسكري لن يكون بمقدور روسيا أو غيرها أن تحمي نظامه من التحلل.
السطر الأخير:
أجيبي دعوة الروح
دثريني بأثوابك الحبلى بالعشق
دعيني أتمدد بحقولك
أتصبب عرقا في جداولك
أستميحك عذرا أيا فاتنتي
لم أكتب القصيد إلا لعينيك
امنحيني البشارة
هيئيني للدوران بمناراتك
صبي زيتك الفضي
على بقاياي المنهارة
فأستعيد سيرتي الأولى
يسكنني بهاؤك والنضارة
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5049
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3675
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في دولة قطر، الخاص بمكافحة المنشطات في المجال الرياضي، تحولًا مفصليًا في مسار التشريع الرياضي العربي. فالقانون لا يقتصر على تحديد المخالفات والعقوبات، بل يؤسس لفلسفة جديدة قوامها الإنسان، بوصفه غاية الرياضة قبل أن يكون وسيلة للإنجاز. هذا التوجه التشريعي يعكس نضجًا مؤسساتيًا يربط بين الطب والقانون والأخلاق، في محاولة لصياغة مفهوم حديث للنزاهة الرياضية داخل بيئة تتسارع فيها التطورات العلمية والتقنيات الطبية. على الصعيد العلمي والطبي، يُدرك المشرّع أن قضية المنشطات ليست مجرد مخالفة قانونية، بل قضية صحة عامة تمس توازن الجسد الإنساني. فالمواد المحظورة، مهما كان أثرها في تحسين الأداء، تُحدث اضطرابًا فسيولوجيًا وتشوه المسار الطبيعي للقدرة البدنية. ومن ثم، فإن تشجيع الرياضي على الاعتماد على جسده لا على العقار يُعبّر عن احترام للعلم في جوهره، لأن الطب وعلوم الحياة وُجدت لفهم الطبيعة البشرية وصونها لا لتجاوزها. وهكذا يرسخ القانون مفهوم "الطب الأخلاقي” الذي يوازن بين العلاج والحماية من الانحراف الدوائي. وإذا كان الجانب العلمي قد كشف خطورة المنشطات على الجسد، فإن الجانب القانوني يسعى لضبط مسؤوليات المنظومة بأكملها. فالقانون ينقل عبء المسؤولية من الفرد الرياضي إلى الهيئات والمدربين والمختبرات والإدارات التنظيمية. وهذا تطور مهم، لأن التجارب العالمية أثبتت أن الرياضي ليس دائمًا الجاني، بل قد يكون ضحية نظام يضغط نحو الفوز بأي ثمن. لذلك يتبنى التشريع القطري فلسفة المسؤولية المشتركة، فيتحول من أداة عقاب إلى نموذج إصلاحي متوازن يعزز الشفافية داخل المنظومة الرياضية. أما في البعد الأخلاقي والفلسفي، فيفتح القانون نقاشًا عميقًا حول معنى العدالة في الرياضة: هل العدالة مساواة شكلية أمام القانون أم حماية لجوهر الجهد الإنساني الطبيعي؟ الإجابة تميل إلى الثانية، إذ ينحاز التشريع إلى الفطرة الرياضية وإلى التنافس النزيه الذي يستمد شرعيته من الإرادة لا من الكيمياء. إن هذه الرؤية لا تُعلي من شأن العقوبة بقدر ما تُعلي من شأن القيمة، وتضع الرياضة في سياقها الأسمى: تهذيب الجسد والروح معًا. ومع ذلك، يظل التنفيذ هو التحدي الحقيقي، فمكافحة المنشطات ليست معركة قوانين بل معركة وعي وثقافة. ومن دون إدماج هذه المبادئ في المناهج التربوية والأكاديميات الرياضية، سيبقى القانون نصًا بلا روح. آخر الكلام: إن تجربة قطر تُجسد فهمًا عميقًا للرياضة كقيمة إنسانية وثقافية لا كصناعة للألقاب، وتؤسس لمرحلة عربية جديدة تجعل من الأخلاق الرياضية جزءًا من الأمن الصحي الوطني. وهكذا يصبح القانون رقم (24) لسنة 2025 أكثر من تشريع؛ إنه إعلان فلسفي عن هوية رياضية جديدة قوامها المعرفة، والإنصاف، واحترام الجسد الإنساني كأسمى معمل للطاقة والإبداع.
2796
| 21 أكتوبر 2025