رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

135

د. أحمد المحمدي

اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن

29 ديسمبر 2025 , 01:21ص

ليس أثقل على القلب من هم لا يُرى، ولا أوجع على النفس من حزن صامت، يتكرر صداه في الصدر حتى يغدو كأنه جزء من نسيج الروح.

الآلام الظاهرة قد يخففها البوح، أما الهم الدفين فيستنزف صاحبه على مهل، ينهش طمأنينته دون ضجيج، يأكل من قوَّته دون أن يترك أثراً يُرى.

والإنسان قد ينجو من الحدث، نعم، لكنه لا ينجو دائما من أثره؛ فقد تمر الواقعة، وينقضي زمنها، ويبقى ظلها جاثما في الداخل، يرافقه في يقظته، ويزاحمه في نومه، ويطلّ عليه كلما حاول أن يفرح.

ومن أعجب ما في النفس البشريَّة أنها قد تغادر الألم زمانا، ثم تعود إليه اختيارا، كأنها تستحضره بوعي أو بغير وعي، فتعيد فتح الجراح التي كادت تلتئم؛ فيتحول الماضي من ذكرى عابرة إلى عبء دائم، وتتحول الحوادث من تجارب منتهية إلى هوية نفسية مقيمة، وكأن البلاء لم يعد حدثا وقع وانقضى، بل صار تعريفا للذات، يستدعى كلما لاح أفق عافية، فيستبدل نور الحاضر بثقل الذكرى، ويقايض السلام النفسي بالاستغراق في الألم.

وهنا تتجلَّى حكمة الإسلام في تحرير الإنسان من هذا الأسر الخفيّ؛ إذ لا ينكر المشاعر، ولا يطالب بإنكار الألم، لكنه يعيد ترتيب العلاقة مع الزمن والقدر؛ فالماضي ليس سجنا للنفس والقلب، وإنما ميدان اعتبار، ومحل فقه وتعلم. قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ثم أعقب ذلك مباشرة بقوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ هذه الآيات لا تُقرِّر حقيقة عقدية فحسب، بل تؤسس منهجاً نفسيا متكاملا.

إن العلم بأن كل ما وقع قد كتب قبل أن يوجد، وأن ما أخطأ الإنسان لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، ليس ترفاً فكريا ولا تنظيراً مجرداً، بل دواء عميق لجراح القلب.

إنه قطع لدابر الأسئلة المهلكة من نوع: لماذا حدث هذا؟ ولو أني فعلت كذا لما كان كذا! تلك الأسئلة التي لا تغير واقعا، ولكنها تضاعف الألم، وتبقي النفس رهينة لحظة انتهت.

والعبودية الصادقة لا تظهر عند وقوع البلاء فحسب، بل في كيفية الفهم، وفي نوع الاستجابة، وفي المسار الذي يسلكه القلب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) هنا يضع الإسلام حدا فاصلاً بين الاعتبار المشروع، والندم الممرض.

الاعتبار ينمي الحكمة، أما الندم المتعلق بما لا يمكن تغييره فيغذي الحزن والهم. ولذلك كان هذا الدعاء النبوي العظيم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ) فالهم تعلق مؤلم بالمستقبل، والحزن استغراق مرهق في الماضي، وكلاهما يسرق الإنسان من لحظته الحاضرة. والاستعاذة منهما ليست مجرد كلمات تقال، بل إعلان افتقار، وتفويض، ووعي بأن القلب لا يحتمل وحده ثقل الأزمنة الثلاثة.

فإذا استقر هذا المعنى في النفس، تحول الدعاء إلى منهج حياة: تحرُّر من ماض يستنزف، واطمئنان تجاه مستقبل بيد الله، وحضور واع في اللحظة الراهنة.

وحينئذ يتعلم القلب أن يعيش الحاضر بسلام، لا لأنه خال من المنغصات، بل لأنه موصول بالله. فيرضى عن قضائه، ويطمئن لحكمته، ويوقن أن وراء كل منع عطاء، ووراء كل ابتلاء لطفا قد يتأخر كشفه.

وبهذا الفقه، لا يعود الماضي سيفاً مسلطا على الروح، ولا يصبح المستقبل مصدرا للفزع، بل يتحولان إلى محطتي تسليم وثقة، ويستعيد القلب عافيته شيئا فشيئا، مستعينا بالله، متوكلا عليه، راضياً به رباً ومدبراً وحكيماً.

مساحة إعلانية