رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يعد التدخل في شؤون الدول أمراً غير مشروع في العلاقات الدولية انطلاقا من صيانة مبدأ احترام سيادة الدول، غير أن الالتزام بهذا المبدأ قد تغير بعد عام 1945؛ إذ تم استحداث العديد من القواعد التي تشرع التدخل الدولي في دول أخرى أبرزها التدخل لأغراض إنسانية كحماية الأقليات. وقد شهدت المنطقة العربية، أشكالاً مختلفة من التدخل في شؤونها بدعوى حماية الأقليات وخصوصا من قبل إسرائيل.
لقد أدركت إسرائيل، خلال ما عرف بثورة الربيع العربي في سوريا وتحولها لحرب أهلية، أهمية ما يحدث في سوريا، وإمكانية تأثيره، بسبب القرب الجغرافي، على أمنها القومي، وعلى توازن القوى مع منافسيها في المنطقة كإيران وتركيا، فعملت منذ البداية على إيجاد دور لنفسها في الأحداث السورية من خلال مشاركة التحالف الدولي في الضربات العسكرية، أو من خلال تقديم نفسها كحامية للأقليات في سوريا، ولا سيما الأقليات الدرزية. ومنذ سقوط نظام الأسد، تنطلق إسرائيل في تحركاتها في سوريا بشكل يتعدى حدود التحوط الأمني الوقائي إلى التمدد. إذ تتبنى إسرائيل نهجاً عدائياً تجاه دمشق، وتؤكد عدم ثقتها بالنظام السوري الجديد الذي تعده مجرد جماعة متطرفة، وبالتالي ترفض التعاون معه وتستمر في عملياتها العسكرية في عدة مناطق سورية. وفي إطار لعبها لدور الحامي للأقليات، أعلنت إسرائيل استعدادها للدفاع عن الدروز في سوريا، لا سيما بعد أحداث الساحل التي استهدفت أفراد الطائفة العلوية.
الاهتمام الإسرائيلي بالدروز السوريين، والسعي للتأثير عليهم ليس جديدا، فمنذ بداية الأزمة السورية حرصت إسرائيل على بناء علاقات مع دروز السويداء، وعلى وجه الخصوص المجموعة التي يقودها الشيخ الهجري، الذي يرتبط بعلاقات مع المرجعية الدينية الدرزية- الإسرائيلية، ويرفض الاعتراف بشرعية الدولة الجديدة، ويسعى لإقامة إقليم درزي مستقل عن سوريا. وقد اتخذت إسرائيل أولى خطواتها العملية لإبداء التقارب مع دروز السويداء بسماحها لهم، وللمرة الأولى منذ عقود، بزيارة ضريح الشيخ أمين ظريف، الزعيم الروحي للطائفة، والالتقاء بأفراد الطائفة الدرزية في الأراضي التي تضمها إسرائيل في مارس 2025م. ووزعت إسرائيل مساعدات عليهم في جنوب سوريا. كما تعهدت بحماية أفراد الطائفة الدرزية، وعدم السماح للنظام الجديد بدخول المناطق التي يتركزون فيها، خصوصا بعد اشتباكات بين القوات السورية وسكان مدينة جرمانا التي يقطنها الدروز. إذ حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق الكثير المناطق التي تقطنها أغلبية درزية لبعث تهديد مباشر للنظام الحاكم .
وخلال الفترة من 13 - 19 من يوليو 2025، قامت إسرائيل بشن غارات جوية على عدة مدن سورية في مقدمتها مدينتا السويداء ودمشق، كرد فعل لما وصفته بالمجازر التي ارتكبت بحق دروز السويداء من قبل العشائر البدوية والنظام السوري، إذ تتمسك إسرائيل بمطلب مغادرة قوات النظام للسويداء، لا سيما بعد تعثر المباحثات الأمنية بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين في أذربيجان في 12 من نفس الشهر بسبب رفض النظام السوري الإبقاء على الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح، وإصراره على بسط نفوذ الدولة على كافة الأراضي السورية. الأمر الذي يتناقض مع الاستراتيجية التي وضعتها إسرائيل في الجنوب السوري.
يمكن القول إن الأهداف الإسرائيلية من تحركاتها الحالية في مدينة السويداء؛ تنطلق من الهدف الاستراتيجي الأكبر لإسرائيل في المنطقة، والمرتبط بما تسميه بالشرق الأوسط الجديد ومشروعها التوسعي المعروف بممر داوود، والذي بدوره يؤسس لفكرة دولة إسرائيل الكبرى. حيث يشكل الممر طريقا بريا يبدأ من الجولان المحتل، ويمر بالأراضي السورية في الجنوب كالسويداء ودرعا والقنيطرة ثم الأراضي العراقية والأردنية وصولا لإقليم كردستان العراق، وبالتالي ربط المناطق التي تحتلها إسرائيل بما يمكنها من مد نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة العربية. ولتحقيق هذا الهدف، تتمسك إسرائيل بذريعة حماية الأقلية الدرزية، وجعل السويداء منطقة أمنية منزوعة السلاح، مما يمكنها من مراقبتها باستمرار، وحرية الحركة داخلها. وبالتالي بسط نفوذها على جزء أكبر من الجنوب الغربي لسوريا بما يضمن لها وجودا طويل الأمد فيها، ويمكنها من احتلال أراضي جديدة عبر التمدد نحو درعا، والقنيطرة، وغيرهما. وتسعى إسرائيل لعرقلة بسط الدولة السورية نفوذها على كامل أراضيها، وبالتالي تجزئة الدولة السورية على أسس طائفية وإثنية وجهوية، وإعادة النظام السوري لطاولة المفاوضات بمعايير إسرائيلية. تنتزع فيها من سوريا إقرارا بالحدود الفاصلة مع إسرائيل بحسب خط فصل القوات لعام 1974م، مما يعني تخلي سوريا عن هضبة الجولان المحتلة. كما يساعدها التواجد في الجنوب السوري على إطباق الحصار على حزب الله في لبنان، وبالتالي قطع كافة الإمدادات التي دأب على الحصول عليها عبر سوريا.
ختاماً، تسعى إسرائيل لاستغلال الدروز في سوريا بما يساعدها على تحقيق اختراقات أمنية وسياسية وجغرافية في العمق السوري، مستغلة النزاعات الداخلية السورية وضعف بسط النظام السياسي الجديد في سوريا لسلطته على كافة الأراضي السورية. ومن ثم المضي قدماً نحو ما تسميه بالشرق الأوسط الجديد، ودولة إسرائيل الكبرى، بما يجعل من إسرائيل القوة الأكبر في المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
216
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
204
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
156
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025