رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

محمد إرشاد الهدوي

مساحة إعلانية

مقالات

180

محمد إرشاد الهدوي

لماذا نفهم الخيال ونتجاهل الواقع؟

27 يونيو 2025 , 05:08ص

نفهم الحزن ونبكي في الرواية. نقرأ عن موت أم لطفلها، عن سجين يعذب، عن مدينة تقصف، فنغلق الكتاب كي نتمالك دموعنا. نحزن على أبطال خياليين، ونشعر بمعاناتهم كما لو كانت معاناتنا. ولكن، حين يموت مئات الأطفال في غزة، حين تقصف المدارس والمستشفيات، وتباد العائلات، وتهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، نجد أنفسنا – نحن القراء، والمثقفون، والمشاهدون، بل حتى الساسة – عاجزين عن الفهم، عن الحزن، عن الغضب الصادق. لماذا؟ لماذا نفهم في الخيال ولا نفهم في الواقع؟.

الرواية تمنحنا مسافة. هي مساحة مؤطرة ومغلقة، يمكن أن ندخلها ونخرج منها بسلام. في الرواية، لا نخشى العجز، لأن الأبطال يقومون بالفعل نيابة عنا. أما الواقع، وخاصة الواقع الدموي كما في غزة، فهو جارح أكثر من أن يحتمل. لا يمكننا أن نغلقه، لأنه يظل مفتوحا على الشاشات وفي ضمائرنا، حتى حين نتجاهله. ولهذا نخترع آليات دفاع: نقول «المسألة المعقدة»، أو «هناك طرفان»، أو «ليست قصتي»، بينما الصور واضحة، والدماء لا تحتاج إلى ترجمة.

هل أصبحنا أكثر تعاطفا مع الخيال من الحقيقة؟ هل أصبح الحزن الأدبي بديلا عن الحزن الإنساني؟. ربما، لأن الأدب لا يطالبنا بالموقف، ولا يكلفنا شيئا. نقرأ، نحزن، نعجب، ثم نواصل حياتنا. أما غزة، فتطالبنا بما هو أثقل من الحزن: أن نكون بشرا. في كل مجزرة في غزة، تموت قصة حقيقية لن تكتب أبدا. تموت امرأة تحمل طفلها، وشاعر تحت الركام، وطفل لم يعرف بعد ما تعني الحياة. تموت صور لا تحتاج إلى حبكة، بل إلى ضمير. فهل يمكن للأدب أن يكون جدارا أخلاقيا؟. هل يمكن لثقافتنا أن تتحول من التماهي مع الضحية الخيالية إلى الوقوف مع الضحية الحقيقية؟.

لقد أصبحنا نعيش في زمن يحتاج فيه الواقع إلى خيال كي يفهم. ما يفعله الاحتلال الصهيوني في غزة من تدمير ممنهج وتجويع جماعي وقتل متعمد للمدنيين، يتجاوز كل ما تخيله الروائيون. لكن المفارقة أن كثيرا من القراء ما زالوا يجدون في الرواية مساحة للفهم، بينما الواقع لا يحرك فيهم شيئا. وربما السبب في ذلك هو أننا نخشى أن يطالبنا الواقع بأكثر من المشاعر: أن يطالبنا بالصوت، بالانحياز، بالمقاطعة، بالموقف الذي لا يحتمل الحياد.

وهنا نحن نعيش في زمن تختلط فيه الحقائق بالمجاز، ويبدو أن ضمير العالم لم يتعلم بعد أن يقرأ الواقع كما يقرأ الأدب. لكن غزة لا تنتظر روايتنا، ولا تأبه بعدد الجوائز، بل تنتظر ضميرا يصحو، وفعلا ينجز، وموقفا يقال ولو بكلمة. 

 

مساحة إعلانية