رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كان الفجر، بالكاد قد تنفس، عندما تصاعدت ألسنة اللهب، في سماء قطاع غزة، بفعل الصواريخ التي أطلقتها إسرائيل، مثل زخات الشهب، التي تسببت في احتراق الأبرياء، كاشتعال الحطب، وسط نيران الحرب، ليسقط ويتزايد على إثرها الكثير من الضحايا الضعفاء.
وفي أتون ذلك الصخب، الحارق، المخضب بلون الصهب، تتحرك أمواج تلو أخرى، من مشاعر الغضب، ويتواصل سقوط الشهداء، من الفلسطينيين الضعفاء، بين أنقاض المنازل المدمرة، وركام البيوت المحطمة، والمساكن المهشمة، التي تشهد، على ارتقاء أرواح أصحابها، إلى السماء.
أما الأحياء المكلومون، الملكومون، المقهورون، المحرومون، فأوضاعهم، تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، فلا ماء صالح للشرب يروي العطش، ولا غذاء صالح للأكل يقوي الأجساد التي أنهكها التعب والترحال، ولا وقود يسيّر الحياة، ولا كهرباء تنير الطرق وتشغل أجهزة المستشفيات، ولا كساء يستر الأجساد التي مزقتها القنابل واستهدفتها الصواريخ والمسيرات، ولا دواء يعالج الأمراض المزمنة، والمستحدثة بسبب هذا العدوان.
ولا شبكة صرف صحي، صالحة لقضاء الحاجة، ولا شعور، بالأمن والأمان، في كل زاوية، وكل مكان.
وكل يوم لهم موعد جديد، مع التهديد، والتشريد، والترهيب، والتعذيب، وأوامر النزوح، والإخلاء، إلى الخلاء.
إنها الحرب الصهيونية الغادرة، بكل أوجاعها الغائرة، التي تشنها إسرائيل على أهالي غزة، بهدف إخضاع «حماس» لشروطها، وإجبارها بالقوة العسكرية، على الإفراج عن المحتجزين لديها، وبعدها القضاء النهائي عليها.
ومع تواصل غارتها المدمرة، عبر استهدافها العشوائي المتعمد، وهجومها الوحشي المتعدد، على المدنيين الأبرياء، يتم توسيع مساحات القتل، وزيادة رقعة الموت.
هناك في غزة، الصابرة، ينشب الخوف في النفوس أظافره، وينتشر الحزن اللامتناهي في القلوب، ويكبر البؤس، الذي لا ينتهي، إلى ما لا نهاية، ويتضاعف حجم المعاناة التي تولد من رحم المأساة.
هناك، في بلد الفلسطينيين «البؤساء»، الذين لا يعرفهم «فيكتور هوجو»، ولم يكتب عنهم، روايته الشهيرة، التي نشرها عام 1862، وتناول فيها الحياة البائسة، التي عاشها الفرنسيون، بعد سقوط نابليون.
هناك في قطاع غزة، يتم قتل الأطفال والنساء، بلا رحمة، في سياق تسلسل، مسلسل سفك الدماء.
ومنذ فجر الثلاثاء، الثامن عشر من مارس الجاري، تواصل إسرائيل، فجورها العسكري، وجورها الاستبدادي من خلال فرض الظلم، والظلام، والضلال، عن طريق السلام، والاعتداء على حقوق الآخرين، والانحراف عن مقاصد وأهداف اتفاق الهدنة، التي تثبت الأحداث، وتؤكد التطورات وتوضح المستجدات، أنها هشة، أكثر منها هشاشة «الرهش»!
وسط هذا الواقع الهش، استأنفت إسرائيل عدوانها الهمجي، وما زالت تشن موجات تلو موجات، من الهجمات والغارات، بالطائرات والمسيرات، ضد الفلسطينيين، في كل الجهات، في سلوك غادر، وانتهاك سافر، لاتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه، برعاية أمريكية، وجهود قطرية، ومساعٍ مصرية.
وفي هذه اللحظات المصيرية، يحق لي أن أتساءل، لإثبات حقيقة مفصلية:
أي حضاره إنسانية، التي يتشدقون بها، وهم ينتهكون الاتفاقيات الموقعة، ويخرقون التعهدات الموثقة، والمواثيق المؤكدة، والتفاهمات الملزمة؟
وأي سلوك إنساني سليم، وتعامل سياسي قويم، يسمح لهم بقتل الآمنين، الصائمين، وبينهم المئات من المسنين؟
وأي ديمقراطية التي يتباهى بها نتانياهو، ورفاقه المتطرفون، وهم يمنعون دخول المساعدات الإنسانية، والاحتياجات الإغاثية الضرورية، التي يحرمونها عن المدنيين، ولا أقول المدانين؟
وأي نوع من الأنفس الصهيونية المريضة، التي تستخدم التجويع، والتعطيش، والتطفيش، والتهميش، سلاحاً ضد الآخرين يشهرونه، في وجوه المقهورين، المستضعفين، كوسيلة للعقاب الجماعي، والابتزاز السياسي؟
ثم يلومون «هتلر»، على حرقهم!
وهم بأفعالهم الإرهابية، وجرائمهم الوحشية، واعتداءاتهم الهمجية، على الفلسطينيين، يثبتون أنهم أكثر «هتلرية»، وأشد «نازية»، وأبشع «فاشية»، من ذلك المعتوه النازي.
ولا أنسى توغلهم البري، وتغولهم البربري، وتغلغلهم العسكري، الذي يطبقونه على طريقة الألماني الغازي، بامتداد محور «نتساريم»، مما يشكل خرقا خطيرا، لاتفاق وقف إطلاق النار، الذي أشعلوا فيه النار، فأصبحت محتوياته كتلة من النار، وبات يحتاج لمن يبادر، بإطفاء النار، المشتعلة في ذلك الاتفاق المنهار.
وما من شك، في أن هذا الانهيار، وذلك الدمار، يعكس النية الإسرائيلية المبيتة، والخبيثة، والخسيسة، لاستكمال جريمة الإبادة الجماعية، وإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، والتنفيذ التدريجي، لمخطط تهجير الفلسطينيين، خارج قطاعهم المدمر.
وفي خضم هذا الدمار، نشهد نوعا آخر من الانهيار، حيث يتواصل الفشل الدولي المخزي، والعجز العربي المخجل، عن وقف الحرب!
ومع هذا الانحدار، تترسخ الحقيقة المحزنة، المتمثلة في ضعف العرب، وعدم قدرتهم على مواجهة إسرائيل، إلا في إصدار بيانات الشجب، دون القدرة حتى على إلزامها، بالالتزام بتطبيق قواعد «الضرب»، التي يحددها القانون الدولي الإنساني.
ولعل ما يزيد من وطأة الكارثة، تواطؤ الغرب مع الطغيان، وتورط الولايات المتحدة، في دعم العدوان.
ومن المؤكد، إنني لا أخطئ العنوان، عندما أقول إن البجاحة، وصلت لدى الإدارة الأمريكية إلى درجة الإعلان، أن رئيسها، يدعم استئناف إسرائيل عملياتها العسكرية، الجوية والبرية، في غزة.
وهذا أعلنته، بكل صفاقة، المتحدثة باسم «البيت الأسود»، الملطخة جدران مكتبه البيضاوي، بدماء أطفال فلسطين.
ووسط هذا الموقف المشين، أقول بكل اليقين، وأنظر بعين اليقين، وأكشف بنور اليقين، أن المسؤول الأول، عن الواقع الحزين، الذي يعيشه حاليا أهالي غزة المسحوقون، هو «فخامة» الرئيس «الأفخم» دونالد ترامب!
وأستطيع أن أجزم ولا أزعم، أنه يتحمل المسؤولية الكاملة، عن قتل كل طفل فلسطيني، وكل أم غزاوية، وكل سيدة فقدت زوجها، أو ابنها، أو عائلتها أو معيلها، بعدما أعطى حكومة نتانياهو الإرهابية، الضوء الأخضر لشن عملياتها العسكرية، واعتداءاتها الهمجية، وممارساتها النازية، التي فتحت أبواب الجحيم وأشعلت النيران، في الاتفاق الهشيم.
وأقولها بصراحة، بل بمنتهى الصراحة، ينبغي على ترامب، أن يطأطئ رأسه خجلاً، لتورطه الفعلي والعلني في استئناف الحرب على غزة.
كما ينبغي على المجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة، وتحديداً ما يسمونه «مجلس الأمن» أن يقوم بطباعة جميع القرارات الصادرة منه، ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، والتي لم يتم تنفيذها، وتحويلها إلى مناديل ورقية، لتجفيف دموع المنكوبين في غزة.
والمؤسف، أن «ترامب»، الذي يسوّق نفسه على أنه داعية سلام عالمي، وأنه «سوبرمان»، الذي يحرص على إنهاء الحروب في العالم..
■ وأنه «باتمان» الذي يسعى، لترسيخ العدالة، في كامل استدارة الكرة الأرضية.
■ وأنه «سبايدرمان» الذي يملك قوة خارقة، تمكنه من الانتصار على خصومه وامتلاك قدرة فائقة، على استشعار مكامن الخطر، والتصدي لزعماء الشر.
■ وأنه البطل الخيالي الخارق، المسمى «كابتن أميركا»، الذي يمكنه هزيمة كل مارق، مرتديا بدلته المزينة بألوان العلم الأمريكي، وهو يحمل درعا غير قابل للتدمير، أو التكسير، أو التقشير أو التشطير.
ورغم كل هذه الشخصيات الكرتونية، التي تروجها ثقافة الخيال الأمريكي، التي يتقمصها رئيس الإدارة الأمريكية، من خلال تضخيم قدراته، وإظهار أنه البطل القاهر، والزعيم القادر على إحداث التغيير..
نجده لا يجرؤ، خلال تعامله مع إسرائيل، ورئيس حكومتها الشرير، حتى في إثبات أنه «بلوتو»، الذي يحاول القضاء، على «باباي» قبل أن يتناول السبانخ!
ولهذا نجده يتجاهل، أن هناك اتفاقاً ملزماً، تم توقيعه، بين «حماس» وإسرائيل، برعاية أمريكية، يتضمن إطلاق سراح الأسرى، على (3) ثلاث مراحل، دون الحاجة إلى استخدام العنف، وإطلاق الصواريخ، وإسالة دماء الأبرياء.
وأستطيع القول إن كل صاحب ضمير حي، يمكن أن يشهد بكل حماس، أن حركة «حماس» نفذت كل الالتزامات الواجبة عليها، وفقا للمرحلة الأولى من الاتفاق.
ثم فوجئت بمماطلة إسرائيل، وتنصل رئيس حكومتها، عن الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، واختلاق الذرائع وتسويق المبررات، والتهرب من تنفيذ التعهدات، بدعم وتشجيع وتأييد وإسناد من الوسيط الأمريكي!
وكان مفروضا من رئيس الولايات المتحدة، الاضطلاع بمسؤولياته الإنسانية والأخلاقية والقانونية، والضغط على إسرائيل - كما يفعل مع الأنظمة العربية - لإجبارها على الجلوس على طاولة التفاوض، من أجل الإفراج، عن بقية المحتجزين، دفعه واحدة..
بدلا من تحريضها على العدوان، وانتهاك حقوق الإنسان، وتشجيعها على توجيه جيشها لقصف الفلسطينيين، دون مراعاة صيامهم في شهر رمضان.
ومن الواضح، بل الفاضح أن ترامب بموقفه الفادح، أسقط عن وجهة قناع داعية السلام، ووضع على رأسه القلنسوة اليهودية، لتتربع فوق شعيراته الصفراء، وبات يتصرف وكأنه «تيودور هرتزل»، مؤسس الحركة الصهيونية.
وبات أسيراً لمعتقدات إسرائيلية، مليئة بالهراء، عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، دون أدنى اعتبار، إلى حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وحقهم في تحرير أرضهم، وحقهم في نيل استقلالهم، وحقهم في الحصول على استقرارهم، كما فعل الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الذين وحدوا المستعمرات الثلاث عشرة، وقادوا حرب التحرير عن التاج البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر ونالوا حريتهم واستقلالهم باستخدام القوة ضد السلطة البريطانية المتسلطة وبنوا إطاراً حكومياً حامياً لدولتهم الجديدة على أسس جمهورية وأبرزهم جون آدمز وبنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسن وجيمس ماديسون وجورج واشنطن، وكل هؤلاء لعبوا أدواراً وطنية أمريكية مهمة في مقاومة ومحاربة الاستعمار البريطاني، لا تختلف عن الأدوار البطولية التي يقوم بها قادة المقاومة الفلسطينية، ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومنهم على سبيل المثال الشهداء إسماعيل هنية والسنوار والضيف وغيرهم من قيادات النضال الفلسطيني.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6435
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3840
| 21 أكتوبر 2025