رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا يتعين أن يكون بشار الأسد ضمن معادلة الحل السياسي في سوريا، والتي تتصاعد الاتصالات والتحركات الإقليمية والدولية بشأنها في الآونة الأخيرة، فمن الصعوبة بمكان بعد كل ما جرى من نظامه وقواته وحرسه الجمهوري والميليشيات التي شكلها أو التي استعان بها من الخارج، تحديدا من لبنان أو العراق أو إيران، أن يظل رقما في معادلة الحل أو المستقبل السوري، لأنه بوضوح وبشكل مباشر فقد مشروعيته كرئيس، يزعم أنه انتخب من قبل شعبه وثمة مبررات مشروعة ومنطقية وراء هذه القناعة،
أولا: إنه خان الأمانة التي حمله إياها شعبه عندما وثق فيه، عندما تم فرضه فرضا على الرئاسة خلفا لوالده في عملية توريث مفضوحة بعد أن أعده وهيأ له كل سبل الوصول إلى الموقع الأول في البلاد، بما في ذلك تعديل الدستور ليتواءم مع سنه الصغيرة آنذاك – 1999 – والتي لا تتيح له الترشح لهذا المنصب الخطير، وكذلك الأمر في الانتخابات التي جرت قبل عامين في ظروف تتناقض تماما مع كل محددات الشفافية والنزاهة، ومؤدى هذه الأمانة أن يحمي هذا الشعب ويحافظ على سلامة الوطن، غير أن ما فعله كان عكس ذلك تماما، فقد قتل من هذا الشعب أكثر من 300 ألف مواطن غير مئات الألوف من الجرحى والمصابين والمعوقين، فضلا عن ملايين من اللاجئين وفي الخارج والنازحين في الداخل، كل ذلك من أجل أن يبقى قابضا على مفاصل سلطة وهمية في حقيقتها، بعد أن نزعت منه ميليشيات "داعش" نصف مساحة البلاد، بينما تسيطر الفصائل الأخرى على أجزاء كبرى من هذه المساحة، ولم يتبق له سوى مساحات في دمشق وريفها وبعض المحافظات الأخرى، ووفق تقديرات قيادات معارضة، فإن نظام بشار لا يسيطر إلا على ما يعادل 20 أو 25 في المائة من مساحة سوريا، ورغم ذلك فإن وزير خارجيته وليد المعلم يتحدث في تصريحات لوفد إعلامي مصري نشرت بالقاهرة يوم الخميس الماضي، عن صمود الجيش والنظام طوال السنوات الأربع المنصرمة، متجاهلا حقيقة أن من أبقى بشار وأركان نظامه حتى الآن الإسناد القوي الذي تقدمه إيران وروسيا وميليشيا حزب الله وميليشيات شيعية من العراق وباكستان وأفغانستان، وكان بوسعه أن يبقى بكرامة وشرف، لو أنه تجاوب من بداية الأحداث في مارس 2011 مع أشواق شعبه في ديمقراطية وتعددية وحرية حقيقية، ضمن دولة وطنية، السيادة فيها للشعب وليس للحزب أو القائد، والمواطنة هي العنوان وليس الانتماء الحزبي أو المذهبي.
ثانيا: إن تمسك بشار الأسد بالسلطة على جماجم شعبه، أمر لا يعكس على الإطلاق حالة سوية لسياسي منحاز لوطنه وشعبه، بل إن وقائع الخراب الذي تسبب فيه نظامه والتدمير المنهجي الذي طال كل مقدرات الدولة السورية وبنيتها التحتية، تشكل في حد ذاته ذريعة قوية للخلاص منه، فالسياسي - خاصة إذا كان على رأس السلطة - يتعين أن يكون حريصا على حماية أمن واستقرار بلاده، لا أن يدخلها أتون حرب أهلية ومذهبية وطائفية تأكل الأخضر واليابس، من خلال استخدام كل ترسانته العسكرية التي كانت موجهة لعدو حقيقي ما زال يحتل جزءا من الوطن، بما في ذلك الطائرات والصواريخ والأسلحة الكيماوية ضد هذا الوطن، بل واخترع قادته العسكريون المبدعون في محاربة الشعب، وليس العدو، ما يسمى بالبراميل المتفجرة، فباتت عنوانا للموت اليومي بلا تمييز بين مقاتل مسلح وبين مدني، فعلى سبيل المثال فإنه جيش بشار - وليس الجيش العربي السوري، فذلك مسمى أضحى من مخلفات الماضي - قتل بمدينة دوما أكثر من 120 مدنيا بهذه البراميل التي تطلقها طائرات مقاتلة أو طائرات هليكوبتر، في شكل متوالية دموية لا تتوقف حتى تفضي إلى هلاك المئات في لحظات.
إنه الجحيم الذي يفرضه على وطنه رئيس قادم من رحم مهنة الطب وهي مهنة إنسانية بطبيعتها، لكنها السلطة تفرض على من يرتدون ثيابها اللجوء إلى أسوأ ما في المرء للبقاء في دائرتها، والارتواء من متعها ولذائذها الحرام، ما دام الحاكم في حالة حرب مع الوطن والشعب.
ثالثا: إن بشار الأسد هو العائق الوحيد أمام استعادة الدولة السورية وحدتها التي غدت مفقودة أو مغيبة بفعل فاعل هو بالأساس، فهو لم يتجاوب مع الطروحات السياسية التي قدمتها الجامعة العربية، ثم الأمم المتحدة عبر مبعوثيها الخاصين الذين فشل اثنان منهم بعد يأسهما من بشار وزمرته الحاكمة، وهما كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي، وأخيرا دي ميستورا الذي ما زال يحلم بالحل السياسي ومع ذلك هو متهم من قبل وليد المعلم بأنه غير محايد ومنحاز والأهم من ذلك رفض بشكل واضح بنود جنيف 1 والتي حظيت برضا إقليمي ودولي، بما في ذلك قوى المعارضة رغم غموضها في التعامل مع إشكالية بشار، وتنص على تشكيل هيئة حكم انتقالية من النظام وقوى المعارضة تكون لها كامل الصلاحيات السياسية والأمنية، وتهيئ البلاد بعد عامين يتم بعدها إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، فسارع بشار في إجراء انتخاباته الخاصة التي أتت به متفردا في موقع الرئاسة بعد أن نافسه شخصان مجهولان، وكان بمقدوره لو تجاوب مع جنيف 1 والتي أقرها تجمع دولي من أصدقاء الشعب السوري في يونيو من العام 2012، لكان بالإمكان أن تترتب على ذلك نتائج مهمة على صعيد المحافظة على مؤسسات الدولة السورية وشعبها في إطار عملية ديمقراطية شفافة ونزيهة، ولو كان بشار وزمرته الحاكمة جادين في قبول حل سياسي يوقف المزيد من إراقة الدماء ويوفر إمكانية بقاء الوطن موحدا شعبا وأرضا، فإن عليه المسارعة بقبول بنود البيان الذي أصدره مجلس الأمن قبل أيام، ولا يخرج كثيرا عن بنود جنيف 1، لاسيَّما فيما يتعلق بتشكيل هيئة الحكم الانتقالية، ولكن للأسف نظر إليه وليد المعلم باعتباره جزءا من عملية إضاعة الوقت، لأنه يدرك هو ورئيسه، أن الدخول في عملية سياسية جادة وشفافة وفق الأسس التي يتضمنها هذا البيان التي تقوم بالأساس على بنود جنيف 1 من شأنه أن يزيح بشار وزمرته عن السلطة، عندما يحين الوقت لإجراء الانتخابات، سواء الرئاسية أو التشريعية في غضون عامين.
رابعا: إن المراهنة على العوامل الخارجية في بقاء أي نظام سياسي ثبت أنها عديمة القيمة على المدى الطويل، ويبدو أن بشار وأركان حكمه ما زالوا يراهنون على الدور الروسي والإيراني، فضلا عن ميليشيات إقليمية تابعة في مجملها لتوجهات طهران، وذلك يمكن أن يتغير إذا ما تقاطعت مصالح هذه الأطراف، وثمة حديث بشأن أن قدرا من التغيير في موقف موسكو - وإن لم يتضح مداه- لكنها ترهنه بضرورة الإبقاء على مصالحها في سوريا وفي المنطقة، وهو ما لا يسعى أحد إلى التأثير عليه وأنا هنا أعول على الاتصالات الخليجية والسعودية الأخيرة التي ما زالت تتفاعل في دوائر موسكو السياسية، فضلا عن ذلك، فإن إيران لن تبقى إلى الأبد مؤيدة لبقاء بشار، إذا ما تعارض ذلك مع المكاسب التي ستجنيها من تطبيق اتفاقها الأخير مع مجموعة 5+ 1 بشأن برنامجها النووي، والذي يوفر لها استعادة لأموالها المجمدة والتي تقدر بمئات المليارات ورفع العقوبات الاقتصادية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
3066
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
2943
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2856
| 16 أكتوبر 2025