رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

624

سعدية مفرح

حتى آخر لهب!

23 يونيو 2025 , 03:41ص

كنت وحدي، أو هكذا خُيِّل لي. وفجأة، انتبهت لحركة صغيرة تُقاطع سكوني.

كانت فراشة.

فراشة صغيرة، كأنها هاربة من كراسة رسم، تتهادى في الهواء بخفة لا تُصدّق، وتحوم حول الموقد بإصرارٍ لا يشبه الكائنات الطيّعة، بل يشبه أكثر أولئك الذين يسيرون نحو مصيرهم المحتوم بإرادتهم الكاملة.

كنت أتابعها بعينٍ تملؤها الدهشة، قبل أن أحاول إبعادها، فتعود. أنفخ عليها قليلاً فتختفي لوهلة، ثم ما تلبث أن تعود لتدور في فلك النار، كأنما خلقت لتكتشف حدود الألم بلمسة جناح. لم تكن تطير عبثًا، بل بشيء يشبه الإيمان. إيمانٌ عجيب لا أعرف مصدره؛ أتؤمن بالضوء؟ أم تؤمن أن الضوء بداية خلاص؟ أم لعلها لا تعرف أنها تقف على حافة الهلاك؟

مرّ وقتٌ وأنا أراقب هذا الكائن الرقيق العنيد، وكلما عادت إلى النار، شعرت أن شيئًا في داخلي يُريد الصراخ؛ «عودي إلى العتمة، ففيها نجاتك!»، لكني سكتُّ.

ربما لأنني شعرت أن هذا المشهد ليس مجرد مواجهة عشوائية بين فراشة ولهب، بل هو مرآة لحكاية أوسع بكثير، لعلها مرآتي أنا.

كم من مرةٍ كنت أنا الفراشة؟

كم مرة طرتُ بإصرار نحو أشياء أحببتها وظننتها ضوءًا، فإذا بها تحرقني؟ كم من مرة اقتربت من فكرة، من شخص، من حُلمٍ، وأنا أعلم تمامًا أن النار تحته مشتعلة، ومع ذلك، واصلتُ التحليق، لا لأني لا أعلم، بل لأني كنت أحتاج أن ألمس اللهب كي أتيقّن أنني ما زلتُ حيّة.

ليست الفراشة غبية، وليست ساذجة، هي فقط مؤمنة بشيءٍ ما، لا نراه نحن الذين نحذر كثيرًا ونحسب خطواتنا ببرود المنطق. الفراشة مخلوق آخر غير البشر، وعيها لا يشبه وعينا، وخوفها لا يشبه خوفنا، واختيارها للموت ليس عبثًا بقدر ما هو استجابة لنداء لا نفهمه نحن أبناء الحسابات الدقيقة.

ربما لهذا أحببتُها، وربما لهذا شعرتُ أنني مدينة لها بهذا التأمل الليليّ العميق. كانت تدور وتدور، ولا تعلم أنها تُعلّمني أشياء كثيرة. تُعلّمني أن بعض الخسارات تُرتكب بكامل القلب، وأن بعض الاقترابات القاتلة لا تحدث إلا لأن فينا شيئًا أعند من النجاة. فينا شوقٌ حارق لا تهزمه التحذيرات، بل تفتنه، ويقوده توقٌ للتماهي مع الضوء حتى ولو كان آخر ما نراه.

في تلك الليلة، لم تعد الفراشة وحدها تحت اللهب، كنت معها، بل كنتُ هي.

كل دوراننا حول من نحب، كل تكرارنا للخطأ نفسه، كل اندفاعنا إلى فكرة نعرف أنها ستكلفنا الكثير، كل هذه ليست غباءً ولا اندفاعًا محضًا، بل تعبير عن ذلك النبض الداخليّ الذي لا يرضى بالحياة الباهتة، ويصر على أن يُلامس الضوء، حتى ولو احترق لأجله.

عندما احترق جناح الفراشة أخيرًا، وانكفأت في زاوية الموقد، شعرتُ بوخزة في قلبي. لم يكن حزنًا فقط، بل كان أيضًا من هذا الكائن الصغير الذي قرّر نهايته بنفسه، من دون تردّد، وبلا بكاء. فراشة اختارت قدرها، ومضت. في حين نقضي نحن حياتنا نهرب من أقدارنا، ونتوسل السلامة، ونخشى التجربة، ونرتعش من فكرة الخسارة.

من قال إن العاقل لا يقترب من النار؟

من قال إن النجاة في الابتعاد فقط؟

بعض الأرواح خلقت لتجرب، لتغامر، لتكسر السياج، وتطير نحو النهاية، لا لأنها لا تخاف الموت، بل لأنها تؤمن بالحياة التي تبدأ بعد كل احتراق.

حين وقفتُ لأغادر، كان الموقد قد خفّت نيرانه، والفراشة تحوّلت إلى رماد، لكن في داخلي اشتعل نار أخرى؛ إدراكٌ حادّ أن الحياة لا تُقاس بالمدة، بل باللحظة التي نحلّق فيها بكل إرادتنا، حتى لو كانت الأخيرة.

وهكذا، بقيت صورتها تحوم حولي. فراشة صغيرة… خفيفة… حرة… علّمتني أن بعض النهايات لا تُهزم، لأنها كانت نابعة من قناعة عميقة بأن الحياة لا تُعاش إلا كاملة، حتى آخر لهب.

اقرأ المزيد

alsharq فن التعامل مع العميل الغاضب

في بيئة العمل، نلتقي يومياً بأشخاص يختلفون عنا في أنماطهم وسلوكياتهم وتوقعاتهم. منهم من يمر مرور النسيم؛ هادئاً،... اقرأ المزيد

234

| 17 أكتوبر 2025

alsharq تحقيق الثروة الاقتصادية عن طريق الموارد البشرية

الرضا الوظيفي له دور كبير فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة وقد يعتقد الكثير من الهيكل الوظيفي المسئول... اقرأ المزيد

270

| 17 أكتوبر 2025

alsharq الجدالات التي تسرق أعمارنا

منذ عشر سنوات، كنت أدخل النقاشات كما يدخل أحدهم في معركة مصيرية. جلسة عائلية تبدأ بسؤال عابر عن... اقرأ المزيد

177

| 17 أكتوبر 2025

مساحة إعلانية