رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. عبدالله العمادي

د. عـبــدالله العـمـادي

 

مساحة إعلانية

مقالات

477

د. عبدالله العمادي

أراغبٌ أنت عن آلهتي؟

22 مايو 2025 , 02:00ص

ليس من السهل على الإنسان أن يكون المقابل للرفق واللين والأدب في التعامل مع أحد من البشر، قسوة وجفوة وغلظة، بل تهديد بالضرب أو السب أو حتى القتل والتصفية.. هكذا كان الوضع مع خليل الرحمن، ابراهيم عليه السلام، وهو يبذل جهده في دعوة أبيه آزر إلى دعوة الحق وترك عبادة الأوثان. وقد كانت دعوته فيها الكثير من الرفق واللين، لكن لم يجد كل ذلك نفعاً في آزر وقومه.

في هجمته المضادة، قال لابنه ابراهيم (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) ولم يقل له يا بني مثلاً، كنوع من الرفق مع ابنه الهيّن اللين الحليم، بل سماه باسمه، إشارة إلى أنه غاضب منفعل من دعوته الغريبة عليهم، ثم دعوته له لترك عبادة تلك الآلهة التي هم عليها عاكفون.

قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد، كما يقول الطنطاوي في التفسير الوسيط، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتي، وكارهٌ لتقرّب الناس إليها، ومنفرهم منها؟ لئن لم تنته عن هذا المسلك (لأرجمنّك) بالحجارة وبالكلام القبيح (واهجرني مَلِيّاً) بأن تغرب عن وجهى زمناً طويلاً لا أحب أن أراك فيه ! وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن، بفظاظة وغلظة ثم تهديد ووعيد، وعناد وجهالة، شأن القلب الذى أفسده الكفر.

هذه الآية كما ذهب بعض المفسرين إنما حكاها الله تعالى لمحمد، صلى الله عليه وسلم، كما يقول الفخر الرازي، كي يخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين، وليعلم أن الجهّال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة.

ما أشبه اليوم بالبارحة

إن كانت آلهة الأمس مجموعة أوثان أو أشجار أو كواكب أو ما شابه، ولقى بسببها الكثير من المؤمنين البلاء وأشد العذاب، فقط لأنهم لم يرضخوا لما كانت عليه أقوامهم من جهالة وفساد اعتقاد، وكانت قصص الأنبياء أبرز الأمثلة التي تحكي تلك المشاهد الغارقة في الجاهلية، فإن ما يحدث اليوم في عصر العلم والتنوير، أو عصر الاتصالات والتقنيات والمعلومات، لا يختلف البتة عما كانت عليه الأقوام السابقة.

لقد تعددت آلهة اليوم وتغيرت، ولم تعد أوثاناً أو أشجاراً، بل صارت على شكل توجهات فكرية أو أحزاب سياسية أو أصحاب قرار وصلاحيات، وعموم الناس في هذا المشهد الجاهلي الفوضوي، حيارى بين تلكم الآلهة المتعددة، ولمن يجب تقديم الولاءات والطاعات، على رغم وضوح الرؤى والرسالات، بعد خاتم الأنبياء والمرسلين.

كل بطانة آلهة صارت تهدد الأتباع في وقت من الأوقات بصورة من الصور، إن رأت تململاً أو تحركاً نحو العصيان، وتعيد ترديد عبارات آزر لإبراهيم عليه السلام ( أراغب أنت عن آلهتي ) كأنما التاريخ يعيد نفسه، وإنْ بصور وأشكال وهيئات مختلفة، لكن المضمون واحد.

أوثان العصر الحديث

من يعارض مديره المتسلط في إدارة أو وزارة أو شركة ما، فإن أولى العبارات التي يسمعها لا يختلف مضمونها عن مضمون ما قاله آزر لإبراهيم، وإن تبدلت الكلمات والحروف. فلا فرق بين (أراغب أنت عن آلهتي) وبين (أتعارض المدير العام أو الصالح العام) ؟!

إن ظهر في الأفق معارضٌ لرئيس حكومة أو رئيس دولة، أو ما شابه من المناصب، فإن التهديدات تنهال عليه من كل حدب وصوب. كل جهة بحسب اختصاصها تهدده بمصير غامض مؤلم إن هو عارض، أو رغب عن سياسات الحكومة، أو توجهات الرئيس، أو تطلعات الوزير، أو من هم على شاكلتهم. كلهم يردد نفس المعنى (أراغبٌ أنت عن آلهتي) ؟!

الدول التي تدور في الفلك الأمريكي إن تجرأت ورغبت عن سياساتها، وأرادت التحرك بعض الشيء بعيداً عن تلكم السياسات والتوجهات، فإن مصيرها ليس بالذي يسعدها ويسرها، وعواقب المخالفة معروفة ومتنوعة مؤلمة. وبالمثل تلك الدول الدائرة في الفلك الروسي أو الصيني وغيرها من أفلاك القوة والتجبر والتسلط في عالم اليوم.

الأمر بالمثل يحدث مع كثير من رموز السياسة والإعلام والفكر والفن في كثير من دول العالم. فما إن تبدأ تلك الرموز بالتحرك أو تعزم على مخالفة سياسات الدولة العميقة في دولها، تجدها فجأة وبقدرة قادر تنكشف أوراقها وملفاتها وتاريخها، وكأنما تلكم الأوراق جُهّزت لمثل هذه الأوقات، فيتم خنقها ووأدها وهي في المهد ! والأمثلة على مشهد آزر مع إبراهيم الخليل عليه السلام أكثر مما يمكن ذكرها أو حصرها ها هنا.

هكذا واقع الحال أينما وجهت وجهك. وليس شرطاً أن ترى هذه المشاهد في بقعة جغرافية معينة، بل متناثرة حول هذا الكوكب، من شرقة إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، وإنْ بنسب متفاوتة بحسب العقلية السائدة في كل بقعة جغرافية..

لب الحديث

من يجد نفسه في موقف شبيه بموقف الخليل إبراهيم عليه السلام، يواجه بطانة آلهة ما، أو حتى الآلهة نفسها أو الوثن نفسه، فليعلم أنه إن استمر على موقفه، وثبت وصمد، فهو على الصراط المستقيم والحق المبين، وإنْ خسر نفسه وماله وولده والكثير الكثير.

إن نبي الله الكريم إبراهيم عليه السلام، اختار أن يخسر كل ما يملك، بل ويخرج من بلده مهاجراً إلى ربه، على أن يتراجع عن صراط الله المستقيم. فلم تفتنه المغريات ولم ترعبه التهديدات. وبالمثل كان الحال مع سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام، حين ترك ماله وأهله وبلده، وخرج مهاجراً إلى حيث يأمن على نفسه ودينه.

هكذا هو الصراع الأبدي بين الحق والباطل. لا يختلف هذا الصراع اليوم عما كان عليه الوضع منذ الأمم الغابرة قبل آلاف السنين. العقلية المتجبرة الفاسدة هي هي، لا تتغير ولا تتبدل تركيبتها، أو إعداداتها الداخلية، وإن تبدّلت الأجسام وتركيباتها، أو إعداداتها الخارجية. وفي قصص الأنبياء الكرام، الكثير الكثير من هذه الدروس والعبر. نعم، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ).

مساحة إعلانية