رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لم يكن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر مفجر وقائد ثورة يوليو 1952. التي ستحل ذكراها الثانية والستين بعد غد الأربعاء. مخطئا عندما وضع الولايات المتحدة في خانة العدو لمصر ومشروعها الوطني التحرري وللأمة العربية. بعد أن حاول مرارا كسب ودها. بل وسعى إليها في مطلع الثورة لتكون عنصر إسناد له في مرحلة البناء التي بدأها سواء اقتصاديا عبر طلب مساعدتها في إنشاء السد العالي أو عسكريا لتزويد الجيش المصري باحتياجاته ومتطلباته من الأسلحة الحديثة. كان آنذاك حسن النية للغاية مع واشنطن. بيد أنه سرعان ما اكتشف الحقيقة بعد رفضها تقديم العون المالي والفني لبناء السد العالي. ثم تراجعها عن تسليح الجيش المصري وانخراطها في سلسلة من المؤامرات لإجهاض المشروع الوطني لعبد الناصر مما اضطره إلى التوجه شرقا إلى الصين ثم الاتحاد السوفيتي. وهو ما عمق المسافة بين القاهرة وواشنطن. رغم فترة شهر عسل بين ناصر وكيندي في النصف الأول من ستينيات القرن الفائت والتي انتهت تماما باغتيال الأخير. ثم تولى ليندون جونسون رئاسة أمريكا والتي أخذت معه حالة العداء تجاه مصر تتصاعد وبلغت ذروتها في عدوان الخامس من يونيو من العام 1967 والذي كشفت فيه وثائق أميركية وغربية وإسرائيلية حجم التآمر الذي مارسته واشنطن ليس فقط تجاه عبد الناصر ومشروعه التحرري. ولكن ضد المشروع القومي للأمة والذي كان يقوده الزعيم المصري بكفاءة عالية واقتدار حالما بأمة واحدة وليس إمبراطورية يتحكم فيها وفقا لتصورات الإعلام والنخب السياسية الأمريكية في ذلك الأوان البعيد.
وعقب ذلك غيرت الولايات المتحدة إستراتيجيتها بالكامل تجاه الكيان الصهيوني. وأصبحت هي الممول الرئيسي له سواء مالا أو سلاحا. ثم تطور الأمر في عقود لاحقة إلى التزام واشنطن بأمن الكيان ثم المحافظة على تفوقه العسكري على كل جيرانه وعدم السماح بسقوطه في ضوء المحددات التي وضعها هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون في سبعينيات القرن الفائت. الأمر الذي حال دون هزيمة الكيان بشكل كامل في حرب أكتوبر 1973 من خلال تعويضه بكل الأسلحة والمعدات العسكرية التي خسرها في المواجهات. خاصة مع الجيش المصري في سيناء. أو عبر مساعدته في العثور على ثغرة تمكن منها لواء من جيشه بقيادة شارون من العبور إلى الضفة الغربية لقناة السويس. مما أجهض نشوة الانتصار العربي. ولم يكتف كيسنجر بهذا الإنجاز العسكري. فساعد على تحقيق مكاسب نوعية للكيان على الصعيد السياسي عبر المفاوضات التي أدت إلى فض الاشتباك بين الجيشين المصري والصهيوني في ظل تهافت الرئيس الراحل أنور السادات وسعيه لتغيير معادلة الحكم وتوجهات السياسة المصرية سواء وطنيا أو قوميا أو خارجيا. وقاده تفكيره إلى إبرام اتفاقية السلام في كامب ديفيد ذاك المنتجع الأمريكي في 1979 تحت رعاية الرئيس جيمي كارتر الذي بدا انحيازه واضحا لمطالب الكيان على حساب مصر والقضية الفلسطينية.
وبعد هذه الاتفاقية. دخلت العلاقات الأميركية الصهيونية مرحلة التحالف الاستراتيجي التي ما زالت مستمرة حتى الآن. كواحدة من أهم ملامح السياسة الأميركية في المنطقة . وذلك يعني بوضوح أن كفة الكيان الصهيوني هي الراجحة والرابحة دوما إذا وضعت في مقابل كفة العالم العربي.
فى ضوء كل ذلك لم يفاجئني الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما بتصريحاته يوم الجمعة الفائتة. والتي أبدى فيها تفهمه وتشجيعه للعملية العسكرية التي يقودها جيش الاحتلال في قطاع غزة وصنفها بأنه حرب على الإرهاب يستحق الدعم والتأييد حتى يعيش قطعان بني صهيون في حالة من الأمن والاطمئنان. وإن طالب - بقدر كبير من اللامبالاة - قوات الكيان بمراعاة أرواح المدنيين. ولاشك فإن التصريحات تعكس ضيق أفق سياسي لم يعد خفيا أن رئيس أكبر دولة في العالم يتميز به . فضلا عن محدودية في البعد الأخلاقي لديه. إن لم يكن منعدما تماما. فهو ينظر للأمور بالعين الصهيونية وتحديدا بعين نيتانياهو رئيس الوزراء وحكومته الشديدة التطرف . والتي تتعامل بصلف وغطرسة مع الشعب الفلسطيني ولا تتورع عن اللجوء إلى استخدام كل وسائل القهر العسكري ووصفه دوما بالإرهاب عندما يرد على العدوان أو يقاوم. وللأسف نجح الكيان في تسويق هذا المنظور لدى أغلب النخب السياسية والرأى العام في الغرب في ظل عجز عربي وفلسطيني عن تسويق قيم المقاومة. والتي كان بالإمكان تمريرها . لاسيَّما أن أغلب دول أوروبا بل والولايات المتحدة كابدت سنوات من الاحتلال وانتهجت المقاومة الوطنية سبيلا للتخلص منه.
ويبدو لي أن أوباما ضحل في قراءته لمفردات الواقع السياسي في المنطقة. بمساواته بين الجلاد والضحية. منحازا لرؤية الجلاد التي تقوم على الاستئصال والإبادة مثلما يحدث منذ أكثر من ثلاثة عشر يوما في قطاع غزة مما أسفر عن قتل الأطفال والشيوخ والنساء بالمئات وأعداد كبيرة منهم تنتمي إلى عائلة واحدة . عبر استخدام الطائرات المقاتلة التي كانت توجه غاراتها وقصفها على نسف البيوت والمنشآت الحيوية والمرافق الخدمية. ثم اللجوء إلى الحرب البرية مساء الجمعة الماضية. متزامنا ذلك مع عمليات عدوانية من البحر بينما الضحية ليس لديه سوى صواريخ يطلقها باتجاه العدو. محققا في بعض المراحل تطورا نوعيا من خلال وصولها إلى مدن بعيدة مثل تل أبيب وحيفا وغيرها في شمال فلسطين المحتلة في 1948. لكنها لم تقتل أو تصب أحدا. ربما أعداد محدودة للغاية قياسا إلى مئات الشهداء وآلاف الإصابات من جراء القصف الجوى والبرى والبحري. والذي ثبت أن جيش الكيان استخدم فيه أسلحة محرمة دوليا كعادته مكرسا عدوانية استثنائية غير مسبوقة في التاريخ القديم أو المعاصر. ويكفي الإشارة إلى أن الأٍسلحة والمقاتلات والمعدات العسكرية التي يستخدمها جيش قطعان بني صهيون في قطاع غزة. وبالطبع في الضفة الغربية وفي كل حروبه العدوانية السابقة ليس ضد فلسطين فحسب. ولكن ضد مصر ولبنان وسوريا والعراق وتونس في السنوات والعقود المنصرمة هي صناعة أمريكية وما يصنع في داخله منها يكون بدعم وإسناد الحليف الاستراتيجي. والتدريبات على استخدامها يتم بالتعاون مع الجيش الأمريكي الذي يحتفظ بمخازن أسلحة معدة للاستخدام الفوري في القتال في أراضي فلسطين 1948. وهو ما يجسد بوضوح أبعاد الدور العدواني والتآمري الأمريكي ضد الفلسطينيين والعرب. ومع ذلك وتلك مفارقة تحيرني. لا يفتأ العرب يلجأون لواشنطن لحل مشكلاتهم مع الكيان . ورغم الثقة العربية المتهافتة في العم سام والتي بدأت مع مقولة السادات بأن أوراق القضية بنسبة 99 في المائة هي بيد الولايات المتحدة. فإنها لم تنحز مطلقا لقضاياهم بل كانت سباقة بالانحياز لقضايا ومصالح الكيان والدفاع عنه بكل السبل بما في ذلك اللجوء إلى حق النقض – الفيتو – في مجلس الأمن الدولي لإجهاض أي قرار قد ينطوي على قدر من إدانة سلوكه العدواني فهل ثمة خطر على الأمة العربية وعلى القضية الفلسطينية يوازى خطر الولايات المتحدة والتي هي الوجه الآخر للكيان الصهيوني؟
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
144
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
237
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
63
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5049
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3675
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في دولة قطر، الخاص بمكافحة المنشطات في المجال الرياضي، تحولًا مفصليًا في مسار التشريع الرياضي العربي. فالقانون لا يقتصر على تحديد المخالفات والعقوبات، بل يؤسس لفلسفة جديدة قوامها الإنسان، بوصفه غاية الرياضة قبل أن يكون وسيلة للإنجاز. هذا التوجه التشريعي يعكس نضجًا مؤسساتيًا يربط بين الطب والقانون والأخلاق، في محاولة لصياغة مفهوم حديث للنزاهة الرياضية داخل بيئة تتسارع فيها التطورات العلمية والتقنيات الطبية. على الصعيد العلمي والطبي، يُدرك المشرّع أن قضية المنشطات ليست مجرد مخالفة قانونية، بل قضية صحة عامة تمس توازن الجسد الإنساني. فالمواد المحظورة، مهما كان أثرها في تحسين الأداء، تُحدث اضطرابًا فسيولوجيًا وتشوه المسار الطبيعي للقدرة البدنية. ومن ثم، فإن تشجيع الرياضي على الاعتماد على جسده لا على العقار يُعبّر عن احترام للعلم في جوهره، لأن الطب وعلوم الحياة وُجدت لفهم الطبيعة البشرية وصونها لا لتجاوزها. وهكذا يرسخ القانون مفهوم "الطب الأخلاقي” الذي يوازن بين العلاج والحماية من الانحراف الدوائي. وإذا كان الجانب العلمي قد كشف خطورة المنشطات على الجسد، فإن الجانب القانوني يسعى لضبط مسؤوليات المنظومة بأكملها. فالقانون ينقل عبء المسؤولية من الفرد الرياضي إلى الهيئات والمدربين والمختبرات والإدارات التنظيمية. وهذا تطور مهم، لأن التجارب العالمية أثبتت أن الرياضي ليس دائمًا الجاني، بل قد يكون ضحية نظام يضغط نحو الفوز بأي ثمن. لذلك يتبنى التشريع القطري فلسفة المسؤولية المشتركة، فيتحول من أداة عقاب إلى نموذج إصلاحي متوازن يعزز الشفافية داخل المنظومة الرياضية. أما في البعد الأخلاقي والفلسفي، فيفتح القانون نقاشًا عميقًا حول معنى العدالة في الرياضة: هل العدالة مساواة شكلية أمام القانون أم حماية لجوهر الجهد الإنساني الطبيعي؟ الإجابة تميل إلى الثانية، إذ ينحاز التشريع إلى الفطرة الرياضية وإلى التنافس النزيه الذي يستمد شرعيته من الإرادة لا من الكيمياء. إن هذه الرؤية لا تُعلي من شأن العقوبة بقدر ما تُعلي من شأن القيمة، وتضع الرياضة في سياقها الأسمى: تهذيب الجسد والروح معًا. ومع ذلك، يظل التنفيذ هو التحدي الحقيقي، فمكافحة المنشطات ليست معركة قوانين بل معركة وعي وثقافة. ومن دون إدماج هذه المبادئ في المناهج التربوية والأكاديميات الرياضية، سيبقى القانون نصًا بلا روح. آخر الكلام: إن تجربة قطر تُجسد فهمًا عميقًا للرياضة كقيمة إنسانية وثقافية لا كصناعة للألقاب، وتؤسس لمرحلة عربية جديدة تجعل من الأخلاق الرياضية جزءًا من الأمن الصحي الوطني. وهكذا يصبح القانون رقم (24) لسنة 2025 أكثر من تشريع؛ إنه إعلان فلسفي عن هوية رياضية جديدة قوامها المعرفة، والإنصاف، واحترام الجسد الإنساني كأسمى معمل للطاقة والإبداع.
2796
| 21 أكتوبر 2025