رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يصعب على المرء أن يكتب أو أن يتحدث عن فقدان عزيز لديه، ولكنها الحياة تجبرنا على تقبّل الأحزان والأفراح دون سابق إنذار ودون علم مسبق بما سيجري وما سيصير وما سيحدث من أحداث في حياتنا وفي حياة من يحيطوننا في هذه الحياة الدنيا، ولكن معرفة طبيعة هذه الحياة الدنيا يهوّن علينا شيئاً بسيطاً من درجة حزننا ويقلل في الوقت نفسه شيئاً يسيراً من درجة فرحنا بكل الأحداث والوقائع.
لقد شاء الله أن نفقد رجلاً من رجال قطر ممن بذلوا الكثير من أجل وطنهم ودينهم ومن أجل رضا الله عنهم في هذه الحياة الدنيا.. من أجل أن يُرضيهم الله سبحانه في الآخرة، وما أدراك برضا الله ممن عاشوا حياتهم من أجل رضاه سبحانه وتعالى فحسب، فلم يداهنوا ولم يجاملوا ولم يخافوا في الله لومة لائم، فاستحقوا أن يُجزيهم سبحانه العطايا في الآخرة، جزاءً ومكافأة وتكريماً لهم.. وهو الذي وصف عطاءه في كلمة واحدة.. (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
علي حسن الجابر سقط شهيداً قطرياً على أرض ليبية.. عربية مسلمة، يسقط على الأرض ليرتفع إلى السماء ومنها إلى جنان الخلد بإذن الله، سقط برصاص الغدر والخيانة وما عرف قنّاصوه بأنهم لم يضغطوا زناد بنادقهم ومسدساتهم ورشاشاتهم نحوه وإنما قد كتبوا بذلك نهاياتهم الشقية بأنفسهم في الدنيا والآخرة، وما ذلك بمشيئتهم له أن يكون قتيلاً لهم، ولكنها بمشيئة الله له أن يكون شهيدا عنده وأن يكونوا هم القتلة الذين خسروا الدنيا والآخرة في حين أنه قد حظي بهما معاً بإذن الله.
ومن منا لا يفكر في نهايته كيف ستكون، وكيف ستصير نهايته في هذه الدنيا، بل إننا نفكر في ذلك كثيراً وطويلاً، ولعل أحدنا لو أشغل نفسه في ذلك كثيراً لأضاع وقته فيما لا يجدي، لأن النهايات العظيمة لابد أن تكون لها بدايات عظيمة، وفي المقابل لابد للنهايات السيئة أن تكون وليدة بداية سيئة، إذن فلنعمل لتلك القاعدة ونترك التفكير في النهاية لمن بيده كل شيء.. فهو الذي إن أطعناه أحسَنَ خاتمتنا، وإن عصيناه خَسرنا وأَساء خاتمتنا.
لقد رحل علي حسن الجابر عن هذه الحياة، ولكنه ليس برحيل عادي ولكنها كذلك ليست بحياة عادية، رحيل يتمناه الجميع.. شهادة في سبيل الله.. حبٌ تمتلئ به قلوب الناس.. صلوات جنازة مهيبة.. احتشد فيها الآلاف حضوراً أو غياباً في قطر وفي ليبيا وغيرها من دول العالم العربي والإسلامي، في تذكرة لنا برحيل العالم الجليل الشيخ عبدالله الأنصاري الذي صلّت عليه الآلاف المؤلفة من شتى بقاع العالم العربي والإسلامي.. الأمر الذي لا ندركه نحن بعقولنا المحدودة، كيف يرفع الله شأن رجل ما.. يعيش في بلد ما.. دونما مزيد مال أو جاه أو سلطان، إنها المعادلة التي يضعها الله بين أعيننا بين الحين والآخر.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا، فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في السماء) ما أبسطها من معادلة ولكنها ورغم بساطتها فإنها أصعب ما تكون على الناس، فمن اشترى سخط الله بحب الناس له.. خسر، ومن اشترى حب الله بسخط الناس له.. ربح وفاز، وكيف لا يفوز والله يهوّن عليه وينتقم له، وهو الذي قال مخاطباً نبيه (إن شانئك هو الأبتر) أي إن مبغضك ومن يكرهك فإن الله كفيل بوضع نهايته وتعجيل زواله، وإني على يقين تام بأن علي حسن الجابر رحمه الله تعالى لم يكن يفكر كثيراً في أولئك الظالمين من أتباع القذافي وأولاده وأعوانه ممن يحاربون الله ورسوله وإنما كان يفكر في رضا الله عنه بمعاونته لإخوته في العروبة والإسلام على أرض ليبيا.. أرض عمر المختار والشهداء، هناك تعلق قلبه وحول تلك الرغبة الجامحة في الشهادة حلّقت روحه.. حتى علِم الله في نفسه خيراً فرزقه إيّاها (من سأل الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه).
إن ما يهوّن علينا خسران أخ أو صديق أو قريب أو حبيب في هذه الحياة الدنيا - في أوج حسرتنا وفي قمة حزننا – هو أن نفرح بحسن خاتمتهم أو باصطفاء الله لهم ليكونوا شهداء بإذنه تعالى، فضلاً عن تلك القصص والأحاديث التي يرويها الناس عنهم بعد رحيلهم في ذكر محاسنهم ومناقبهم وأفعالهم وآثارهم التي يعمّها الخير والصلاح ويكسوها حب الناس وأهل الخير من هذه الأمة من الذين جعلهم الله شهداء الله على خلقه.. فمن شهدوا له بالصلاح فهو في خير عظيم ومن شهدوا له بالفساد فهو في خطر عظيم.
إن مصابنا أليم في فقد هذا الرجل الربّاني الفاضل.. الذي لم أعهد عليه سوءاً من قول أو عمل، كما عهد وشهد بذلك الكثيرون غيري، وإن فرحتنا لكبيرة في الوقت نفسه بأن الله اصطفاه وختم له في هذه الحياة الدنيا بنهاية عظيمة، في إشارة لما سيأتي بعدها من الخير العظيم والمنازل العظيمة التي سيخصّها الله للشهداء في يوم القيامة وفي الجنة، فحري به أن يشفع لسبعين من أهله يوم الحساب تكريماً للأقربين منه ولمحبيه، وحريّ به أن يحظى بمكانة ودرجة مميزة في الجنة تميّزه عمن ارتضوا الخضوع والخنوع في الدنيا، ممن سكتوا أمام سلطان جائر أو ممن انغمسوا في الملذات والشهوات ونسوا ما عند الله من النعيم الخالد.
ولن أتحدث هنا عن شأن قاتليه من أولئك الذين انضموا إلى صف الطغاة والظلمة وعادوا الله ورسوله ولا حتى عن الطغاة أنفسهم وما أحدثوه من فساد في الأرض وضياع للبلاد وقتل للعباد، فإن المقام مقام سمو وعلو، فالشهادة والشهداء لا ينبغي أن يعكّر الحديث عنهما حديثا آخر عن الخيانة والخونة أو القتل والقتلة أو الظلم والظلمة فإن الحديث عن مزايا الأول يكشف بتلقائية عن قبح الآخر، وبقدر منزلة الشهيد ومكانته وعظم شأنه في الأمة تكون مكانة قاتله في جهنم والعياذ بالله، فلو علم أبو لؤلؤة المجوسي أن بقتله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.. شهادة في سبيل الله وحسن خاتمة له ورضي الله عنه وأرضاه.. وأن في ذلك أيضاً.. خلود لنفسه في قعر جهنم لما فعل ذلك أبداً.. ولكنها النهايات السعيدة التي يكتبها الله لأوليائه ولعباده الصالحين.. وهي في الوقت ذاته.. النهايات الشقية البائسة للظلمة والطغاة والعصاة.. حتى تتعادل النهايات فتمتلئ الجنة بالسعداء.. وتمتلئ جهنم بالأشقياء.. فاللهم ارحم عبدك علي حسن الجابر والشهداء من عبادك المؤمنين.. وارزقنا الشهادة في سبيلك..وحسن الخاتمة أجمعين.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4587
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3399
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.
1362
| 28 سبتمبر 2025