رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مها الغيث

[email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

429

مها الغيث

(إنجليزية توثق فلسطينية فلسطين)

17 يناير 2025 , 02:00ص

في هذه المذكرات التي صُنفت ممنوعة وكـ (وثيقة تُنشر لأول مرة)، تسجّل رحالة إنجليزية ما عاينته جهاراً أثناء رحلتها لأرض فلسطين أوائل القرن العشرين! وضد المحاولات الملتوية في تخصيص أرض بلا شعب أو شعب بلا أرض، كما في حال الهنود الحمر (السكان الأصليين للأمريكتين)، تتصدى هذه الرحالة لتؤكد - من حيث لا تدري - فلسطينية أرض فلسطين وأحقية الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، حيث تنقل ملاحظاتها الدقيقة تفاصيل حياتهم اليومية، وتوثق الصور التي التقطتها تجذّرهم في البادية والريف والمدن العربية، ما تدحض به زيف الادعاءات القائلة بخواء أرض فلسطين قبل وصول العصابات الصهيونية إليها، أو كالصحراء الجرداء - حسب وصفهم - التي استقبلتهم، فزرعوها وعمروها واستوطنوها.

ففي كتابها (اسمها فلسطين: المذكرات الممنوعة لرحالة إنجليزية في الأرض المقدسة)، الصادر عن (الرواق للنشر والتوزيع)، تبدو (آدا جودريتش فريير) على قدر من الشغف بأرض فلسطين، فقد توغلت في حياة الصحراء والقرية والمدينة، وأبهرها بريق الأرض المقدسة بعتباتها وأحوالها الدينية والاجتماعية، فتحدثت بتفصيل لطيف عن المستوصفات والمستشفيات والمدارس والمعاهد والمساجد والكنائس والأسواق والمنازل، التي اتخذت جميعها طابع المعمار العربي الأصيل والفريد في بنيانه وزخرفته، كما تحدثت عن سحر أهلها الذين شاركتهم تراثهم الشعبي وأطربت لأشعارهم، وأخذ بها جمالهم النادر وعقليتهم المحيّرة، والتفتت بإعجاب لأثوابهم الطريفة والغريبة متضمناً نقدهم كشرقيين قلة نظافة الأوروبيين، وهي لا تفتأ تطري لطفهم وكرمهم وحسن ضيافتهم والمثال الحسن في احترام النساء...، وقد أسهبت في الكثير مما يصف بشغف ذلك الماضي المفقود!

والرحالة من الحيادية، لا تغفل عن وصف النسيج الاجتماعي والعرقي لسكان فلسطين، حيث - وقبل وصول تلك العصابات الصهيونية - كان اليهود العرب يجاورون المسلمين والمسيحيين معاً على حد سواء، ويمارسون بحرية طقوسهم واحتفالاتهم في منازلهم ومعابدهم، وقد كانت لفتة طيبة أن تضمّن الرحالة مشاهداتها بين المدن والمواقع والآثار آيات من الإنجيل والعهد القديم. لذا، «لا يخلو هذا الكتاب من تسليط الضوء على ما جمع بين الأديان الثلاثة من عادات، ليس لأنها عادات دينية، بل لأنها تقاليد عربية مشتركة اتسم بها أهل هذا البلد آنذاك».

تقف الرحالة (عند عتبة يافا)، فترى أن رجل بيت لحم لا تخطئه العين لبنيته القوية «وهو يرفل في عباءته السوداء، مزخرفة الياقة بخطوط ذهبية أو فضية. أما زوجته فتتمتع بجسد مكتنز وتتميز بثوبها الطويل وقبعتها القرمزية المزينة بقطع نقدية يتدلى منها غطاء رأس طويل». وبعد تطوافها، تتساءل: «هل ثمة بقعة أخرى على الأرض تحمل هذا التأثير المغناطيسي في الجنس البشري؟». لم يأتِ تساؤلها من فراغ، إذ إن «مقدسات أورشليم عزيزة على المسيحيين واليهود والمسلمين»، وأن فلسطين تحديداً يسهل الوصول إليها من كل بقاع العالم! فعبر بوابة البحر الأحمر يلج القادمون من أفريقيا وأستراليا، ومن الهند والصين كذلك، «أما الأمريكي فيعرّج عليها في طريقه الدائري حول العالم». ومع توسع الدين الإسلامي، يولي المؤمنون وجوههم شطر القدس للحج، كعتبة مقدسة ثانية بعد مكة، وهم الذين يؤمنون بعودة يسوع المسيح في آخر الزمان «ليحاكم الأمم في الوادي الذي يقع بين شرق حائط المعبد وجبل الزيتون». أما اليهودي الذي كلما صلى، يمم وجهه صوب أورشليم، فيرجو أن يموت في «وادي يهوشافاط» حيث يُبعث عرق اليهود هناك حسب اعتقاده، حيث إن «فلسطين في نظر اليهودي لا تمثل سوى ماضيهم، وكذلك مستقبل عرقهم».

تصف الرحالة روح التقبل والتعاطف الذي تبديه الحكومة التركية تجاه المختلفين عنها ديناً وعرقاً، والذي في رأيها، على الأمم الأكثر تطوراً محاكاتها! فقد سمحت بمكوث الإرساليات الفرنسيسكانية في فلسطين والمتواجدة أصلاً منذ قرون مضت، إضافة إلى الجمعيات الإنجليزية والأمريكية التبشيرية بموظفيها، فتقول: «الدستور الجديد الذي منح الحرية للرعايا الأتراك أضاف إليهم قليلاً مما يتمتع به بالفعل المهاجرون من الدول الأجنبية. حتى إنجلترا نفسها، ملجأ المنبوذين في العالم، لا تستطيع أن تظهر كرماً أو حرية أعظم. لذلك نرى ما تدين به المسيحية للمسلم، وما يمكن أن تتعلمه الحضارة من الأقل تحضراً، وما تدين به أوروبا لكرم التركي».

ثم تختم الرحالة رحلتها إلى فلسطين عبر السكك الحديدية صوب دمشق، أقدم مدينة في العالم والتي باتت تسطع بنور المدنية، فتغيب في مخيلتها قليلاً، لتنتبه وتعود للواقع وتصف اللحظة لقارئها قائلة: «ولكن في لحظة ما تعود إلى «الشرق الذي لا يتغير»، وتفكر في ألعازر الدمشقي، وكيل إبراهيم، أو تفكر في نعمان السوري، أو في القديس بولس، أو أخيراً تفكر في العظيم والكريم صلاح الدين، الذي نسميه في فصولنا المدرسية صلادين، يغطي قبره تذكارات من جنود آخرين يعرفون شيئاً عن عظمة قلبه مثل السير والتر سكوت. كما وضع الإمبراطور ويليام الثاني إكليلاً من الزهور فوق قبره، وهو آخر التذكارات. هنا على أرض فلسطين تلتقي كُل الأجيال. في بلد مشرق الشمس ومغربها، نجد آثار أولئك من عرفوا الأرض، وأحبوا البحث في أسرارها، لتعرف أن الشمس قد غربت لتشرق مرة أخرى».

مساحة إعلانية