رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
خلال تجوالي في جوبا عاصمة الجنوب السوداني على مدى ثمانية أيام لرصد التداعيات التي ستنتج عن استفتاء تقرير المصير صليت من أجل الوحدة كنت آمل أن أعثر على بقاياها لدى المواطن الجنوبي لكنني فوجئت بحجم معاداتها والسعي بقوة إلى التخلص منها عبر الاستفتاء الذي اختتمت وقائعه مساء أمس السبت بعد حوالي أسبوع من عمليات التصويت التي جرت في أكثر من 2600 مركز اقتراع بالولايات الجنوبية العشر فضلا عن أكثر من 165 مركزا بولايات الشمال بالإضافة إلى المراكز الخارجية في دول المهجر لم أكتف بالصلاة من أجل الوحدة وإنما سعيت إلى محاولة معرفة مكانتها في ذهنية النخب السياسية والشارع الجنوبي والمدهش أن الإجابات جاءت جميعا متقاربة باتجاه رفض الاستمرار فيها على الأقل في المدى المنظور وهو ما بدا لي واحدا من رابع المستحيلات بعد أن شاهدت الملايين من سكان الجنوب يتدفقون على مراكز الاقتراع مستخدمين كل وسائل النقل وأغلبها عربات الربع الرباعي التي تتناسب مع الوضع الطبوغرافي لجوبا ولغيرها من ولايات الجنوب التي ما زالت تخاصم الطرقات الحديثة المرصوفة إلا شارعا رئيسيا يربط منتصف العاصمة وبعض أطرافها خاصة الأحياء التي يقع فيها مقر حكومة الجنوب والوزارات كان المشهد خلال أيام الاستفتاء التي قضيتها في جوبا ينبئ بحالة حماسة بالغة باتجاه الانفصال فالصفوف كانت تمتد على نحو حلزوني داخل مراكز الاقتراع التي تابعتها عن كثب وخارجها ومحتوية أصنافا من البشر مختلفي
الملابس بين الزاهي والفاقع والهادئ ومرتدي علم الجنوب وأغلبهم من
الشباب والفتيات تصاحبهم ضحكاتهم وابتساماتهم وتسكن الحيوية قلوبهم قبل أجسادهم جاءوا إلى مراكز الاقتراع ليوجهوا رسالة واحدة للعالم مؤداها أنه " إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" وهي العبارة التي رددتها شعوب كثيرة في المنطقة في رحلة كفاحها الطويل من أجل الاستقلال الوطني خلال الحقبة الإمبريالية ولكن هل ينطبق هذا البيت للشاعر العربي التونسي أبو القاسم الشابي على حالة جنوب السودان وهل ما جرى هو مسعى لتحقيق استقلال وطن كان محتلا من قوى خارجية أم فصل جزء مهم عن الوطن الكبير؟ وعندما تيقنت من حقيقة الانفصال الذي بدا مرسوما على الوجوه والملامح بكيت فها أنا المنتمي لتيار وحدة الأمة ووحدة أقطارها أتحول إلى شاهد حي على واقعة انفصال الجنوب عن دولة الوحدة فاضت الدموع بمآقينا وأنا وزميلتي الصحافية المصرية بالأهرام أسماء الحسيني العاشقة للسودان - كل السودان - ونحن نتابع آخر تجليات الحملة السياسية التي نظمتها الحركة الشعبية – الحزب الحاكم – في الجنوب بحضور أكثر من عشرة آلاف مواطن تجمعوا من كافة قبائل الولايات العشر المكونة للجنوب ومارسوا أمامنا نوعا من الرفض الجماعي لخيار الوحدة بل أعلن أحدهم بصريح العبارة: نعم للانفصال ولا للتعريب وللأسلمة وللطغيان والتهميش في إشارة إلى ممارسات سلطة الحكومة المركزية في الخرطوم والتي كتبوا عبارات وداعية لهم أخذوا يلوحون بها على مدى الساعات الخمس التي استغرقها اللقاء الجماهيري الذي حضره الرجل القوي في الحركة الشعبية باجان أموم أمينها العام ووزير السلام بحكومة الجنوب والذي ترجل خطابا سياسيا استغرق وحده ساعتين بدا لنا وكأنه ينتقم من ممارسات حكومة الخرطوم ضده شخصيا والتي وصلت ذروتها العام الماضي عندما اعتقلته قوات الأمن على خلفية خروجه ضمن قيادات أخرى للضغط عيها للإسراع بتطبيق اتفاقية السلام وإلغاء القوانين المقيدة للحريات حيث شن حملة ضارية على ما وصفه بدولة السودان الفاشلة والتي رأى أنه من المستحيل
الاستمرار في وحدة معها وقال "حتى لو هبط يوم التاسع من يناير- أول
أيام الاستفتاء - من النار وليس من السماء فإننا سنخترق هذه النار للتصويت على تقرير مصيرنا "وهو ما فجر الساحة الواسعة التي كانت تحتضن اللقاء بجامعة جوبا التي يتم ترميمها في الوقت الراهن بالهتاف ضد الوحدة والدعوة إلى الانفصال الفوري خاصة بعد أن ذكر أن ضحايا الحروب التي خاضها الجنوبيون يتراوحون بين 4 و5 ملايين شخص ما شاهدناه في هذا اللقاء جسد حالة من الهستيريا التي تمددت في أجساد الجميع وتنوعت تجلياتها بين هتافات ورقصات تقليدية قدمتها فرق عدد من قبائل الجنوب بأزيائها الفاقعة الألوان وإلقاء قصائد الشعر والأغاني وكلها تؤدي رقصة الانفصال الأولى وليس الأخيرة.
خلال الأيام التي أمضيتها بجوبا تجولت في أحيائها سواء الراقية التي يسكنها كبار القوم من قيادات الحركة الشعبية والجيش الشعبي وكبار مسؤولي الحكومة والمكونة من فيلل وبيوت بطابق واحد بدت لنا نظيفة ومهندمة معماريا فضلا عن احتوائها على مكيفات الهواء والمناطق الشعبية التي ما زالت تستخدم المنزل الإفريقي التقليدي المكون من البوص والمغطى بجذوع الأشجار فبدت لي مسكونة بهاجس واحد هو التأهب للرحيل عن الوطن وتركه بلا عودة كانت الجدران والطرقات والسيارات والميادين العامة المحدودة في المدينة زاخرة بمختلف ألوان التحريض على الانفصال كان هناك حشد وتعبئة واسعة ضد الوحدة مارسه قادة الحركة الشعبية على مدى الشهور الست الأخيرة عبر كل وسائط الإعلام المحدودة والتي ما زالت غير واسعة الانتشار وكذلك عبر الوسائل البدائية التي تتناسب مع طبيعة حياة القبائل التي ما زالت أعداد هائلة من المنتمين إليها غير مؤهلين تعليميا حيث تتجاوز الأمية نسبة ال80 في المائة وأسهم الأمين العام للحركة الشعبية باجان أموم بالنصيب الأكبر فيها حيث تجول في أغلب ولايات الجنوب العشر خلال الأسبوع الذي إجراء عملية الاستفتاء وعرض علي وعلى زميلتي أسماء الحسيني مصاحبته خلال إحدى هذه الجولات لكن ما حال دون المشاركة فيها هو وصولنا إلى جوبا بعد أن غادرها والرجل يتمتع بالكاريزما ويصفونه بأنه الأكثر قدرة على التعبير عن فكر الزعيم الراحل للحركة الشعبية جون قرنق حيث كان واحدا من أهم المقربين إليه بدرجة تفوق قرب سلفاكير ميارديت الذي تولى قيادة الحركة بعد رحيله المفاجئ في أعقاب توقيعه على اتفاقية السلام بنيفاشا في عام 2005 وثمة من يتوقع المزيد من الصعود السياسي لأموم في مرحلة بناء الدولة الوليدة إذا استمر الانسجام الراهن بينه وبين سلفاكير ويمكن القول إن هذه التعبئة الجماهيرية والتي يبدو أنها كانت ممنهجة ومخطط لها على نحو جيد لعبت الدور الأساسي في دفع سكان الجنوب إلى الانحياز للتصويت لخيار الانفصال حتى قبل أن يبدأ الاقتراع في سابقة تكاد تكون هي الأولى من نوعها حيث بات الجميع يعلمون نتيجة الاستفتاء وهو ما أفقده طعم المفاجأة وسمة التنافس والصراع بين موقفين ورؤيتين لكن بالتأكيد هناك عوامل أخرى دفعت إلى هذا الانفصال الذي سيمزق وطنا بحجم السودان قبل إرسال المقال: بيت الشعر الذي قاله الشاعر أبو القاسم الشابي قبل أكثر من سبعة عقود: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"تجسد بقوة في شعبه العربي التونسي الذي انتفض طالبا الحرية فصنع معادلة جديدة تنهض على أن الخبز وحده لا يصنع الأوطان وإنما الحرية والخبز معا.
السطر الأخير:
مرسومة قصيدتك بعيني أيتها المغزولة بوجودي السابحة ببحاري الناضجة بثماري يرتدي قلبي عشقك نبضا يدق أوتاري فتفاجئني شمس صباحاتك ترسل عطرها بنهاري تمنح الكون سر بهائها فترقص العصافير تبث فرحها المقيم بأعالي الأشجار
في مقابلة في إحدى القنوات الإخبارية ظهرت الأم الشابة التي تتحدث بألم وأسى عن الحالة التي وصلوا إليها... اقرأ المزيد
123
| 01 أكتوبر 2025
في رحاب معهد الدراسات الجنائية التابع للنيابة العامة في دولة قطر، خضتُ تجربة جميلة وجديرة بالتوثيق، إذ قدّمت،... اقرأ المزيد
153
| 01 أكتوبر 2025
في إطار الاهتمام المتنامي الذي توليه الدولة لفئة التدخل المبكر ورعاية الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، جاءت خطوة... اقرأ المزيد
141
| 01 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
5562
| 25 سبتمبر 2025
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
5394
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4425
| 29 سبتمبر 2025