رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في يوم 30 مايو، انعقدت الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي بنجاح في بكين، حيث ألقى الرئيس الصيني شي جينبينغ كلمة رئيسية في الجلسة الافتتاحية للاجتماع.
أشار الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى أنه في العالم الذي يعتمد فيه بعضنا على البعض، إن الجانب الصيني على استعداد للعمل مع الجانب العربي على مواصلة تعزيز المواءمة بين الاستراتيجيات التنموية، ومواصلة ترسيخ حجر الزاوية للتعاون في مجالات النفط والغاز والتجارة والبنية التحتية، والإسراع في تكوين نقاط التنمية الجديدة في مجالات الذكاء الاصطناعي والاستثمار والتمويل والطاقة الجديدة، بغية السير على طريق الابتكار والخضرة والازدهار بشكل مشترك. يتعين على الصين والدول العربية المساعدة في مواصلة تسريع تنمية المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك وإنشاء نموذج يحتذى به للمنفعة المتبادلة والفوز المشترك والتعلم المتبادل والتقدم المشترك. ولتحقيق هذه الأهداف، سيعمل الجانب الصيني مع الجانب العربي على البناء المشترك لـ»المعادلات الخمس للتعاون» وعلى إثراء وتوسيع التعاون العملي بين الصين والدول العربية في مجالات مثل التعاون المدفوع بالابتكار والتعاون الاستثماري والمالي والتعاون في مجال الطاقة والتعاون الاقتصادي والتجاري المتبادل المنفعة والتواصل الثقافي والشعبي.
إن المبادرة الجديدة المتمثلة في « المعادلات الخمس للتعاون « لا تأخذ مزايا الجانبين للتعاون في الاعتبار فقط، ولكنها استكشفت الإمكانات الجديدة للتعاون الصيني العربي بشكل أعمق، مما يوسع عمق التعاون الصيني العربي ونطاقه ويعود بالخير على الشعبين الصيني والعربي على نطاق واسع.
الذكرى العاشرة للشراكة
يصادف هذا العام الذكرى العاشرة لتأسيس الشراكة الاستراتيجية بين الصين وقطر. على مدى العقد الماضي، إن النتائج المثمرة التي حققتها الصين وقطر في مجال التعاون العملي تعكس الممارسة الحية للجانبين في تكريس روح الصداقة الصينية العربية والعمل على بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك.
وتحت التوجيه الاستراتيجي للرئيس الصيني شي جينبينغ وأمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فإن التعاون العملي بين الصين وقطر يتميز بالخصائص المميزة المتمثلة في تكامل المزايا والمنفعة المتبادلة والفوز المشترك، وقد شكل معادلات التعاون الجديدة التي تتخذ التعاون في مجال الطاقة كمحور رئيسي وتعتبر إنشاء البنية التحتية نقطة رئيسية والاستثمار المالي والتكنولوجيا الفائقة نقاط النمو الجديدة.
فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين وقطر من 10.6 مليار دولار أمريكي في عام 2014 إلى 24.5 مليار دولار أمريكي في عام 2023، بزيادة تتجاوز 130%. وتعد الصين أكبر شريك تجاري لقطر وأكبر مقصد للصادرات القطرية لأربع سنوات متتالية منذ عام 2020؛ بينما أصبحت قطر ثاني أكبر مصدر للصين لواردات الغاز الطبيعي المسال في العالم.
مشاريع عملاقة
إلى جانب ذلك، تتشارك الشركات الصينية بنشاط في استثمار وبناء المشاريع العملاقة في قطر مثل مجالات النفط والغاز، الموانئ والمطارات، وشبكات الاتصالات، والأماكن الرياضية، والخزانات الاستراتيجية، والطاقة النظيفة، والنقل الأخضر، مما يقدم مساهمات إيجابية في تحسين البنية التحتية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في قطر.
كما أن فرع الدوحة للبنك الصناعي والتجاري الصيني وفرع مركز قطر المالي لبنك الصين يعدان أكبر مؤسستين ماليتين من حيث إجمالي الأصول في مركز قطر المالي، ويندمجان بنشاط في المجتمع المحلي ويقدمان الدعم المالي والخدمات المالية المتنوعة للمؤسسات المحلية.
وفي الوقت الحالي، تعمل الصين على تعزيز التحديث الصيني النمط من خلال التنمية العالية الجودة، الأمر الذي يوفر لجميع دول العالم سوقا واسعة وفرصا تنموية غير مسبوقة. أطلقت دولة قطر استراتيجيتها التنموية الوطنية الثالثة 2024-2030، سعياً إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة الواردة في رؤية قطر الوطنية 2030.
* يحرص الجانب الصيني، تحت الاسترشاد بروح الكلمة المهمة التي ألقاها الرئيس الصيني شي جينبينغ في الاجتماع الوزاري لهذا المنتدى، على تعزيز المواءمة بين الاستراتيجيات التنموية للبلدين، وتعزيز مستوى أعلى من المنفعة المتبادلة والفوز المشترك، ودفع التعاون الصيني القطري في البناء المشترك العالي الجودة لـ «الحزام والطريق» حتى يصبح الجانبان شريكين استراتيجيين في مسارات التنمية الوطنية الخاصة بهما.
أولا، بناء معادلة جديدة أكثر تكاملا للتعاون بمجال الطاقة. تعد قطر أكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وتخطط لرفع إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال إلى 142 مليون طن سنويا، أي بزيادة 85% على الأساس الحالي بحلول عام 2030، لتحتل مكانة رائدة في مجال الطاقة النظيفة عالميا.
تكامل المزايا
تعد الصين أكبر مستورد للنفط والغاز في العالم، وأصبحت أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال من قطر. من أجل تحقيق التنمية الخضراء والالتزام بوعد مكافحة تغير المناخ، فإن الطلب الصيني على الطاقة النظيفة من الغاز الطبيعي المسال القطري سيستمر في النمو، إذ التعاون في مجال الطاقة المبني على تكامل المزايا والمنفعة المتبادلة والفوز المشترك بين الصين وقطر أصبح حجر الزاوية للتعاون العملي بين الصين وقطر. منذ العام الماضي، وقعت الشركات الصينية والقطرية اتفاقية البيع والشراء الأطول أمداً في التاريخ لتوريد الغاز الطبيعي المسال وطلب التعاون لناقلة الغاز الطبيعي المسال بأكبر مبلغ، الأمر الذي يعكس بوضوح التعاون بمجال الطاقة الطويل الأجل والمستقر والمنفعة المتبادلة بين الصين وقطر.
ويحرص الجانب الصيني على تعزيز التعاون مع الجانب القطري من أجل بناء معادلة جديدة أكثر تكاملا للتعاون بمجال الطاقة بين الصين وقطر، والتي تتميز بتكامل التجارة والاستثمار، وربط أمن التموين بأمن السوق، والتوازي بين الطاقة التقليدية والطاقة الجديدة.
التكنولوجيا المبتكرة
ثانيا، توسيع مجالات جديدة للتعاون في التكنولوجيا المبتكرة. يعد الابتكار عنصرا هاما في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة الواردة في استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة لدولة قطر، كما أن الابتكار يدفع بتحقيق هدف قطر الاقتصادي القائم على المعرفة بحلول عام 2030.
تعمل الصين حاليا بقوة على تطوير القوى الإنتاجية الجديدة النوعية، حيث تتخذ الابتكار التكنولوجي كعامل رائد وتعزز التنمية الراقية والذكية والخضراء للصناعات التقليدية، وتعمل بنشاط على تنمية الصناعات المستقبلية الناشئة، مما يساعد على التنمية العالية الجودة.
علاوة على ذلك، لقد أصبحت القوى الإنتاجية الجديدة النوعية قوة دافعة جديدة للتنمية العالية الجودة للتعاون العملي بين الصين وقطر. فمن حافلات الطاقة الجديدة التي تتنقل في شوارع الدوحة خلال كأس العالم 2022، إلى السيارات الكهربائية التي دخلت السوق القطرية مؤخرًا، إلى توقيع الاتفاقية لبناء 18 ناقلة للغاز الطبيعي المسال المتطورة من فئة «كيو سي-ماكس» الأكبر من نوعها في التاريخ بين الشركات الصينية والقطرية في أبريل من هذا العام، فهذه كلها ممارسات حية وأمثلة حية للقوى الإنتاجية الجديدة النوعية التي تمكّن التعاون العملي بين البلدين.
يحرص الجانب الصيني على تعزيز التنسيق مع الجانب القطري، وتوسيع التعاون في مجالات مثل علوم الحياة والصحة والذكاء الاصطناعي والتنمية الخضراء وانخفاض الكربون والتجارة الإلكترونية والزراعة الحديثة، من أجل بناء معادلة جديدة أكثر ديناميكية للتعاون العملي المدفوع بالابتكار.
خلق بيئة الأعمال العالية الجودة
ثالثا، تعزيز التقدم الجديد في التعاون التجاري والاستثماري والمالي. يعد تعزيز التنويع الصناعي وخلق بيئة الأعمال العالية الجودة عنصرين مهمين آخرين لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة الواردة في الاستراتيجية التنموية الوطنية الثالثة لدولة قطر. تشهد التنمية الاقتصادية في الصين تحسنا على المدى الطويل، وتتمتع بميزة الطلب المتمثلة في السوق الواسعة النطاق، وميزة العرض المتمثلة في النظام الصناعي الكامل، وميزة المواهب التي يوفرها عدد كبير من الموظفين الأكفاء ورجال الأعمال. فإن المزايا من الاقتصاد الصيني والاقتصاد قطري متكاملة إلى حد كبير، الأمر الذي يعطي إمكانات هائلة لتحقيق التطورات الجديدة في التعاون التجاري والاستثماري بين البلدين.
يحرص الجانب الصيني على اغتنام فرصة تولي قطر الرئاسة الدورية لمجلس التعاون الخليجي لتعزيز الاتصالات والتنسيق مع قطر، والدفع بالإنهاء المبكر للمفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، والمساعدة في تحرير وتسهيل التجارة والاستثمار بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، والمساعدة في تسريع عملية التنويع الصناعي لدول مجلس التعاون الخليجي بما في ذلك قطر. كما يرحب الجانب الصيني بالجانب القطري للاستخدام الجيد لمنصة الانفتاح الصينية رفيعة المستوى - معرض الصين الدولي للاستيراد، والمشاركة بنشاط في الدورة السابعة للمعرض التي ستعقد في شنغهاي في نوفمبر من هذا العام، وذلك لعرض بيئة الأعمال التنافسية والمنفتحة لدولة قطر وصورتها الوطنية الشاملة ومواردها السياحية الفريدة والجذابة أمام الشركات الصينية ودول أخرى في العالم، ولاجتذاب المزيد من الشركات الصينية للاستثمار وممارسة الأعمال التجارية في قطر، والمساعدة في توسيع صادرات قطر من المنتجات غير البتروكيماوية إلى الصين.
يرحب الجانب الصيني بانضمام المؤسسات المالية القطرية إلى نظام المدفوعات العابرة للحدود باليوان الصيني، وسيواصل بناء المنصات وتوفير التسهيلات لجهاز قطر للاستثمار والسلطات والشركات التنظيمية المالية القطرية من أجل توسيع التعاون الاستثماري والمالي في الصين، وذلك سيساعد الجانبين على تحقيق مستوى أعلى من المنفعة المتبادلة والفوز المشترك في التعاون الاستثماري والمالي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8823
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
4830
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
4455
| 14 أكتوبر 2025