رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لن أدخل في تعاريف أكاديمية فهذا ممكن الاطلاع عليه في الإنترنت، بيد أنى أريد أن أبين معاني الإدارة في هذه التعاريف التي تصف صيغة أداء في مناحي الحياة المتعددة وليس في حكم الدولة كرئيس أو ملك مثلا لذا سنفصل الموضوع وفق نوع الإدارة الفردي أو الديمقراطي، وفي كل الأحوال هنالك مؤسسات متشابهة لكن سياقات العمل فيها تختلف جذريا، فليس هنالك.
الحكم أو الإدارة الفردية:
تشترك الأوتوقراطية والديكتاتورية بسمة حكم الفرد والتمييز بينها من مخرجاتها، فالأوتوقراطية هي حكم فردي ويساعد الحاكم من ينفذ كلامه ومقتنع بأدائه، ولكن عنده رؤية ناجحة لبناء المجتمع والحرص عليه وثرواته وأملاكه ومعاشه كرفاهية واستقرار، الحاكم الفرد ليس ديكتاتوريا لانه لا يتبع الهوى وإنما يضع له مستشارين ويحرك وزاراته لتكون فاعلة ومنسجمة ورأي المستشارين يتبناه سواء في التنفيذ المباشر أو اختباره وترك مهمة تعديله للتكنوقراط التنفيدي كإدارة تنفيد، وهذا لا يعني انه لن يتحول إلى ديكتاتور أو طاغية.
هنالك مديرون لمؤسسات كبرت أم صغرت يتبعون هذا الأسلوب وفي القيادة الإدارية، لديهم خطة معينة يحاولون أن ينفذها الآخرون بقليل من الأسئلة، يرتكز على مجموعة يثق بها في التنفيذ والتعديل، وهو يفكر في صالح المنظومة تماما متفانٍ وقته كله للمنظومة يخشى المنافسة أو أي مهارة ليست ذات ولاء له ويعتبرها خطرا عليه حتى لو كان محتاجا لمهارتها لا يقدمها إلا انه يستشيرها بطريق غير مباشرة، هذا الاستملاك لمنظومة غالبا غريزيا للحفاظ على السلطة التي لا يميل إبدالها حتى لو أعطي منصبا أكبر ولكن بدون ميزاتها فهو نوع من التوحد والكرسي والمهام، والخطر بغيابه أو انه لا يجيد فعلا المهام الفنية بدقائقها، هذا النوع عند مغادرته ندرما تجد له من يتوافق معه لانه لم يبن علاقات استراتيجية وإنما كانت كلها ضمن تكتيكات إدارته لمركزه الوظيفي.
الديكتاتورية
مديرو المؤسسات الذين يميلون للاستبداد والديكتاتورية غالبا مرضى النرجسية، يرفضون أن يشاركهم احد في القرار رغم انهم حتى وان كانوا غير مؤهلين لاتخاذه بل يلزمون من معهم أن لا يتدخلوا أو يعترضوا على القرار وان استوجب الأمر فبأي حجة يوقف أي صوت معارض أو له رأي مخالف وان كان صوابا، هذا النوع سيتحمل المسؤولية كاملة نظريا، لكنه جبان في استقبال النتائج السلبية لقراره وتحمل مسؤولية ذلك، فيلقي المسؤولية في الإخفاق على احد العاملين معه ويشير انه منع التدخل لكنه تدخل فتسبب بهذا الخلل وكل هذا يتم ربما دون معرفة تفصيلية لمن يتهم خصوصا في المنظومة الحكومية الفاشلة التي تتعامل مع الإدارة كمدير وتقبل تعليلاته وتنهي المشكلة بسبب يبدو مقنعا لأناس غالبا ارتبط معهم بعلاقة من نوع ما تستجيب لمصالحهم وهم يتعاملون مع الإدارة من خلال شخص واحد بلا استطلاعات أو اطلاع على الكفاءات وهذا من عيوب الإدارات العامة، التي تسمح له بسرقة جهودهم.
الديكتاتور في الحكم يبدأ كأوتوقراطي، ثم يقرب من يطيعه ويبعد من يعترض عليه أو يصوب رأيه، فيصبح ضمن دائرة من أصحاب المصالح ونظامه، فكل ما يقول ينبهرون به وكل ما يعمل يصبح شعارا وقانونا، فيخدع نفسه وهو مدرك لخداع نفسه ثم يصدق انه صادق مع نفسه وهنا نقطة مفصلية يتحول معها إلى الطغيان فهو لا يخطئ وهو الأفضل، وحتى يصرح (إن وجدتم افضل مني فأبدلوني) لانه يعتقد أن لا يحل محله احد ولا يرى كم الفشل الإداري الذي يرافق الطغيان في الدولة الحديثة التي بنيت أساسا لتعمل كمؤسسات تتكامل، ولا يرى أن قراراته تؤدي للتخلف ويعتبر كل من يخالفه عدوا للوطن وليس له شخصيا فيستبيح كل ما فيه ومحيطه احترازا، وفي كل خطوة يزرع بذور الثورة والزوال، وهذا إما يزرع في كل المؤسسات ما يؤدلجها طلبا للولاء فينتشر النفاق والاستعداد للفساد أو انه يعتمد الطاعة عند التكنوقراط، والتكنوقراط ضمان لاستمرار مؤسسات الدولة عند حصول التغيير المحتوم، أما الولاء فهو عنصر هدم للنظام نفسه قبل أن ينفجر بركانا من الفساد إن غاب الطاغية.
الديمقراطية:
الديمقراطية بلا الحريات وسيادة القانون أمر شكلي لا يعني أكثر من شرعنه للحاكم وطغيان الطاغية وتثبيت للرعب والفساد والانحلال، بيد أننا نتحدث عن منهج تعاملات بينية في الحكم الديمقراطي، حيث يكون للكل رأي، ولعل منظومات الجودة الكاملة في الإنتاج تمثل حالة تطبيقية للديمقراطية بل تتجاوزها إلى مفهوم الشورى الإسلامي الذي هو أعمق من المصطلحات الحامية للرأسمالية.
فالديكتاتور يدعو لانتخابات وكذلك الطاغية ولا يرضى عن النتائج إن قلت اقل من 100% فهو لا يحتمل معارضا له ولو بالخيال، أما في المؤسسات فقد استعيض لتفعيل الديمقراطية عن البرلمان بمجلس الإدارة لكن رئيس مجلس الإدارة يبقى هو المدير العام حرصا على دقة القرارات وانسيابية العمل، وهذا يصبح شكليا، كذلك المجالس المحلية ما لم تكن ملتزمة، فان حاكم الولاية أو المتصرف أو المحافظ سيجد طريقا لاختراقها ثم الاستبداد الخفي بغطائها.
وسواء كان المنهج الديمقراطي ينتج سلبية أو إيجابية فالكل مسؤول عنها وهذا محبط عندما لا تضبط القوانين الأنا عند المتسلط في أي منظومة حتى الأسرة، لكنها إن أريد البناء فهي آلية سليمة لحسن الاختيار.
الأسرة:
الأسرة كأصغر وحدة أساس في بناء المجتمع قد يسود بها أحد النظم، وحسن الخلق أي رد الفعل الحسن مطلوب ممن يقودها، فالاحتواء الإيجابي ليس بالطغيان.
خلاصة القول، إن التمكين ليس الهيمنة وإنما تمكين المجتمع لإبراز طاقاته وفهم حياته وليس التمكن عليه، وأن الدول كما أصغر وحدة في المجتمع لا يمكن أن تقاد بالعنف أو الرأي الواحد وإنما بترشيد الأمور فلا تكون الحياة سجنا، ولا تكون الحياة فوضى.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
795
| 16 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بظهور بعض الشخصيات والحركات، المدنية والمسلحة، التي تحاول القيام بأدوار إيجابية أو سلبية، وخصوصا في مراحل بناء الدول وتأسيسها. ومنطقيا ينبغي على مَن يُصَدّر نفسه للقيام بأدوار عامة أن يمتاز ببعض الصفات الشخصية والإنسانية والعملية والعلمية الفريدة لإقناع غالبية الناس بدوره المرتقب. ومن أخطر الشخصيات والكيانات تلك التي تتعاون مع الغرباء ضد أبناء جلدتهم، وهذا ما حدث في غزة خلال «طوفان الأقصى» على يَد «ياسر أبو شباب» وأتباعه!. و»أبو شباب» فلسطيني، مواليد 1990، من مدينة رفح بغزة، وَمَسيرته، وفقا لمصادر فلسطينية، لا تُؤهّله للقيام بدور قيادي ما!. ومَن يقرأ بعض صفحات تاريخ «أبو شباب»، الذي ينتمي لعائلة «الترابية» المستقرة في النقب وسيناء وجنوبي غزة، يجد أنه اعتُقِل في عام 2015، في غزة، حينما كان بعمر 25 سنة، بتهمة الاتّجار بالمخدّرات وترويجها، وحكم عليه بالسجن 25 سنة. وخلال مواجهات «الطوفان» القاسية والهجمات الصهيونية العشوائية على غزة هَرَب «أبو شباب» من سجنه بغزة، بعدما أمضى فيه أكثر من ثماني سنوات، وشكّل، لاحقا، «القوات الشعبية» بتنسيق مع الشاباك «الإسرائيلي»، ولم يلتفت إليها أحد بشكل ملحوظ بسبب ظروف الحرب والقتل والدمار والفوضى المنتشرة بالقطاع!. وبمرور الأيام بَرَزَ الدور التخريبي لهذه الجماعة، الذي لم يتوقف عند اعترافها بالتعاون مع أجهزة الأمن «الإسرائيلية» بل بنشر التخريب الأمني، والفتن المجتمعية، وقطع الطرق واعتراض قوافل المساعدات الإنسانية ونهبها!. وأبو شباب أكد مرارًا أن جماعته تَتَلقّى الدعم «دعماً من الجيش الإسرائيلي»، وأنهم عازمون على «مواصلة قتال حماس حتى في فترات التهدئة»!. وهذا يعني أنهم مجموعة من الأدوات الصهيونية والجواسيس الذين صورتهم بعض وسائل الإعلام العبرية كأدوات بديلة لتخفيف «خسائر الجيش الإسرائيلي باستخدامهم في مهام حسّاسة بدل الاعتماد المباشر على القوات النظامية»!. ويوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2025 أُعلن عن مقتل «أبو شباب» على يد عائلة «أبو سنيمة»، التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث: وأنهم «واجهوا فئة خارجة عن قيم المجتمع الفلسطيني». وبحيادية، يمكن النظر لهذا الكيان السرطاني، الذي أسندت قيادته بعد مقتل «أبو شباب» إلى رفيقه «غسان الدهيني» من عِدّة زوايا، ومنها: - الخيانة نهايتها مأساوية لأصحابها، وماذا يَتوقّع أن تكون نهايته مَن يَتفاخر بعلاقته مع الاحتلال «الإسرائيلي»؟ - دور جماعة «أبو شباب» التخريبي على المستويين الأمني والإغاثي دفنهم وهم أحياء، مِمّا جعل مقتل «أبو شباب» مناسبة قُوْبِلت بالترحيب من أكثرية الفلسطينيين وغيرهم. - مقتل «أبو شباب» يؤكد فشل الخطة «الإسرائيلية» بجعل مجموعته المُتَحكِّم بمدينة «رفح» وجعلها منطقة «حكم ذاتي» خارج سيطرة المقاومة، وبهذا فهي ضربة أمنية كبيرة «لإسرائيل» التي كانت تُعوّل عليهم بعمليات التجسّس والتخريب. - قد تكون «إسرائيل» تَخلّصت منه، قبل إرغامها، بضغوط أمريكية، على المضي بالمرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار وذلك بتركه ليواجه مصيره كونه قُتِل بمنطقة سيطرة جيشها!. - الحادثة كانت مناسبة لدعم دور المقاومة على أرض غزة، ونقلت هيئة البثّ «الإسرائيلية»، الأحد الماضي، عن مصادر فلسطينية أن «مسلحين ينتمون لمليشيات عشائرية معارضة لحماس سَلّموا أنفسهم طواعية لأجهزة (حماس) الأمنية في غزة». منطقيًا، لو كانت جماعة «أبو شباب» جماعة فلسطينية خالصة ومنافسة بعملها، السياسي والعسكري، للآخرين بشفافية وصدق لأمكن قبول تشكيلها، والتعاطي معه على أنه جزء من المشاريع الهادفة لخدمة القطاع، ولكن حينما تَبرز خيوط مؤكدة، وباعترافات واضحة، بارتباط هذا الكيان وشخوصه بالاحتلال «الإسرائيلي» فهنا تكون المعضلة والقشّة التي تَقصم ظهر الكيان لأن التعاون مع المحتل جريمة لا يُمكن تبريرها بأيّ عذر من الأعذار. مقتل «أبو شباب» كان متوقعا، وهي النهاية الحتمية والسوداء للخونة والعملاء الذين لا يَجدون مَن يُرحب بهم من مواطنيهم، ولا مَن يَحْتَرِمهم من الأعداء، ولهذا هُم أموات بداية، وإن كانوا يمشون على الأرض، لأنهم فقدوا ارتباطهم بأهلهم وقضيتهم وإنسانيتهم.
657
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة المنال، ويظنون أن تحصيلها لا يكمن سوى في تحقيق طموحاتهم ومضامين خططهم، لكن السعادة ربما تأتيك على هيئة لا تنتظرها، قد تأتي فجأة وأنت في لحظة من الغفلة، فتكون قريبة منك أشد القرب، كما لو كانت تلتف حولك وتحيط بك من كل جانب. كثيرًا ما تختبئ السعادة في تلك التفاصيل التي لا تكترث بها، في تلك اللحظات التي تمر سريعة وكأنها حلم. ربما مر عليك تلك الليلة التي تلوت فيها القرآن، فتوقف قلبك عند آية بعينها، فانبعثت من أعماقك مشاعر جديدة، فسالت دموعك على وجنتيك، أو ربما كانت تلك الدمعة الثمينة قد سكبتها في إناء ركعة بجوف الليل، فسرت فيك طمأنينة وسكينة ورقة لم تعهدها، لا تعدل بها شيئًا من لذات الدنيا، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وربما مر عليك يوم، كنت تقلب منزلك رأسًا على عقب بحثًا عن شيء مفقود، وبينما أنت في حال من اليأس، تتذكر موضعه، أو يظهر لك في موضع لم تتوقعه كأنه يهدئ من روعك قائلًا: «هأنذا»، فتبتسم وتبتسم وتتسع ابتسامتك، ألم تكن هذه اللحظة الرائعة موعدًا لك مع السعادة؟ وذلك الفقير الذي يعاني من ضيق اليد، ربما قضى ليلته مهمومًا يفكر كيف يدبر قوتًا أو شيئًا من أمور المعاش لأهله، وبينما يخرج مجترًا همومه، يكتشف في جيب سترته القديمة ورقات نقدية قد نسيها منذ العام الماضي، فيتحول ذلك الفقر إلى لحظة من الفرح، ألم يكن هذا الرجل على موعد مع السعادة؟ حدثني أحدهم وكان حديث عهدٍ بالزواج أن صديقًا طرق بابه يطلب منه بعض المال، وهو لا يملك في جيبه غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيه، لكنه يأبى أن يرد سائله، ويؤثره على نفسه رغم الخصاصة، ثم في نفس اليوم تزوره خالة له جاءت من سفر على غير موعد، لتبارك له وتهنئه، فأعطته مبلغًا من المال، فإذا به يراه نفس المبلغ الذي بذله إلى صديقه بالتمام والكمال لم ينقص منه قرش، فتجلى أمامه ذلك الوعد الإلهي بالعوض، ألم يكن ذلك الرجل على موعد مع السعادة؟ وذاك الذي كان على وشك أن يسقط في يد أعدائه وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه، وبينما كان الخنجر يوشك أن يغرس في صدره، إذا به يستفيق فجأة من حلم مزعج، ويكتشف أنه كان مجرد كابوس، فيحمد الله على نجاته باليقظة من ذلك الهلع، ألم يكن وقت نجاته من ذلك الكابوس على موعد مع السعادة؟ وماذا عن تلك اللحظة التي أخذت فيها بيد عجوز هرم، تمشي بصعوبة وتبدو ملامحها تحمل سنوات من التجاعيد، لتسير بها إلى الجهة الأخرى من الطريق؟ ثم ترى تلك الدعوات التي تتدفق منها، والتي تظل تشعرك بالدفء والسعادة، وكأن دعاءها درعٌ لك، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وكم هي السعادة حقيقية عندما يتمكن من الإصلاح بين زوجين كانا على شفير الفراق، فيكون سببًا في حماية ذلك البيت من الخراب؟ أو عندما يغمره الضحك على فكاهة بريئة تكاد تطيح به على ظهره من شدة السعادة؟ ألا يجد السعادة في تلك اللحظة الصغيرة عندما يقابل طفلة مبتسمة في الشارع، تملأ قلبه بالفرح بلا سبب آخر سوى ابتسامتها الطفولية؟ أليست كل هذه المشاهد مواعيد للمرء مع السعادة؟ السعادة تكمن في كل زاوية، في لمحة صغيرة، في حديث عابر، في ابتسامة، في دعوة، في لحظة طمأنينة، في إنجاز بسيط. نحن الذين نغفل عنها لأننا نبحث عنها في مكان بعيد، ولو أننا فهمنا أن السعادة ليست في ما نمتلكه من أشياء، بل في قدرتنا على الرضا، لتغيرت حياتنا. ليتنا ندرك أن السعادة ليست حلمًا بعيدًا أو حلمًا محجوزًا لمن يسعى للوصول إلى شيء معين، بل هي لحظات متجددة متغيرة متناوبة في كل يوم. السعادة موجودة في القلوب الراضية، وفي الأرواح الطاهرة، وفي الأبصار التي تلتقط جمال الحياة حتى في أصغر تفاصيلها، وما علينا سوى أن نرصد واقعنا بعين القناعة والتفاؤل، نتخلى قليلًا عن النظارة السوداء، فندرك أن مواعيد السعادة لا تنتهي.
642
| 14 ديسمبر 2025