رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مضى عام 2023 وترك وراءه استمرار حالة الصراع والتوتر الحاد على مستوى الصراعات الرئيسية في النظام الدولي، وعلى رأسها الصراع الأمريكي الصيني، والحرب في أوكرانيا، إلى جانب فتح بؤر صراع حادة جديدة، وأهمها الحرب في غزة، والصراع في السودان، والبحر الأحمر عبر هجمات الحوثيين.
وعام 2023 لم يختلف كثيراً عن سابقيه، بل ربما يتزايد قليلا من حيث نطاق وقوة الصراعات، لكن الشاهد في الأمر أن حالة الصراع والتوتر قد باتت السمة الغالبة للنظام الدولي. وليس في هذا الأمر ما يستحق التعجب، فالصراع هو حالة مستدامة في النظام الدولي الواقعي الفوضوي- بحسب المدرسة الواقعية - لكن يعزو تطور وتزايد حدة الصراع في السنوات الأخيرة إلى أسباب متعددة، أهمها تزايد حدة المنافسة بين القوى الكبرى والصراع على القيادة الدولية والأدوار المركزية، وتراجع دور الولايات المتحدة في النظام الدولي الذي كان بمثابة شرطي النظام الدولي القادر على إخماد التوترات في مهدها خاصة التوترات في المنطقة.
ويتبدى مما سبق- رغم أن تلك المقالة رؤية استشرافية للنظام الدولي لـ 2024- أن حالة الصراع والتوتر ستستمر لعام 2024 وما بعدها. لكن درجة وتطور تلك الصراعات هو ما سنحاول استشرافه بإيجاز في المقالة.
الصراع الأمريكي الصيني هو ما يجب البدء في الحديث عنه، بل هو المرتكز الرئيسي الحاكم لمعظم الصراعات في النظام الدولي، ونمط هذا النظام ومستقبله. الصراع الأمريكي الصيني لن يتوقف فكلتا القوتين في حرب باردة ومنافسة شديدة على كافة المستويات، ولن يتوقف لأنه صراع على حسم قيادة العالم. لكنه في الوقت عينه لن يحسم بمواجهة عسكرية (ستكون الحرب العالمية الثالثة بحق) في القريب العاجل، لأن كلتا القوتين تسير المنافسة بعقلانية ورشادة شديدة وفقاً لمبدأ «التنافس الإستراتيجي» وهو مبدأ يقوم على مرتكزات كثيرة أهمها «رهان الوقت»، بمعنى تكسير عظام بطيء على المدى الطويل.
وربما من السيناريوهات المتفائلة لعام 2024، والتي قد يعارضها الكثيرون، وهو تخفيض حدة التوتر بين القوتين. إذ على الرغم من أن بايدن قد انتهى 2023 بالتصديق على قانون الإنفاق العسكري الجديد الموَجَّه بالكامل ضد الصين بميزانية تناهز 800 مليار دولار. ومع ذلك، ثمة بوادر عدة على توافق القوتين على تقليص التوتر، ومن أهمها استئناف الاتصال العسكري، وزيارات «بلينكن» لبكين التي تشي برغبة أمريكية كبيرة في تخفيض التوتر. وقد يعزو ذلك إلى رغبة القوتين في التعاون لإنهاء الحرب الأوكرانية، ومواجهة قضية التغير المناخي، والحرب في غزة، وصراعات المنطقة عموماً. فضلا عن أن 2024 هو عام حاسم لبايدن بسبب انتخابات الرئاسة.
إذن ستدفع تبعات 2023 وما قبلها القوتين إلى حتمية تخفيض مستوى الصراع إلى قدر المستطاع، والتعاون بنفس المستوى أيضاً. فقضية مثل التغير المناخي والتي وصلت إلى مستويات حرجة جدا من الخطورة، تحتم على القوتين التعاون بسبب الأضرار شديدة الوطأة عليهما. وتقليص مستوى الصراع بين القوتين، سيؤدى إلى تقليص موازٍ في آسيا، خاصة فيما يتعلق بالتجارب النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، التي اشتعلت كبؤرة توتر في جنوب شرق آسيا. كذلك، على مستوى الصراع بين الهند والصين، والأخيرة واليابان.
وتعد الحرب الأوكرانية، أخطر بؤر الصراع في العالم. إذ لا تكمن الحرب في مطالب ومزاعم روسيا فيها، بل لها أبعاد تتجاوز ذلك بكثير. ولعل أهم تلك الأبعاد هو تداخلها في معادلة الصراع على تحديد النظام الدولي الجديد وأدوار القوى الدولية الكبرى فيه. والحرب الأوكرانية في 2024 تتجه إلى سيناريوهين رئيسيين: الأول استمرار حالة التوازن على مستوى جبهة الصراع بين الجيشين الروسي والأوكراني. والثاني محاولة إنهاء هذه الحرب بضغط أمريكي روسي. ويتبدى من مجريات الصراع ومواقف الأطراف المتورطة فيه، وخاصة الموقف الغربي بقيادة الولايات المتحدة؛ أرجحية السيناريو الثاني. فالمجموعة الغربية بقيادة واشنطن يبدو أنها قد سئمت من استمرار هذه الحرب، والأهم تشعر باستنزاف اقتصادي كبير جراء الدعم المستمر لأوكرانيا. ففي مشروع الإنفاق العسكري الجديد للولايات المتحدة، تم تقليص مساعدات مالية لأوكرانيا بفضل معارضة شديدة من الكونجرس. ولم يختلف الأمر كثيراً مع الأوروبيين الذين لم يخفوا نواياهم بتقليص الدعم لأوكرانيا.
والوضع في المنطقة لاسيما على صعيد الحرب في غزة والصراع في السودان، فمن الصعب التكهن بمسارهما في 2024. فحرب إسرائيل الهوجاء على غزة، تعد بالنسبة لها صراع وجود. لكن رغم ذلك، فعلى الأرجح- بسبب الضغوط الأمريكية - توقف حدة هذه الحرب على القطاع، والأهم الحيلولة دون توسعها على جبهات قتال أخرى لاسيما مع حزب الله. لكنها لن تتوقف تماما، كذلك الصراع مع حزب الله اللبناني لن يتسع لينزلق لحرب شاملة، لكنه أيضا لن يتوقف.
إذ تمارس الولايات المتحدة ضغوطا شديدة للغاية على إسرائيل لتوقف هذه الحرب بسبب تداعياتها الكارثية وصعوبة تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة (القضاء التام على حماس وتهجير أهالي القطاع). فاستمرار هذه الحرب يعني مزيداً من تورط واشنطن في المنطقة وهو ما ترفضه واشنطن بشكل قاطع.
من جملة ما سبق، نستشرف أن عام 2024 سيكون عام تقليص حدة التوتر في النظام الدولي، وخاصة على مستوى الصراع المركزي الرئيسي الصيني - الأمريكي. لكن التوتر والصراع في 2024 لن يتوقف، وربما تطرأ بؤر صراع جديدة، لأن النظام الدولي انخرط في حالة توتر مزمن على خلفية تراجع قوة الولايات المتحدة، وتنامي الفوضى الدولية، وزيادة قوة القوى الدولية الساعية إلى ترتيب النظام الدولي وأدوارها فيه وفقاً لرؤيتها ومصالحها وقوتها.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
819
| 16 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بظهور بعض الشخصيات والحركات، المدنية والمسلحة، التي تحاول القيام بأدوار إيجابية أو سلبية، وخصوصا في مراحل بناء الدول وتأسيسها. ومنطقيا ينبغي على مَن يُصَدّر نفسه للقيام بأدوار عامة أن يمتاز ببعض الصفات الشخصية والإنسانية والعملية والعلمية الفريدة لإقناع غالبية الناس بدوره المرتقب. ومن أخطر الشخصيات والكيانات تلك التي تتعاون مع الغرباء ضد أبناء جلدتهم، وهذا ما حدث في غزة خلال «طوفان الأقصى» على يَد «ياسر أبو شباب» وأتباعه!. و»أبو شباب» فلسطيني، مواليد 1990، من مدينة رفح بغزة، وَمَسيرته، وفقا لمصادر فلسطينية، لا تُؤهّله للقيام بدور قيادي ما!. ومَن يقرأ بعض صفحات تاريخ «أبو شباب»، الذي ينتمي لعائلة «الترابية» المستقرة في النقب وسيناء وجنوبي غزة، يجد أنه اعتُقِل في عام 2015، في غزة، حينما كان بعمر 25 سنة، بتهمة الاتّجار بالمخدّرات وترويجها، وحكم عليه بالسجن 25 سنة. وخلال مواجهات «الطوفان» القاسية والهجمات الصهيونية العشوائية على غزة هَرَب «أبو شباب» من سجنه بغزة، بعدما أمضى فيه أكثر من ثماني سنوات، وشكّل، لاحقا، «القوات الشعبية» بتنسيق مع الشاباك «الإسرائيلي»، ولم يلتفت إليها أحد بشكل ملحوظ بسبب ظروف الحرب والقتل والدمار والفوضى المنتشرة بالقطاع!. وبمرور الأيام بَرَزَ الدور التخريبي لهذه الجماعة، الذي لم يتوقف عند اعترافها بالتعاون مع أجهزة الأمن «الإسرائيلية» بل بنشر التخريب الأمني، والفتن المجتمعية، وقطع الطرق واعتراض قوافل المساعدات الإنسانية ونهبها!. وأبو شباب أكد مرارًا أن جماعته تَتَلقّى الدعم «دعماً من الجيش الإسرائيلي»، وأنهم عازمون على «مواصلة قتال حماس حتى في فترات التهدئة»!. وهذا يعني أنهم مجموعة من الأدوات الصهيونية والجواسيس الذين صورتهم بعض وسائل الإعلام العبرية كأدوات بديلة لتخفيف «خسائر الجيش الإسرائيلي باستخدامهم في مهام حسّاسة بدل الاعتماد المباشر على القوات النظامية»!. ويوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2025 أُعلن عن مقتل «أبو شباب» على يد عائلة «أبو سنيمة»، التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث: وأنهم «واجهوا فئة خارجة عن قيم المجتمع الفلسطيني». وبحيادية، يمكن النظر لهذا الكيان السرطاني، الذي أسندت قيادته بعد مقتل «أبو شباب» إلى رفيقه «غسان الدهيني» من عِدّة زوايا، ومنها: - الخيانة نهايتها مأساوية لأصحابها، وماذا يَتوقّع أن تكون نهايته مَن يَتفاخر بعلاقته مع الاحتلال «الإسرائيلي»؟ - دور جماعة «أبو شباب» التخريبي على المستويين الأمني والإغاثي دفنهم وهم أحياء، مِمّا جعل مقتل «أبو شباب» مناسبة قُوْبِلت بالترحيب من أكثرية الفلسطينيين وغيرهم. - مقتل «أبو شباب» يؤكد فشل الخطة «الإسرائيلية» بجعل مجموعته المُتَحكِّم بمدينة «رفح» وجعلها منطقة «حكم ذاتي» خارج سيطرة المقاومة، وبهذا فهي ضربة أمنية كبيرة «لإسرائيل» التي كانت تُعوّل عليهم بعمليات التجسّس والتخريب. - قد تكون «إسرائيل» تَخلّصت منه، قبل إرغامها، بضغوط أمريكية، على المضي بالمرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار وذلك بتركه ليواجه مصيره كونه قُتِل بمنطقة سيطرة جيشها!. - الحادثة كانت مناسبة لدعم دور المقاومة على أرض غزة، ونقلت هيئة البثّ «الإسرائيلية»، الأحد الماضي، عن مصادر فلسطينية أن «مسلحين ينتمون لمليشيات عشائرية معارضة لحماس سَلّموا أنفسهم طواعية لأجهزة (حماس) الأمنية في غزة». منطقيًا، لو كانت جماعة «أبو شباب» جماعة فلسطينية خالصة ومنافسة بعملها، السياسي والعسكري، للآخرين بشفافية وصدق لأمكن قبول تشكيلها، والتعاطي معه على أنه جزء من المشاريع الهادفة لخدمة القطاع، ولكن حينما تَبرز خيوط مؤكدة، وباعترافات واضحة، بارتباط هذا الكيان وشخوصه بالاحتلال «الإسرائيلي» فهنا تكون المعضلة والقشّة التي تَقصم ظهر الكيان لأن التعاون مع المحتل جريمة لا يُمكن تبريرها بأيّ عذر من الأعذار. مقتل «أبو شباب» كان متوقعا، وهي النهاية الحتمية والسوداء للخونة والعملاء الذين لا يَجدون مَن يُرحب بهم من مواطنيهم، ولا مَن يَحْتَرِمهم من الأعداء، ولهذا هُم أموات بداية، وإن كانوا يمشون على الأرض، لأنهم فقدوا ارتباطهم بأهلهم وقضيتهم وإنسانيتهم.
660
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة المنال، ويظنون أن تحصيلها لا يكمن سوى في تحقيق طموحاتهم ومضامين خططهم، لكن السعادة ربما تأتيك على هيئة لا تنتظرها، قد تأتي فجأة وأنت في لحظة من الغفلة، فتكون قريبة منك أشد القرب، كما لو كانت تلتف حولك وتحيط بك من كل جانب. كثيرًا ما تختبئ السعادة في تلك التفاصيل التي لا تكترث بها، في تلك اللحظات التي تمر سريعة وكأنها حلم. ربما مر عليك تلك الليلة التي تلوت فيها القرآن، فتوقف قلبك عند آية بعينها، فانبعثت من أعماقك مشاعر جديدة، فسالت دموعك على وجنتيك، أو ربما كانت تلك الدمعة الثمينة قد سكبتها في إناء ركعة بجوف الليل، فسرت فيك طمأنينة وسكينة ورقة لم تعهدها، لا تعدل بها شيئًا من لذات الدنيا، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وربما مر عليك يوم، كنت تقلب منزلك رأسًا على عقب بحثًا عن شيء مفقود، وبينما أنت في حال من اليأس، تتذكر موضعه، أو يظهر لك في موضع لم تتوقعه كأنه يهدئ من روعك قائلًا: «هأنذا»، فتبتسم وتبتسم وتتسع ابتسامتك، ألم تكن هذه اللحظة الرائعة موعدًا لك مع السعادة؟ وذلك الفقير الذي يعاني من ضيق اليد، ربما قضى ليلته مهمومًا يفكر كيف يدبر قوتًا أو شيئًا من أمور المعاش لأهله، وبينما يخرج مجترًا همومه، يكتشف في جيب سترته القديمة ورقات نقدية قد نسيها منذ العام الماضي، فيتحول ذلك الفقر إلى لحظة من الفرح، ألم يكن هذا الرجل على موعد مع السعادة؟ حدثني أحدهم وكان حديث عهدٍ بالزواج أن صديقًا طرق بابه يطلب منه بعض المال، وهو لا يملك في جيبه غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيه، لكنه يأبى أن يرد سائله، ويؤثره على نفسه رغم الخصاصة، ثم في نفس اليوم تزوره خالة له جاءت من سفر على غير موعد، لتبارك له وتهنئه، فأعطته مبلغًا من المال، فإذا به يراه نفس المبلغ الذي بذله إلى صديقه بالتمام والكمال لم ينقص منه قرش، فتجلى أمامه ذلك الوعد الإلهي بالعوض، ألم يكن ذلك الرجل على موعد مع السعادة؟ وذاك الذي كان على وشك أن يسقط في يد أعدائه وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه، وبينما كان الخنجر يوشك أن يغرس في صدره، إذا به يستفيق فجأة من حلم مزعج، ويكتشف أنه كان مجرد كابوس، فيحمد الله على نجاته باليقظة من ذلك الهلع، ألم يكن وقت نجاته من ذلك الكابوس على موعد مع السعادة؟ وماذا عن تلك اللحظة التي أخذت فيها بيد عجوز هرم، تمشي بصعوبة وتبدو ملامحها تحمل سنوات من التجاعيد، لتسير بها إلى الجهة الأخرى من الطريق؟ ثم ترى تلك الدعوات التي تتدفق منها، والتي تظل تشعرك بالدفء والسعادة، وكأن دعاءها درعٌ لك، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وكم هي السعادة حقيقية عندما يتمكن من الإصلاح بين زوجين كانا على شفير الفراق، فيكون سببًا في حماية ذلك البيت من الخراب؟ أو عندما يغمره الضحك على فكاهة بريئة تكاد تطيح به على ظهره من شدة السعادة؟ ألا يجد السعادة في تلك اللحظة الصغيرة عندما يقابل طفلة مبتسمة في الشارع، تملأ قلبه بالفرح بلا سبب آخر سوى ابتسامتها الطفولية؟ أليست كل هذه المشاهد مواعيد للمرء مع السعادة؟ السعادة تكمن في كل زاوية، في لمحة صغيرة، في حديث عابر، في ابتسامة، في دعوة، في لحظة طمأنينة، في إنجاز بسيط. نحن الذين نغفل عنها لأننا نبحث عنها في مكان بعيد، ولو أننا فهمنا أن السعادة ليست في ما نمتلكه من أشياء، بل في قدرتنا على الرضا، لتغيرت حياتنا. ليتنا ندرك أن السعادة ليست حلمًا بعيدًا أو حلمًا محجوزًا لمن يسعى للوصول إلى شيء معين، بل هي لحظات متجددة متغيرة متناوبة في كل يوم. السعادة موجودة في القلوب الراضية، وفي الأرواح الطاهرة، وفي الأبصار التي تلتقط جمال الحياة حتى في أصغر تفاصيلها، وما علينا سوى أن نرصد واقعنا بعين القناعة والتفاؤل، نتخلى قليلًا عن النظارة السوداء، فندرك أن مواعيد السعادة لا تنتهي.
642
| 14 ديسمبر 2025