رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في السادس والعشرين من أكتوبر لعام 2021م. افتتح حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى دور الانعقاد العادي الأول في أول فصل تشريعي لسلطة تشريعية منتخبة بواسطة الشعب، وذلك تجسيداً لمشاركة شعبية واسعة من أبناء الوطن في عملية التشريع، وذلك في عملية تحديث واسعة في مختلف المجالات التي تقوم بها الدولة.
موضوع حضور الجمهور لجلسات المجلس:
كبداية لأول اجتماع لمجلس الشورى المنتخب، وفي أول فصل تشريعي، طُرحت على الساحة تساؤلات من قبل البعض عن إمكانية حضور جمهور المواطنين لجلسات مجلس الشورى من عدمه، والآليات المتبعة في ذلك، وقد قامت الصحافة المحلية باستبيان مع عدد من القانونيين في هذا الشأن لتوضيح وجهات النظر القانونية.
- أعتقد أنه قد يكون هناك لبس قانوني أو عدم فهم للنصوص اللائحية والدستورية بشكل سليم وواضح لدى البعض الآخر، ولا أريد أن أتطرق لتكييف النصوص الدستورية فقد تطرق لموضوع التفسير والتكييف عدد من القانونيين في وسائل الإعلام المختلفة فيما يتعلق بقانونية حضور الجمهور لجلسات مجلس الشورى.
- وجهة نظري في ذلك:
1 ) من الناحية الشكلية والفنية:
من المعروف لدى شريحة كبيرة من المواطنين أن مجلس الشورى الحالي كان في الأصل مبنى تاريخيا عريقا وقديما تم بناؤه حوالي سنة ١٩٥٤م.
ومن ثم تم تحويله لأول مجلس شورى في دولة قطر وذلك عام ١٩٧٢ م، ليكون مقرا لمجلس كان عدد أعضائه في بداية عهده لا يتجاوز ٢٥ عضوا، وقد مرت السنوات الطويلة على هذا المبنى التاريخي بطرازه الخليجي في أدوار انعقاد سنوية متتالية وفصول تشريعية على مدى ٥٠ عاما، ومع زيادة متتابعة في عدد الأعضاء إلى أن وصل العدد إلى أكثر من ٤٠ عضوا في المجلس المعيّن السابق، وكانت مساحة القاعة بالكاد تتسع لهولاء الأعضاء.
وحيث إنه ومع بدء أولى جلسات أول مجلس شورى منتخب يتكون من ٤٥ عضوا، وبما أن قاعة المجلس في وقت قريب كانت تحتوي على ٤١ مقعدا فقط، وفي إطار الجهود المستمرة التي أعلن عنها المسؤولون في تطوير المبنى الحالي للمجلس بما يتناسب مع زيادة عدد أعضاء مجلس الشورى، ولإمكانية حضور الجمهور لجلسات المجلس الحالي طبقاً للقانون (والذي لا أريد أن أتطرق لتكييفه وتفسيره) والذي كما جاء في نص الدستور ونحن في انتظار تحديد ذلك النص وتفصيلاته وبيانه عبر اللائحة الداخلية لمجلس الشورى والتي لم تصدر وتُنشر إلى الآن، وسوف نتحدث عنه في مقالات منفردة لاحقاً بإذن الله تعالى.
بناءً على تصريحات المسؤولين تم تطوير قاعة المجلس الحالية عبر زيادة مقاعدها إلى ٤٥ مقعدا بدل ٤١ مقعدا لكي يتسع لعدد الأعضاء، بجانب إدخال بعض التحسينات الأخرى وذلك كما صرح به سابقاً بعض المسؤولين بالمجلس.
كما كشف النقاب عن مشروع لإنشاء قاعة جديدة لمجلس الشورى تتسع لـ ٥٠٠ شخص، بدلاً من القاعة الحالية للمجلس، أي أن القاعة سوف تصبح أكثر ملاءمة وسلاسة وسعة وإمكانية لحضور جمهور المواطنين لبعض جلسات المجلس الحالية وذلك حسبما تنص عليه وترتبه القوانين في هذا الشأن.
وكما صرح المصدر فإن المبنى الجديد يتكون من طابقين ومواقف تحت الأرض تتسع لعدد ٤٠٠ سيارة، ويتطلب إنجاز هذا المشروع سنة واحدة، وحقيقة إنجاز مثل هذا المبنى في ظرف سنة عمل يُشكر عليه القائمون على المشروع والمنفذون له، أعتقد أن التأني والتروي ومتابعة وسائل الإعلام وتصريحات المسؤولين مطلب مهم لكي يتسنى للفرد أن يبني حكمه ورأيه وسرده وعرضه وتناوله لمثل تلك المواضيع المختلفة، وهذا ليس في مجلس الشورى فقط، بل في مختلف نواحي الدولة ومؤسساتها، القضية هي بالفعل مطلب تشريعي ودستوري تحكمه وتحدده وترتبه النصوص في ذلك.
- أما من الناحية القانونية:
فإن المادة (٩٨) من الدستور القطري نصت على أن:
" تكون جلسات مجلس الشورى علنية، ويجوز عقدها سرية بناء على طلب ثلث أعضاء المجلس أو بناء على طلب من مجلس الوزراء".
وكما جاء بالمذكرة التفسيرية للنص الدستوري فإن المقصود بعلانية الجلسات هو كفالة حق المواطنين وأجهزة الإعلام في الحضور والمتابعة وليس القصد من ذلك هو إذاعة هذه الجلسات بواسطة أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، وذلك تحقيقاً لدواعي المصلحة العامة والتي تتعارض مع هذا البث بالنظر لأهمية وخطورة الموضوعات التي تُطرح على المجلس، إلا إذا وافق ثلثا أعضاء المجلس على بث بعض الجلسات.
إذاً الأصل هو أن جلسات مجلس الشورى علنية، للجمهور حضورها مع مراعاة الإجراءات التنظيمية التي يضعها مجلس الشورى نفسه لتنظيم عملية حضور الجمهور.
وهنا نقطة نظام مهمة:
من المعروف أن من يفصل وينظّم ويكيّف هذه الإجراءات هي اللائحة الداخلية لمجلس الشورى، وحيث إن اللائحة الداخلية لمجلس الشورى لم يتم إصدارها ومن ثم العمل بها إلى الآن.
وبما أن القانون رقم (6) لسنة 1979 م من اللائحة الداخلية لمجلس الشورى السابق لم يتناول بشيء من التفصيل حضور الجمهور لجلسات المجلس سوى في الفقرة (6) من المادة (10).
وحيث إنه لا يمكن أن يعوّل على القانون السابق لانتفاء الشق التنظيمي لوضع المجلس الحالي من عملية حضور الجمهور لجلسات المجلس.
وحيث إن الشق التنظيمي والتي تحدده اللائحة الداخلية لمجلس الشورى والتي لم تُصدر إلى الآن هو مطلب مهم وضروري وأساسي لعملية حضور الجمهور لجلسات مجلس الشورى لما يترتب عليه من نصوص تفصيلية مهمة في اللائحة من مناقشة وإدارة للحضور وطرق منع بعض من الجمهور، ومن هم المخولون بالجزاءات أو المنع، وعملية تدوين مضبطات الجلسات أو إذاعة قراراتها، ومن يملك سلطة القرار في المواضيع المتعلقة بجمهور الحضور، وما هي الآليات المتبعة في حضور الجمهور للجلسات العلنية ودخولهم للقاعة، والفئات المستهدفة، وتنظيم عملية الحضور، وشروط دخول الجلسات، وعدد الحضور، ومدة الحضور، والمحظور عمله من قبل الحضور، وبمن يؤتمر بأمره في حفظ النظام للجمهور الحاضرين، وعدد المرات التي يمكن أن يحضرها، ونظام العمل في الحضور، وغيرها من الأمور التنظيمية، كل ذلك يجب أن يحدد في اللائحة الداخلية للمجلس والقوانين المنظمة للائحة.
مستشار وخبير قانوني
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5058
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4452
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025