رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إبراهيم عبد المجيد

كاتب وروائي مصري

مساحة إعلانية

مقالات

399

إبراهيم عبد المجيد

مدرسة الحكم السرية!

14 نوفمبر 2024 , 03:00ص

مثلي تأخذه النوستالجيا كثيرا لأيام جميلة مضت، ليس بحكم العمر فقط لكن بحكم الحقيقة. وكما قال أحد رواد "تويتر" ذات مرة، إنه لو عادت مصر مائة عام إلى الخلف لصارت أفضل. تفاصيل ذلك كثيرة، لكني أحن إلى شخصين أحدهما خيال والثاني حقيقي، أما الخيال فهو عن أيام الشباب في سبعينيات القرن الماضي، حين كنت أعود ماشيا إلى بيتي في منطقة حدائق القبة، بعد السهر في ميدان الحسين، فأجد شخصا جالسا وحده في ميدان "عبده باشا" الخالي. كتبت وقتها متخيلا كيف فكرت أنه فقير، وتقدمت أعطيه شيئا من المال فرفض. سألته عن سر جلوسه هنا وحده دائما وسط الليل باكيا، فقال لي إنه التاريخ، ولم يعد أمامه إلا أن يبكي وحده بسبب ما لحق ويلحق به من إهانات، فكل قرار من الرئيس يعتبرونه قرارا تاريخيا وهو عادي جدا، وكل فيلم أو هدف في مباراة أو تصريح لمسؤول، وكلها أعمال عادية سينساها التاريخ. هم هكذا يحمّلونه ما لا يُحتمل. أحن إلى هذا الرجل وأتصوره لا يزال جالسا ولم ينته البكاء. أما الحقيقة فهي شاب كان معنا في أحد معسكرات منظمة الشباب عام 1968 بعد هزيمة يونيو 1967 وجاءنا باحث في علم الاجتماع يسألنا عن شعار كل منا في الحياة، لأنه يعد بحثا عن الجيل الجديد وأفكاره. قال كل منا شعاره ما بين الأمل والتفاؤل وغير ذلك، لكن ذلك الشاب قال إن شعاره هو "الخطأ"، سأله الباحث ماذا تعني، فقال إن الدولة ترفع شعار التجربة والخطأ، أي تقوم بالتجربة ثم تغيرها حين تشعر بالخطأ، وهكذا جاءت الهزيمة أمام إسرائيل، فلماذا يتعب نفسه بالتجريب ولا يذهب إلى الخطأ مباشرة؟ أتذكر ذلك الشاب، وأراه وهو يتحدث ونحن نضحك، وأنا أنظر حولي الآن لأرى كمية الأخطاء الكبيرة التي حدثت وتحدث في مصر، وانتهت إلى ما انتهينا إليه الآن. لم تجمعني الظروف بذلك الشاب رغم ما مضي من عمر، لكني لا أنساه. يبدو لي أنه قد أقام مدرسة في مكان ما لتعليم أصول الحكم. يقول لتلاميذه لا تجربوا في الحياة المصرية. اذهبوا إلى الخطأ مباشرة. وإذا سألكم أحد كيف ضاعت قيمة العملة المصرية فقولوا إن العيب في العملة فهي من ورق. وعن زيادة نسبة الجهل بسبب نقص المدارس، قولوا إن العيب في التلاميذ فهم لا يذهبون إلى المدارس، وهكذا حين يكون السؤال عن الزحام على المستشفيات بسبب نقص المستشفيات الجديدة، فالعيب في المرضى فهم يذهبون في يوم واحد. أما إذا سألكم أحد كيف يكون موقفكم محايدا في قضية فلسطين وغزة، التي كانت عبر التاريخ مجالا حيويا للحكم المصري، يحرص على وصايته أو حتي تأثيره عليها، فقولوا له المشكلة في فلسطين فهي التي اختارت أن تكون جوارنا. هكذا لن تعدموا الإجابات المقنعة عن أي شيء. المهم أنه إلى جوار ذلك تحدثوا كثيرا عن اهتمامكم الكبير بسعادة المواطن وإقامة حياة له بلا أعباء، فكثرة الحديث تجعل الأوهام حقائق، وإذا سألكم أحد لماذا لا تقرأون عشرات الحلول التي يقدمها مفكرون وكتّاب محترمون، قولوا له نحن الذين نحبكم، و"اللي إيده في المياه مش زي اللي إيده في النار" ونحن يدنا في النار من أجلكم.

أتذكر ذلك الشاب الذي أضحكنا شعاره يومها، لم أكن أعرف أنه سيقيم هذه المدرسة السرية في الحكم، وسيتفوق علينا جميعا، ويجعل الخيال الساخر حقيقة مؤلمة.

مساحة إعلانية