رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تحتفل تركيا هذه الأيام بمرور 8 سنوات على انتصار الشعب التركي على المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قامت بها منظمة فيتو الإرهابية (FETÖ)، * وهي ليست منظمة إرهابية فحسب، بل هي أيضًا منظمة تجسس «بصبغة دينية» بقيادة فتح الله غولن* في الخامس عشر من يوليو/تموز 2016، في محاولة منها للعودة بالدولة وشعبها إلى المربع الأول حيث عدم الاستقرار السياسي والأمني تحت الانقلابات العسكرية التي عانت منها البلاد عقوداً ممتدة، في ظل الممارسات التي تقوم بها هذه المنظمة تحت ستار الدين والتعليم.
كانت هذه المحاولة الغادرة تريد عزل تركيا عن محيطها الإقليمي وتحجيم دورها الكبير الذي تتطلع إليه الشعوب المظلومة، ومن ثم تعود دولة هامشية غير مؤثرة، ولم تكن خطة الانقلاب صناعة محلية فقط، فهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى تورط العديد من الأطراف الدولية فيها، لكن وقفة الشعب التركي البطولية في تلك الليلة أجهضت هذه المؤامرة وحافظت على الدولة ومقدراتها من الانهيار.
فالشعب التركي الأبي لم ينس نتائج الحكم العسكري، كما لم ينس الآلاف من ضحايا الانقلابات السابقة بين شهيد ومعتقل، فقرر ألا يسمح بتكرار تلك المأساة، وواجه مدرعات الانقلابيين بصدور عارية، ونجح في طردها من الأماكن التي استولت عليها، مدعوما بقوات الشرطة والقوات المسلحة التي رفضت الانحياز للانقلابيين، مع وجود قيادة حازمة واعية، قادت الشعب بعزم وثبات وكانت في قلب المواجهة.
إن هذه المحاولة الفاشلة التي سقط بسببها نحو 250 شهيدًا، واكثر من 2000 مصاب ممن قدموا أرواحهم ودماءهم دفاعاً عن الوطن، كشفت للجميع أنها لم تكن تستهدف فقط شخص الرئيس رجب طيب أردوغان أو أركان حكومته فحسب، بل كانت تستهدف الديمقراطية التركية بوجه عام، تلك الديمقراطية التي أصبحت نموذجًا ملهمُا للعديد من شعوب ودول المنطقة، وهو ما شهده العالم شرقه وغربه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تمت في مايو/ أيار 2023، وكذلك في الانتخابات البلدية التي تمت في مارس/ آذار 2024، والتي كانت مثالاً حياً على التنافسية والتعددية والنزاهة والشفافية، بدليل تأرجح النتائج بين لحظة ولحظة، ودليلاً على وعي الشعب وقدرته على الدفاع عن حريته وحرصه على التعبير عن رأيه، في تجربة تشهد أعلى نسبة مشاركة في العالم المعاصر.
ولولا صلابة النظام السياسي والاجتماعي التركي، ومن خلفه الشعب الواعي، ما استطاعت مؤسسات الدولة إدارة تداعيات كارثة الزلزال الذي شهدته البلاد في فبراير/ 2023، والتي نالت من أمن وأمان الملايين، لكن القيادة السياسية والمدنية الواعية، وتكاتف الشعب بكل فئاته ومكوناته، كان حائط صد قويا في مواجهة الكارثة، وقبل أن يمر العام الأول بعد الكارثة كان فخامة الرئيس في مناطق الزلزال يقوم بتسليم الأهالي، مساكنهم الجديدة، وما كان هذا ليحدث بهذه السرعة والكفاءة والفاعلية لو كانت المحاولة الانقلابية قد نجحت، ودمرت منجزات الدولة ومؤسساتها.
وعلى الرغم من التداعيات السلبية للمحاولة الانقلابية، وخروج مليارات الدولارات من البلاد، وتداعيات أزمة كورونا العالمية، وكارثة الزلزال، ها هو ذا الاقتصاد التركي يواصل نموه وتطوره بين أكبر 20 اقتصادًا على مستوى العالم، وتخرج تركيا من الدائرة الرمادية في التصنيفات الاقتصادية، ورفعت المؤسسات الدولية توقعاتها لمعدل النمو في تركيا خلال العام الجاري 2024، كما قفزت الصادرات التركية خلال العام 2023 لتصل إلى 260 مليار دولار.
وعادت تركيا لتشهد تدفقًا للسياح من كل بقاع العالم، حيث كانت وستظل وجهتهم المفضلة، وخاصة مع حرص القيادة التركية على التصدي للحالات الفردية التي تسعى لتشويه صورة البلاد وتستهدف ضرب علاقات تركيا مع إخوانها العرب، الذين تربطنا بهم علاقات الدين والتاريخ والمصير المشترك، وتكشف الأرقام الرسمية أن عدد السائحين الذين زاروا تركيا خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2024 نحو 18 مليون سائح.
وبجانب الدور الذي يقوم به قطاع السياحة في الاقتصاد التركي، مثّلت اكتشافات الغاز وبدء التشغيل، وربطه بشبكات التشغيل بارقة أمل في استقلال مصادر الطاقة وتنوعها، وتبشر الاستكشافات المستمرة بالمزيد من آبار الغاز الطبيعي الواعدة في البحر الأسود والبحر المتوسط.
وفي مجال الدفاع، تنامت الصناعات العسكرية التركية لتُؤَمِّن احتياجات البلاد، بل وتقتحم مجال التصدير، حتى أصبحت العديد من البلدان الحليفة والصديقة تسعى لامتلاك السلاح المُصنّع في تركيا، ولعل تنامي الطلب الدولي على الطائرات التركية المسيّرة (بيرقدار) أكبر شاهد على ذلك، كما تم إجراء تجارب الطيران الناجحة لمقاتلتنا الحربية الوطنية «كان « (KAAN)، التي ستدخل الخدمة في السنوات القادمة لتعزز من صقور قواتنا الجوية، كما انطلقت في سمائنا «كيزل ألما» (KIZIL ELMA) أول مسيرة نفاثة محلية الصنع، لتلحق قريبا بالمسيرات التي دخلت الخدمة فعليا في جيشنا «آقينجي» (AKINCI) و»آق صونغور» (AKSUNGUR)، كما دخلت إلى الخدمة أكبر قطعة حربية في أسطول قواتنا البحرية «تي سي جي أناضولو» (TCG Anadolu) كأول حاملة طائرات تركية محلية الصنع بتكنولوجيا فائقة التطور، وتنامت الصناعات العسكرية لتأمين احتياجات البلاد، مع التوسع الكبير في مجال التصدير.
كما شهدت تركيا في السنوات الثماني الماضية نهضة عمرانية كبيرة تخللها إطلاق العديد من المشروعات المهمة، منها اكتمال جسر تشاناكالي 1915 (Çanakkale Köprüsü 1915) كأطول جسر معلق في العالم، فوق مضيق الدردنيل، ونفق أوراسيا (Avrasya Tüneli) الذي يربط الجانبين الأوروبي والآسيوي لإسطنبول تحت مياه مضيق البوسفور، وبجانب الاهتمام بمشروعات البنية التحتية في قطاع النقل، كان الاهتمام بالصناعات التكنولوجية، وجاء تدشين أول سيارة كهربائية تركية الصنع (توغ - TOOG) نهاية العام 2023.
على الصعيد الدبلوماسي، عززت تركيا من دبلوماسيتها النشطة القائمة على أساس من الاحترام المتبادل، وإرساء مبدأ الحوار الثنائي، وتمد بلادنا يد المحبة والسلام لشعوب العالم وللحكومات والمؤسسات الدولية، حتى وصل عدد البعثات الدبلوماسية التركية في الخارج 261 بعثة، تتوزع بين 146 سفارة، و99 قنصلية عامة، و13 ممثلية دائمة، لتصبح تركيا بهذا العدد الضخم من البعثات خامس أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، مع إعطاء أولوية وأهمية كبيرة في العمل الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي للمنطقة العربية بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة، والتأكيد الدائم على أمن هذه المنطقة من أمن تركيا وإحدى الدوائر الأساسية لعمقها الاستراتيجي.
وفي إطار هذه الدبلوماسية النشطة تدعو تركيا دائمًا لتشكيل دعائم نظام عالمي جديد، ينهي الهيمنة ذات القطب الأوحد، «فقد قالها وكررها مراراّ فخامة الرئيس أردوغان: العالم أكبر من خمسة»، ويؤسس لعالم خال من بؤر الإرهاب وظلم الشعوب واحتلالها ونهب ثرواتها، وعززت تركيا هذه التوجهات باعتبارها ثاني أكبر دولة في العالم من حيث حجم المساعدات الإنسانية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
وتؤكد تركيا في علاقتها دائما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، والتأكيد على احترام قواعد القانون الدولي، لذلك جاء انضمام تركيا إلى الدعوى التي حركتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، حتى يكون للقانون القول الفصل فيما قامت به قوات الاحتلال من انتهاكات ضد الفلسطينيين وخاصة في قطاع غزة.
وتأكيداً على الدعم التركي الكامل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، لم تتوقف الجهود السياسية والدبلوماسية بقيادة فخامة الرئيس ووزير خارجيتنا، على مختلف المسارات ومع كل الأطراف، سعيًا نحو الوصول إلى وقف إطلاق النار والحل الدائم للقضية الفلسطينية.
وهنا تجدر الإشارة إلى التنسيق الكامل والدائم بين تركيا وقطر منذ اندلاع الأزمة، في جهود الوساطة وعمليات الإغاثة وتبادل الأسرى، وصولاً إلى ترتيبات إعادة الإعمار.
وبجانب الجهود الدبلوماسية، كانت تركيا أكبر دولة في العالم من حيث حجم المساعدات الإنسانية التي دخلت قطاع غزة، حيث بلغت نسبتها 32% من إجمالي هذه المساعدات.
عودة لذي بدء، ومع مرور 8 سنوات على هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، نستذكر شهداءنا الأبرار الذين ضحوا بحياتهم من أجل وطننا العزيز، وسطّروا بدمائهم الذكية طريقا لا نحيد عنه، في الدفاع عن أمن الوطن والمواطنين، والدفاع عن حريتهم وكرامتهما.
ونستذكر أيضاً بكل التقدير والعرفان، وقفة دولة قطر الشقيقة بقيادة صاحب السمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي كان أول زعيم عربي يتصل بفخامة الرئيس أردوغان، مؤكدا رفضه لمحاولة الانقلاب، ودعمه الكامل لتركيا، وهو الموقف الذي تبناه الشعب القطري الأصيل، وشعر به إخوانهم الأتراك الذين يكنون لدولة قطر وشعبها مكانة خاصة، تحمل كل التقدير والعرفان والمودة والاحترام.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
207
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
189
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
141
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6498
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3891
| 21 أكتوبر 2025