رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ما يخشاه المرء أن يتحول اليمن إلى معترك لصراع طائفي مذهبي ينطوي على شراسة تودي بالوطن والشعب إلى المهالك وربما التقسيم والفوضى. وهو ما بدت نذره مع سيطرة جماعات الحوثيين المنتمية للمذهب اليزيدي الشيعي على العاصمة صنعاء في الواحد والعشرين من سبتمبر الماضي في خطوة لم تعكس أفقا متسعا لدى قيادتهم والتي ابتهجت بالخطوة دون أن تتحسب لنتائجها سواء في المدى المنظور أو على الأمد البعيد. وفي مقابل هذه الخطوة المتسرعة بل والمتهورة. جاء رد الفعل من تنظيم القاعدة الذي يحسب نفسه مدافعا عن أهل السنة في اليمن. والذي توعد بالرد والعقاب وهو ما تجلى في سلسلة من التفجيرات الانتحارية التي قامت بها عناصره في أنحاء متفرقة. وكان أقواها يوم الخميس الفائت في وسط العاصمة- صنعاء- وفي مدينة حضرموت جنوبا مما أسفر عن مقتل أكثر من سبعين شخصا وإصابة العشرات.
ولاشك أن دخول اليمن هذا المنحى الطائفي المذهبي. ينطوي على مخاطر جمة. أبرزها مخاصمة الاستقرار الذي تتطلع إليه كافة القوى والشرائح الاجتماعية والسياسية. فضلا عن الإقليم ممثلا في منظومة مجلس التعاون الخليجي ثم المحيط القومي في المنطقة العربية. ناهيك عن العالم. ويبدو أن هؤلاء جميعا تركوا اليمن وحيدا يواجه مصيره بمنأى عن أي تدخل إلا من الأطراف صاحبة المصلحة في بقاء الأوضاع متأججة. والسؤال: هل اليمن أقل من العراق وسوريا في الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للأطراف الإقليمية والدولية التي سارعت في الانضمام إلى ما يسمى بالتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"؟ ربما.
إن المشهد اليمني بات كله خاضعا لهيمنة الجماعة الحوثية. فهي التي تسيطر على مؤسسات الدولة. وتتحكم في حركة الشارع وتقبل بمن تشاء وترفض من تشاء. وتهدد في حالة عدم الإذعان لتوجهاتها ومطالبها بالتصعيد وممارسة فنون الاحتجاج التي تجيدها بقوة. ولعل أنموذج رفضها للدكتور أحمد عوض بن مبارك مدير مكتب الرئيس هادى عبد ربه منصور رئيسا للحكومة الجديدة بعد أن تم التوافق عليه. بما في ذلك مستشارها للرئيس. والذي سحبته فيما بعد. يؤكد هذه الحقيقة في هذا المشهد البائس الذي ينبئ عن تراجع سافر للسلطة الشرعية في مقابل سلطة الأمر الواقع التي تمارسها هذه الجماعة. متكئة على غطرسة الشعور بالقوة. ويبدو أن هذه الجماعة لم تقرأ بتمعن في ملف تطورات شبيهة شاركت فيها بعض الأحزاب والتنظيمات في بلدان عربية فارتفعت قامتها مستندة إلى عنصر القوة فقط . بيد أنه سرعان ما انهارت الأوطان وغابت الدولة. فانطلق المجال للفوضى والخراب خاصة أن الحقائق التاريخية والجيو سياسية. تؤكد أن الاتكاء على مقوم القوة ليس كافيا لفرض التوجه والمواقف والسياسات والذي قد ينجح لفترة زمنية محدودة. ولكن ثمة مقومات أخرى أهمها الدخول في شراكة وطنية حقيقية مع القوى والمكونات الأخرى وبعيدا عن منطقة الإقصاء والإلغاء والتجاوز وتصفية الحسابات والتي تشكل الإطار الجامع الذي بوسعه أن ينقذ الوطن ويحقق الأمن للشعب.
إن أخطر ما نتج عن هيمنة الجماعة الحوثية على صنعاء يتمثل في تقديري فيما يلي:
أولا: خلخلة سلطة الرئيس الشرعي للبلاد وإظهاره بمظهر العاجز عن إدارة الدولة. خاصة أن الجماعة هي التي تقوم حاليا بمهام الشرطة والإشراف على الأنشطة الخدمية التي كانت تقدمها الدولة. وقد فوجئ سكان صنعاء قبل أيام بظهور عناصرها في الشارع. وهم يرتدون زي رجال الشرطة ويمارسون ضغوطا لضم عشرين ألف من عناصرهم في الجيش الوطني مما يدفع الأمور دفعا إلى المزيد من الاستقطاب المذهبي والطائفي. وقامت في هذا السياق بممارسات رمت من خلالها إلى إثبات تصدرها القوى للمعادلة السياسية والعسكرية والأمنية عبر سلسلة من الاقتحامات لمنازل كبار المسؤولين بالدولة ومؤسساتها. والأخطر هو التعامل مع الأسلحة والعتاد العسكري الثقيل بالذات التي حصلت عليها من المواقع والمعسكرات التابعة للجيش وقوات الأمن بحسبانها غنائم يحق لها نقلها إلى منطقة نفوذ الجماعة في صعدة.
ثانيا: إجهاض أهداف المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني والتي شهدت إجماعا من كافة القوى والمكونات - بمن فيهم الحوثيون أنفسهم - وذلك يعني بوضوح. أن الجماعة لم تعد تقبل بالإطار الوطني وتعمل على التحرك بمفردها في الساحة. الأمر الذي لن تقبل به قوى أخرى لها بعضها كان نافذا في المشهد السياسي مثل حزب التجمع للإصلاح اليمنى. والقوى الوطنية والليبرالية والناصرية والقومية. فضلا عن تنظيم القاعدة الذي رأى في التداعيات الناجمة عن السيطرة على صنعاء مجالا خصبا لاستعادة بعضا من شعبيته المهتزة ونفوذه المتناقص. فسارع بإعلان الحرب على الجماعة. بل وعلى من يعتقد أنه يميل إليهم سواء في مؤسسة الجيش أو الشرطة مثلما حدث بهجومه الانتحاري على معسكر للجيش في حضرموت قبل أيام وقتله ثلاثة من أفراده بحجة أنهم مؤيدون للحوثيين. وهو تفكير أهوج ينم عن عدم قدرة على الفرز ويؤكد الطابع الإرهابي للتنظيم.
ثالثا: إمكانية تحول اليمن إلى ساحة أكثر اضطرابا للصراع والفتنة الإقليمية -إن صح التعبير- خاصة بين دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية من ناحية وإيران من ناحية أخرى . فما جرى من سيطرة على صنعاء احتسب بشكل أو بآخر تقدما إقليميا إضافيا تحرزه طهران . وللأسف فإن بعض الدوائر الحاكمة فيها رأت في هذا التطور انتصارا جديدا لها وفقا لمقولة أحد نواب مجلس الشورى الإسلامي والذي اعتبر صنعاء رابع عاصمة عربية تلتحق بالعواصم التي باتت في قبضة إيران إضافة بغداد ودمشق وبيروت. وبالطبع لن تقبل المملكة ولا دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بهذا المنظور للمسألة. ولعل الموقف الذي أبداه وزراء خارجية دول المجلس في اجتماعهم الأخير في جدة يعبر بقوة عن ذلك فقد" أكدوا شجبهم الأعمال التي جرت في اليمن بقوة السلاح وإدانة واستنكار عمليات النهب والتسلط على مقدرات الشعب اليمني، وضرورة إعادة المقار والمؤسسات الرسمية كافة إلى الدولة اليمنية وتسليم الأسلحة كافة وكل ما جرى نهبه من عتاد عسكري وأموال عامة خاصة. وشددوا في الوقت نفسه على أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التدخلات الخارجية الفئوية، حيث إن أمن اليمن وأمن دول المجلس يعدان كلا لا يتجزأ، مبدين أملهم أن تتجاوز الجمهورية اليمنية هذه المرحلة بما يحفظ أمنها واستقرارها ويصون سيادتها واستقلالها ووحدتها، مؤكدين أن ما يهدد أمن اليمن وسلامة شعبه يهدد أمن المنطقة واستقرارها ومصالح شعوبها".
رابعا: وقد لا يكون ذلك بعيدا عن النتيجة السابقة. ويتمثل في محاولة تمدد الجماعة الحوثية إلى مناطق إستراتيجية في اليمن بعيدا عن العاصمة صنعاء وفي مقدمتها منطقة باب المندب لاعتبارات قد تكون ذات صلة بأهداف قوى إقليمية معينة تسعى لتحقيق مآربها في صراعها مع الغرب غير أن ذلك في حد ذاته قد ينطوي على مخاطر تهدد الأمن القومي العربي وبالتالي لن يقبل النظام الإقليمي العربي بسيطرة جماعة يمنية ذات أهداف طائفية ومذهبية بالسيطرة على هذا المضيق الإستراتيجي. فضلا عن أن القوى العالمية وفي صدارتها الولايات المتحدة وأوروبا لن تسمح بحدوث ذلك وهو ما يدخل المنطقة إلى وضعية صراع إقليميا إضافيا وربما دوليا سيدفع دون شك إلى المزيد من حالة الاستقرار والفوضى سواء في اليمن أو في المنطقة ككل.
ما الحل إذن؟
هو أن تبادر الجماعة بسحب عناصرها المسلحة من العاصمة صنعاء ومن المناطق الأخرى التي سيطرت عليها وأن تلتزم ببنود اتفاق السلم والشراكة الوطنية والذي رغم أنه وقع تحت قعقعة السلاح إلا أنه حظي بقبول وطني وإقليمي ودولي وأن تعيد ما نهبته واستحوذت عليه من سلاح ومعدات ومؤسسات إلى الدولة اليمنية وأن تقبل بالانخراط في عملية سياسية تقوم على المساواة بين كافة المكونات بعيدا عن الإقصاء واللجوء إلى القوة العسكرية تفضي إلى انتخابات جديدة تعيد بناء الدولة اليمنية على أسس المواطنة والقانون والعدالة وهي كلها أهداف نادي بها شباب اليمن في ثورته المجيدة في العام 2011 وذلك لتجنيب اليمن مخاطر الفوضى والانقسام الطائفي والمذهبي فضلا عن الجغرافي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
9021
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
6510
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
5649
| 14 أكتوبر 2025