رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد موفق زيدان

@ahmadmuaffaq

مساحة إعلانية

مقالات

1200

د. أحمد موفق زيدان

القيادة عند كيسنجر 3/3

12 نوفمبر 2024 , 02:00ص

في عام 2009 كنت في زيارة بحثية إلى سنغافورة، وبعد نهاية الزيارة كنت أجلس مع مدير مركز البحوث نتبادل أطراف الحديث، سألني هل كنت تود رؤية شيء في سنغافورة، ولم تتمكن منه، فقلت له كانت رغبتي أن ألتقي بباني نهضة سنغافورة الحديثة لي كوان يو، فحمْلق في وجهي ثم قال، لو طلبت مني ذلك قبل أيام لرتبت زيارة لك، لاسيما وهو صديقي، فزاد أسفي، وتذكرت قول الشاعر:

كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ

     والماء فوق رؤوسها محمول..

ثم استدرك صديقي بعد أن رأى أسفي وندمي، فقال لي: على كل حال لعل مذكراته التي دونها تكون تعويضاً عما أردته، وأهداني المذكرات، وبالفعل كانت تجربة ثرة غنية بالقصص والتجارب التي يمكن الاستفادة منها، لاسيما في عالمنا العربي، الذي يفتقر إلى هذه النوعية من الشخصيات الرؤيوية، تذكرت هذه وأنا أقرأ تجربة لي كوان يو في كتاب كيسنجر حين نقل عنه ما قاله لأساتذته الذين التقوه في جامعة هافارد ببريطانيا، يوم ذهب للدراسة فيها، سألوه ما هي أهدافه من الدارسة في جامعة هافارد؟ فأجاب: ( أهدافي ترمي إلى البحث عن أفكار جديدة تُثري العقول، والعودة إلى موطني مسلحاً بدفعة حماسية جديدة، تُحفزني على المضي قدماً نحو ما أسعى إلى تحقيقه).

وبالفعل ما كان يرمي إليه لي كوان يو، طبقه يوم عاد واستلم الحكم فحوّل تلك الجزيرة النائية إلى مفتاح مهم في المنطقة..كانت فلسفته قائمة كما يختصرها بنفسه: ( البحث عمّن واجهوا المشاكل، وطريقة تغلبهم عليها). كان يحض القيادة بشكل دائم على التحلي بـ: (القدرة على مقاومة الانجراف وراء المزاج اللحظي، مع القدرة أيضاً على تجاوز أحقاد الحاضر والماضي، والتفكير في طبيعة العالم الجديد الآتي)، للمشاركة في المستقبل القادم، ولعل هذا ما قصده الشاعر اللبناني سعيد عقل حين غنت له فيروز: أجمل التاريخ ما كان غدا...

ويستذكر كيسنجر هنا رؤية لي كوان يو تجاه الصين فيقول: ( النظام الشيوعي في الصين عاجز عن التدريب والتطوير).، ولعل هذا ما كان يقصده نابليون عندما نصح بدعوة الصين إلى أن تبقى نائمة، فإن استيقظت سيهتز العالم كما نقل عنه.

يُعرّج كيسنجر في كتابه الأروع على مارغريت ثاتشر وسياستها الرؤيوية فينعتها بـ: ( أنها من أبرز من مارس فن الحكم والإدارة ومهارات الإقناع، ولكن فإن أكثر ما ميّز ثاتشر ليس قدرتها على الابتكار والإبداع، وإنما القدرة على التنفيذ، والشجاعة السياسية تكمن في تهيئة الظروف للتنفيذ). هكذا يختصر كيسنجر رؤية ثاتشر في الحكم، وهنا يضيف للتدليل على استخلاصه تجربتها في الحكم فيقول إن من العادات الاستثنائية لثاتشر قراءة أوراق الإحاطة وتدوين الملاحظات حتى وقت متأخر، وعقد الندوات مع متخصصين وخبراء في الشأن الذي تبحث عنه.

ويقدم وزير الخارجية الأمريكي السابق المعروف في كتابه نصائح مهمة للحكم والسياسة قبل رحيله، كون هذا الكتاب هو آخر ما دوّنه قبل موته فيقول إن أخطر ما يواجهه المرء حين يظن أن أفضل الأيام قد ولّت، وأصبحت من الماضي، حينها سيُصاب بالإحباط، وسيفتقر إلى الدافعية والحافز والحماس في عمله، فيغدو أسيراً للهزيمة والضياع والخروج من اللعبة.

وحين يتحدث كيسنجر عن الأوضاع الاقتصادية المتردية وأسبابها وانعكاساتها لا ينسى أن يتحدث عمّا يتهدد المواطن العادي، وما يسببه ذلك من تداعيات وتأثيرات سياسية وهي آفة البطالة فيقول: ( التضخم أبو البطالة، إنه اللص الخفي الذي يسرق من المدخرين، ويفعل ما لم تفعله الجيوش الغازية). ويضيف على ذلك: ( عندما تصبح الحرية مهددة، لن تتحمل الديناميكية الاقتصادية طويلاً، وحين ُتفسخ الاتفاقيات تفسخ معها الثقة الاستراتيجية).

يستذكر كيسنجر الحربين العالميتين الأولى والثانية وهو الذي كتب وتحدث عنهما طويلاً، ليفاجئ قراءه بنظرته العميقة إليهما، والتي اهتدى إلى ذلك قبله البعض من المسلمين، ولكن لم تؤخذ نظرتهم على محمل الجد لاتهامهم بالتحيز فيقول: ( إن الحربين العالميتين الأولى والثانية، حروب أهلية أوربية) .وهو واقع فهي حروب بين الغرب، لا مصلحة ولا علاقة للعرب والمسلمين فيها، فكيف تم إقناعنا على أنها حروب عالمية، فحروبهم هي حروب لنا وعلينا، ولكن حروبنا لا علاقة لهم بها، هكذا دُرست وما تزال تدرس في مدارسنا وجامعاتنا على هذا الأساس.

وينقل كيسنجر نصيحة مهمه لنابليون بونابرت في كتابه لفهم شخصية ما، فيقول: (عليك أن تنظر إلى العالم الذي كان يعيشه حين كان في سن العشرين). ربما لأنه هو العالم الذي شكل نظرته ورؤيته لما سيؤمن به، ويتحرك من أجله.

قراءة المذكرات والتجارب مهمة جداً، خصوصاً إن كان قراء التجربة صاحب تجربة كمثل الذي كتب عنهم، وبالأخص إن كان صاحب قراءة هذه التجربة قد عاصر تلك الوجوه، عايشها عملياً وخبرها في لقاءات ونشاطات ومحادثات ومفاوضات، والأجمل أن يكون أيضاً صاحب تجربة معرفية، فكاتبنا درّس في جامعات هافارد وغيرها، ومارس معها أعلى سلطات الأمن القومي والخارجية لدولة عظمى بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، مما يزيد من أهمية كلامه عن تلك التجارب، خصوصاً، وأن تلك التجارب قد أُغلق نعشها بحسب تعبير المثل الصيني القائل: ( لا يُحكم على الإنسان إلى أن يُغلق نعشه).

مساحة إعلانية