رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
دمشق العروبة والإسلام تئن وتصرخ.. فأين نحن من إغاثتها ونجدتها؟!
ما يفعله المجرم الطاغية بشار الأسد في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان ما هو إلا مسلسل مستمر متكرر من مجازر ارتكبها ولا يزال يرتكبها طوال فترة حكمه وحكم والده الهالك حافظ الأسد الذي استباح دم شعبه وبالأخص من المسلمين الموحّدين من أهل السنة والجماعة ممن صبّ عليهم أنواع الظلم والقتل والتنكيل ولم يحفظ كرامتهم ولا دينهم بل أذاقهم أنواع العذاب وصنوف الجرائم، وما مجزرة مدينة حمص وحماة إلا صورة من صور جرائم هذا النظام القمعي الذي لا يخاف من الله ولا ينوي الكف عن جرائمه إلا بعد أن يزهق آلاف الأرواح وأن يمحو من طريقه كل من يحمل دين الله في فؤاده ويؤمن بالله ورسوله، وكأنه بذلك يضاهي اليهود في أعمالهم، فبالله عليكم هل رأيتم اليهود يقتلون ويتفننون في تعذيب المسلمين وأمام مرأى من العالم كما يفعل ويتباهى هذا النظام الجائر، بل إن اليهود يفعلون ذلك سرّاً لا جهراً، لأنهم يخافون من الإعلام ومن الناس، فما بالكم بهذا النظام الذي لا يخاف الناس ولا رب الناس، فما الفرق بينه وبين اليهود الذي يزعم أنه يقف في وجه كيانهم الصهيوني منذ سنين ولكنه "كلام فارغ" حيث كنا نحسب مواقفه "رجولية" فإذا بها لا تمت إلى الرجولة وإلى الإنسانية بصلة، هذا النظام السوري البعثي القومي العلماني الذي يؤمن بالبعث إلهاً من دون الله حتى قال شاعرهم: (آمنت بالبعث رباً لا شريك له .. وبالعروبة ديناً ما لــه ثان) هذا النظام الدموي الفاشي الكاره للدين والإسلام منذ نشأته يزعم منذ سنين بأنه معاد لإسرائيل وما هو إلا كلام فارغ من طبل أجوف كتلك الطبول الجوفاء في حزب الله اللبناني التي تدندن بمحاربة إسرائيل في العلن بينما هم في مسالمة مع إسرائيل ومصالحة معها، حيث يظهر للعالم بأنهم سيرغمون أنف إسرائيل وسيقتلعون عينها وسيُخرسون لسانها ولكنهم يوم الزحف يفرّون كالجبناء ويولّون الدبر كالمنافقين تماماً، وما احتلال هضبة الجولان في خلال ساعات من قبل إسرائيل واقتحام الطائرات الإسرائيلية أجواء سوريا ولبنان في كل وقت وحين إلى يومنا الحالي إلا جزء يسير من تلك الزعامات الوهمية التي " تتشطر" على أعدائها بالصوت فقط، ولكنهم مع شعوبهم يفعلون الأفاعيل ويرتكبون المجازر تلو المجازر، وأعجب من ذلك السكوت المطبق من الدول العربية التي لم نستفد من تجمعها في القمم العربية إلا بمزيد من استنكارها وشجبها على أعدائها الخارجيين بينما كانت تتستر على أفعال مجرمي الحروب كحافظ الأسد عندما ارتكب مجزرة حماة والقذافي عندما ارتكب مجزرة أبو سليم وغيرهما من المجرمين الذين كنا نحسبهم رؤساء فإذا بهم قتلة وما مجازرهم تلك إلا مثال واحد من أمثلة عدة سكت عنها الحكام العرب وقتها وأداروا لها ظهورهم وكأن شيئاً لم يكن، ولم يكن للإعلام وقتها دور في نقل الحدث كما يحدث اليوم عندما ينقل الإعلام كل حادثة قتل أو تعذيب، فلا مجال للكذب على الشعوب أو العالم أو إخفاء معالم الجريمة، ولكن النظام السوري الآن كما الليبي أفاق من غفوته يحسب أنه سيمارس نفس الكذب الذي عهده في عهد والده الطاغية، ولكن نظاماً دموياً كهذا لا يستحي ولا يرتدع إلا بالقوة، فها هي تركيا تخبر بأنها سترسل برسالة حازمة لسوريا تستنكر تلك الاعتداءات والانتهاكات والقتل التعذيب للشعب السوري، فإذا بالحكومة السورية ترد بلسان وزير خارجيتها بأن الرسالة التركية ستواجه برد أكثر حزماً!!، ولا عجب أن يتغطرس وأن يستبد ويستكبر هذا المجرم في طغيانه أكثر كما قال فرعون "أنا ربكم الأعلى".
وإذا كنا لا نعجب من النظام السوري وهو يشيح عن وجهه القبيح فإننا لا نعجب كذلك من أن تسانده إيران وتدعمه بكل قوة وكذلك حزب الله اللبناني ليشكلا في النهاية جناحين لنظام دموي يريد إبادة شعبه وطمس معالم الدين والهوية الإسلامية في جزء من الأمة العربية والإسلامية، وليشكلا كذلك جسراً يعبر من طهران إلى بغداد إلى دمشق إلى بيروت، يمتد لا ليطوّق إسرائيل ويستهدف الكيان الصهيوني المحتل وإنما له أيديولوجيته الخاصة وله مخططاته الخفية وله مساعيه الواضحة في تصدير الثورة "الخمينية" وإبادة كل من يقف في طريقها متمسكاً بدينه غير مشرك بالله كما يفعلون، ولعلي في هذا السياق أذكر موقفين فقط من سلسلة تلك المخططات الإبادية المستهدفة، الموقف الأول في العراق: عندما فضح الله جرائم نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي عندما فضحته مجموعة من وثائق ويكيليكس بأنه أعطى تعليماته المباشرة للقوات الأمريكية بأن يطلق النار على مدنيين عراقيين "عزّل" من أهل السنة والجماعة حتى بلغ عدد القتلى المئات بل الآلاف في فترة رئاسته فقط ناهيك عمّا خفي قبل ذلك، في دليل واضح على أحقاده الدفينة تجاه الشعب العراقي المسلم وفي إشارة كذلك لتلقيه أوامره من طهران حيث مركز القيادة لهذا المخطط السرطاني الخبيث، الموقف الثاني في لبنان: عندما فضح الله جرائم حزب الله وقت العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان، حيث أفاد شهود عيان قطريون ممن ساهموا في إعادة إعمار جنوب لبنان أو غيرهم ممن شهدوا بذلك حيث عمد حزب الله على إطلاق قذائفهم من مدن وقرى لأهل السنة والجماعة في لبنان حتى يعاود الكيان الإسرائيلي استهدافها وتوجيه قنابله وصواريخه تجاه إخواننا في لبنان مما جعلهم ضحايا وقتلى لعدو ظاهر هو الكيان الإسرائيلي ولعدو منافق خفي يبطن خلاف ما يظهر، يظهر الوطنية للبنان ويبطن الولاء لإيران، ويظهر العداء لإسرائيل ويبطن العداء للأمة العربية والإسلامية.
إن دمشق العروبة والإسلام ومدينة الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز تئن وتصرخ فأين نحن من إغاثتها ونجدتها، إن ديار شيخ الإسلام ابن تيمية تشكو من قتل المسلمين وتعذيبهم هناك، إن أرض الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي تشكو من قلة أدب هذا النظام الوحشي مع شعبه العربي الأصيل الكريم، فبعد أن كنا نفطر في رمضان منذ سنوات على مواعظ الشيخ والأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - من بلاد الشام الحبيبة في برنامجه الشهير "على مائدة الإفطار" أصبحنا نفطر في رمضان اليوم "على جرائم بشار"، فاللهم عجّل بأخذه ومن عاونه ومن ناصره أخذ عزيز مقتدر وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وطهّر أرض الشام ومن حولها التي باركت فيها من رجس أعداء الإسلام الظاهرين كاليهود والصليبيين وأعداء الإسلام من المنافقين الخائنين لله ولرسوله.. اللهم آمين.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6540
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6411
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3906
| 21 أكتوبر 2025